المعارضة السورية: مهمّات ملحّة وجهود لم تكتمل/ عبدالباسط سيدا
يحتاج المرء بعد مرور ثلاث سنوات، وأشهر عدة، على انطلاقة الثورة السورية، إلى صيغة من صيغ المراجعة النقدية، يعاين بها المرحلة المنصرمة بجوانبها الإيجابية والسلبية، وذلك من أجل تعزيز الإيجابيات وترسيخها، وتجاوز السلبيات ومعالجة آثارها، بخاصة أن هذه الأخيرة قد تراكمت مع الوقت، وباتت تلقي بظلالها على المشهد برمته.
مع ظهور المجلس الوطني السوري في 2-10-2011 كأول ائتلاف وطني، يضم القوى السياسية والثورية والمجتمعية من مختلف المكونات السورية، كان هناك تحرّك مكثف نحو مراكز الفعل والقرار الإقليمية منها والدولية، وذلك بقصد شرح بواعث الثورة وأهدافها، وأبعادها ومضامينها. وقد كانت النتائج مشجعة واعدة. ولكننا أخفقنا في متابعتها والبناء عليها. كما أن التعامل مع وسائل الإعلام العربية والدولية – على رغم الثغرات الكثيرة – كان نشطاً ومؤثراً، ولكنه لم يصل إلى المستوى المطلوب، بخاصة من جهة التعامل مع الإعلام الغربي.
وفي الوقت ذاته، تواصلنا مع العديد من الجاليات السورية في مختلف أنحاء العالم، ولكننا لم نتمكن من إيجاد الأطر التنظيمية والآليات، التي كان من شأنها تمكيننا من استثمار الطاقات والخبرات الكثيرة المتميزة التي تمتلكها جالياتنا، وذلك في ميدان التعامل مع الرأي العام العالمي، ومنه العربي، وذلك سواء من جهة البرلمانات، والحكومات، والأحزاب، ومنظمات المجتمع المدني، والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان وقضايا الإغاثة والصحة وغيرها؛ أم من جهة التواصل مع وسائل الإعلام بأشكالها ومستوياتها المختلفة.
ومن جانب آخر، كان هناك حرص على توثيق العلاقات مع الأهل في المخيمات، وذلك على رغم ضعف الإمكانيات. وقد كانت لنا زيارات إلى معظمها، وشجعنا الجهود التعليمية في العديد منها، وقدمنا بعض المساعدات المحدودة. وما وصلنا من انطباعات الأهل في المخيمات التي زرناها كان إيجابياً. ولكننا مرة أخرى لم نتمكن من بناء الأطر والآليات التي كان من شأنها تنظيم علاقتنا مع المخيمات، وتطويرها، وذلك من خلال اعتمادها قناة أساسية من قنوات التواصل مع الداخل، أو بناء علاقة تفاعلية مستمرة معها عبر عقد لقاءات حوارية، يتم بفضلها تبادل المعلومات والأفكار والخبرات التي من شأنها إزالة اللبس، وتعزيز الثقة، وبلورة معالم مقترحات وتوصيات واقعية لمصلحة الثورة.
أما على صعيد العلاقة مع الشباب في الداخل الوطني فقد كانت متميّزة في البداية، وتجسّد ذلك من خلال مستوى وحجم تمثيلهم في المجلس، وعبر تقديم دعم مادي لهم خُصص للمجالات التنظيمية والإعلامية وحتى الإغاثية. وكانت النتائج مفيدة وملموسة. غير أن عدم المتابعة والتدقيق من جانبنا، ودخول الطفيليين على الخط، وانتقال مركز الثقل إلى العمل المسلح بعد عسكرة الثورة، كل ذلك أدى إلى تبعثر الجهود وتشتتها، ومن ثم بروز حالة من الجمود والفتور، اكتسبت لاحقاً طابع العتاب، إن لم نقل الافتراق.
أما إذا تناولنا طبيعة العلاقة مع القوى الميدانية، فلا بد أن نشير إلى الجهود المكثفة التي بذلناها بخصوص بناء علاقة حقيقية معها، والغاية من ذلك كانت مسألة توحيد المرجعية، والتزام القيادة العسكرية الميدانية بما تتخذه القيادة السياسية من قرارات. ولكننا لم نتمكن لأسباب عديدة، منها ضعف الإمكانات، من الوصول إلى المنشود. ومع اتساع نطاق عسكرة الثورة، فقدنا الزمام إلى حد كبير، وضعف التواصل بين السياسي والعسكري، حتى غدا “خلبياً” في الكثير من الأحيان، إذا جاز لنا استخدام هذا المصطلح العسكري.
وما عقّد الوضعية أكثر دخول بعض الهواة والمتسلقين على الخط، وتعاملهم بعقلية المتعهدين مع أهم وأخطر موضوع. والأمر اللافت أكثر من غيره في ما يتصل بالموضوع الميداني، اننا أهملنا بصورة شبه تامة مسألة التوعية السياسية والفكرية، وحتى الحقوقية والمجتمعية، الخاصة بالمقاتلين والعاملين في الميدان على وجه العموم، الأمر الذي ترك فراغاً كبيراً، لا سيما في ظروف الحرب القاسية، وما تولّده من مشاعر وحالات نفسية لا تدع المجال أمام صاحبها للتركيز، ومن ثم التفكير بصورة صحيحة، وهو فراغ استغلته القوى المتشددة بأسمائها ومشاريعها المختلفة.
ويبقى ميدان مهم جداً، تعرّض لإهمال غير مسوّغ، وهو أمر نعاني – وسنعاني- من آثاره السلبية راهناً ومستقبلاً. فتعامُلنا كسياسيين مع ميدان المفكرين والإعلاميين والفنانيين كان ضعيفاً وخجولاً، وهو ما أدّى إلى تشكّل علاقة توجسية امتعاضية – إذا صح التعبير- في هذا الميدان، علاقة تمثّلت حصيلتها في انشغال السياسي بأمور وهموم الأعمال اليومية الروتينية، وانكفاء المفكرين والإعلاميين والفنانين على أنفسهم، واقتصار جهودهم على مشاريع فردية، أو جماعية محدودة الإمكانيات. أو اكتفاء بعضهم بوجهات نظر نقدية، محقة في معظمها، تستهدف من باتوا – بناء على مقدمات لسنا بصدد البحث فيها هنا – في قيادة الثورة؛ وكان مؤدى ذلك كله تبعثر الطاقات، وتشتتها، عوضاً عن جمعها، وتركيزها، وذلك في سبيل تقديم جهود فكرية وإعلامية وفنية متميّزة، ترتقي إلى مستوى تضحيات شعبنا وتطلعاته. جهود كانت، وما زالت، وستظل، ضرورية على مختلف المستويات، لتتمكّن من بلورة معالم أفكار الثورة وقيمها، وتجسيدها، بل وتخليدها في أعمال فنية متميّزة، تنمّي الجانب الوجداني والأخلاقي لدى أطفالنا وشبابنا، وتعيد إليهم الأمل والثقة بالمستقبل. ومن دون جهود كهذه تؤكد أن النظام القادم بعد نجاح الثورة سيكون متفوقاً فكرياً وأخلاقياً وجمالياً على النظام القديم، فإننا سنعيش خواء تستغلّه قوى الظلم والظلام.
إن الوضعية التي تعيشها المعارضة السورية اليوم، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية تحديداً، هي وضعية صعبة ومعقدة بكل المقاييس، وذلك نتيجة تشابك جملة عوامل، وتفاعل المعادلات الإقليمية من التوجهات والمصالح الدولية؛ ولكن العامل الذاتي يبقى الحجر الأساس لتحديد ملامح الثورة السورية. ولن يأخذ هذا العامل دوره ومكانه الطبيعيين ما لم نتجاوز السلبيات المأتي على ذكر بعضها. الإمكانيات والطاقات المطلوبة لإنجاز ذلك موجودة، ولكن شرط أن تتوافر الإرادة والعقلية النوعية التي من شأنها استيعاب المطلوب بتفرعاته وتشعباته، عقلية تقطع مع نزعات التفرّد، وجهود إبراز الذات الفردية أو الشللية، أو الحزبوية، وتؤكد أن المشروع الوطني السوري الذي يكون بالجميع وللجميع، يستوعب الجميع.
* الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري
الحياة