صفحات سوريةعبدالناصر العايد

المعارضة السورية ورحلة العودة إلى «الأرض»

عبدالناصر العايد *

لو أن المعارضة السياسية السورية، كانت مبدعة، وديناميكية، وحرة من الداخل بما يكفي، لحسمت أمرها في هذه الأيام، واتخذت قراراً تاريخياً بالعودة إلى الداخل، والاندماج مع قوى الثورة، والتفاوض مع النظام وداعميه الإقليميين والدوليين، ومع داعمي الثورة السورية ذاتها، من ذلك الموقع العالي، بدل مساومة النظام، أو استجداء دعم هذه القوة أو تلك.

إن من يتابع أحداث الثورة السورية عن كثب، سيلاحظ أنها اليوم تكتنف سياقين اثنين، تجري أحداث الأول في الداخل، وعناوينه العريضة: العمل العسكري ضد قوات النظام، والتقدم التدريجي وفق استراتيجية عفوية، شائعة في حروب التحرير الشعبية، هي البؤر المتعددة، والقضم المتوالي لقوى الخصم حتى انهيارها كما «الباب المنخور»، وفق النظرية الشهيرة لماوتسي تونغ.

وينشط الثاني سياسياً خارج البلاد، وعناوينه عجز عن اختراق الجدار الذي فرضته إيران وروسيا لحماية النظام دولياً، والإحباط من موقف الدول الإقليمية والدولية الداعمة للثورة، والذي أقل ما يقال فيه، إنه دعم محدود، يبقي على رمقها، لكنه لا يكفي لإنجاز الحسم المأمول.

لقد أصبحت فاعلية ممثلي الثورة السياسيين في أدنى مستوياتها، بعد أن تباعدت الشقَّة كثيراً بينها وبين قوى الداخل. فمعارضة الخارج لم تصبح فقط ذات تأثير محدود جداً في قوى الداخل، بل إنها لم تعد تعرف فعلياً ما يجري هناك، وهو ما وجدته القوى الداعمة، سبباً وذريعة لإهمالها، والبحث بين قوى الداخل عمن تضع يدها بيده، أو لنفض تلك اليد، من القضية السورية برمتها.

هذا في الوقت الذي تتفاقم فيه مشكلات الداخل بسبب غياب القيادة والرؤية السياسية عن الميدان الثوري، فلا صوت هناك سوى صوت السلاح، وتتأزم أحوال السكان المدنيين، الذين عدموا أي وسيلة أو أداة، لإدارة مناطقهم وخدماتهم بطريقة مناسبة، بخاصة في المناطق المحررة، التي يعيش فيها نحو عشرة ملايين سوري، يشكلون الحاضنة الاجتماعية للثورة، ويؤدي تردى أوضاعهم إلى انخفاض مناعة الثورة عموماً في شكل كبير.

إن عودة الساسة وحضورهم بين المقاتلين، سيضع حداً للمعضلة الأخلاقية التي يروج لها النظام وبعض قوى الثورة، حول رفاهية السياسي وشقاء الثائر، وسيرفع وجود السياسيين تحت أعين أبناء الشعب، تهمة المتاجرة في دهاليز السياسة، وسيساهم حضورهم في عقلنة السلاح، وسيتولون بالتدريج أمور الخدمات والإدارة المدنية، مما سيحرر كتائب الثوار من هذا العبء الذي لا يدخل في صلب اختصاصه ومهامها، وسيجعلها أكثر تفرغاً وقدرةً على ملاحقة أهدافها العسكرية في إطار حرب التحرير الشعبية.

وفي الداخل أيضاً، ثمة فرصة لتلاقي قوى المعارضة وتوحدها، التي ستواجه خطراً واحداً، بينما تتفرق وتتوزع في الخارج، بتعدد مصادر الدعم وتفرق مصالح الداعمين.

وعلى الصعيد الخارجي، سيؤدي ذلك إلى استعادة السوريين زمام قضيتهم، بعد أن أصبحت كل مفاتيحها بأيدٍ خارجية، وسيعيد وجود القادة السياسيين على الأرض السورية، النظر إلى تلك الأرض، بعد أن فقد الحدث السوري، جاذبيته الإعلامية بفعل التكرار والاعتياد.

من الناحية الإجرائية، يبدو الوقت مناسباً جداً أيضاً، إذ يسيطر الجيش الحر على مساحات شاسعة من الأرض، ويبدو الشمال السوري بأسره، قاب قوسين او أدنى من التحرر التام، وصار لدى كتائب الجيش الحر ما يكفي من الخبرة والإمكانيات لتأمين السياسيين والدفاع عنهم، كما تتوافر كل شروط التواصل والاتصال مع العالم الخارجي عبر شبكات الانترنت والهواتف الفضائية، التي طوّرها الثوار كثيراً في السنتين الفائتتين، وبخاصة الإعلاميين منهم.

وبالطبع، ستكون لمثل هذه الخطوة مخاطرها ومحاذيرها، وأولها أن تتحول إلى عملية سطو سياسي على تضحيات الثوار، ومحاولة لتعويض الفشل في الخارج، وأيضاً، قد تصادف هذه الخطوة عدم ترحيب، وربما ممانعة من بعض قادة التشكيلات العسكرية، الذين سيعتبرون ذلك منافسة لهم في قطاعاتهم ومناطق نفوذهم، وبلا أدنى شك أيضاً، ستنظر القوى الإسلامية الجهادية، بعدم الرضا، لحضور النخبة السياسية، التي تعدُّ بغالبيتها من اليساريين والديموقراطيين، أو من تسمّيهم بـ «العلمانيين»، وتعتبرهم من بين خصومها، بوصفهم «الآخر» أيديولوجياً.

وأيضاً قد يترتب على مثل هذه الخطوة، تراجع في الدعم الخارجي للثورة، بخاصة إذا فسّرت القوى الإقليمية والدولية المرتبطة بها، خطوة من هذا النوع، على أنها نكران وتجاهل لإرادة تلك القوى ومصالحها، وستحاول الضغط على المعارضة السياسية للإبقاء عليها في حقل سيطرتها ونفوذها.

ويقع العبء الأكبر في حلّ هذه المعضلات على المعارضة السياسية وحدها، وهو اختبار عملي وجدي لمدى «سياسية» عناصرها، فالسياسي الذي لا يستطيع مدَّ جسور التواصل مع قوى الأمر الواقع، ويفشل في التكيف معها، ثم إعادة تكييفها بطريقة غير مباشرة، لا يستحق لقب أو صفة سياسي. وفي الحقيقة تزخر المعارضة السورية بمنتحلي هذه الصفة، من غير الموهوبين، وغير المؤهلين، لقيادة المجتمع أو تمثيله، وتتيح هذه المناسبة الفرصة لاختبارهم وغربلتهم، وصولاً إلى نخبة يعوّل عليها في التقدم بخطى واثقة إلى سدّة الحكم والسلطة، في مرحلة ما بعد سقوط النظام، على نحو ما جرى في البلاد قبيل حقبة الاستقلال الأول وأثناءها.

وفي مطلق الأحوال، وسواء كان هذا المقترح، بالعودة الى العمل من الداخل، بدل العمل مع الداخل، صائباً أو غير صائب، فإن الحاجة ملحّة جداً اليوم، لكسر جمود المعارضة السياسية السورية، وإلى تجاوز نفسها، على صعيد الرؤى والسياسات، وعلى صعيد الأفراد والهيئات، لمواكبة التحولات الدراماتيكية على أرض الواقع، التي لا يبدو أن أحداً يلاحظها بجدية.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى