حازم نهارصفحات مميزة

المعارضة السوريّة وضعف المبدئيّة السياسيّة/ د. حازم نهار

(1)

تسعى معظم شخصيات وأطراف المعارضة السياسيّة السوريّة إلى إظهار نفسها دائمًا على أنها متمسكة وملتزمة بمجموعة من المبادئ والثوابت التي لا محيد عنها، في محاولة لنقد أطراف أخرى في المعارضة لا تتحلى بهذه الصفة بحسب ما ترى، وبالتالي تميِّز نفسها مقارنةً بها.

في الحقيقة لا يوجد التزام واضح بمبادئ أو ثوابت محدّدة لدى أي طرفٍ سياسيٍّ معارضٍ، وقد يكون هذا مستغربًا في ظل الضجيج العالي اليوم حول الالتزام بالمبادئ والثوابت الوطنية والمصالح العليا للشعب السوريّ والتحدث باسمها. وهذا الإقرار منا بهذه الحقيقة لا علاقة له بالطبع بالتوصيفات الشائعة حول الوطنيّة والعمالة والخيانة في الثقافة السياسيّة السائدة. لكن من المهم التنويه هنا أننا نتحدث في مقاربتنا هذه عن المعارضة السياسيّة المنظمة، أي عن قوى وشخصيات سياسيّة، وليس عن المعارضة الشعبيّة الواسعة التي ظهرت خلال الثورة السوريّة.

في اعتقادي هناك أسباب عديدة لحالة الالتزام غير الواضح بجملة من المبادئ والثوابت، أهمها أن معظم شخصيات القوى السياسيّة المعارضة التي ظهرت على السطح وذاع صيتها، وتعرّف إليها السوريون خلال السنوات الثلاث الماضية، تفتقر إلى الفكر السياسيّ المطعّم بتجربة سياسيّة واقعيّة، فهي في معظمها نشأت في أحزاب عقائديّة أيديولوجيّة مارست العمل السياسيّ السري خلال فترة طويلة قبل الثورة، إلى جانب بعض الشخصيات الجديدة بالطبع التي برزت بعد الثورة، ولم يكن لديها أي عهد بممارسة العمل السياسيّ في أي مرحلة، وهذا يعني افتقار أغلبيّة القوى المعارضة وشخصيّاتها بوضوح إلى منهجٍ حديثٍ ومتماسكٍ في التفكير، يضمن تماسك المقدمات والأهداف مع المواقف السياسيّة والخطاب الإعلاميّ، إلى جانب قلة معرفتها وخبرتها بتقنيات العمل السياسيّ، وهذا ناجم بالتأكيد في جزء منه من النظام المستبد الذي حرمها من أن تعيش تجربة سياسيّة حقيقيّة وحية طوال عقودٍ من الزمن.

ربما يردّ كثيرٌ من المعارضين السوريين على الكلام السابق بأنهم مطلعون ومتابعون وقارئون، وهذا صحيحٌ ظاهريًا، فقراءاتهم تلك كانت موجّهة في اتجاهات أيديولوجيّة مغلقة، أو في اتجاهات لا علاقة لها بالفكر السياسيّ أو مناهج التفكير. فقد ترى أحدهم يحفظ عن ظهر قلب عدد العمال الذين شاركوا في بناء السد العالي في مصر، وعدد الزيارات التي قام بها عبد الناصر إلى يوغسلافية السابقة، وبعض التبريرات السطحيّة لهزيمة عام 1967، كما قد تسمع من أحدهم اطلاعًا واسعًا على حياة لينين في المنفى، أو على نشاطات الشبيبة السوفياتيّة في عهود مضت، أو على أدوار الكولخوزات والسوفخوزات في الاقتصاد الروسيّ. كذلك قد تجد أحدهم عارفًا بأحكام التجويد في القرآن ولديه اطلاع واسع على مبطلات الوضوء أو على الخصال التي يتمتع بها الخليفة الفاروق أو على نسب الرسول العربيّ.. وهكذا.

هذا الاطلاع يصب في إطار المعلومات أو الأيديولوجية وليس الفكر، وبعض هذه المعلومات مفيد وأغلبه لا يحتوي أي قيمة فكرية أو سياسيّة، ولا يمكن له أن يصب في تكوين منهجٍ متماسكٍ وواضحٍ في التفكير، الأمر الذي يعيق ويمنع بالتالي تشكل مبدئيّة سياسيّة واضحة أو مقاربة محدّدة لجملة من الحوادث السياسيّة. إنها في أحسن الأحوال تماماً كالمعلومات المتفرقة التي يتم إدخالها بشكل عشوائيّ إلى أي حاسوب، ولا يمكن الاستفادة منها من دون معالجةٍ أو منهجٍ واضحٍ في التفكير يسمح باستكشاف القوانين الناظمة لحركة البشر والأشياء. إن تكوين منهج متماسك ومفيد في التعاطي مع الواقع السياسيّ المتغيّر يحتاج إلى قراءاتٍ من نوعٍ آخر ويتطلب التفكير خارج الصندوق الأيديولوجيّ وشعاراته، وهذه كلها تحتاج من جهةٍ إلى الوقت والجهد، ومن جهةٍ ثانيةٍ إلى الشجاعة في إعادة النظر بالبديهيّات الموروثة.

المعارضة الأيديولوجيّة لا تفكِّر إلا من داخل الصندوق الأيديولوجيّ وركام الشعارات الموروثة من عهودٍ مضت، ولذلك فإن الفكر والواقع العياني غائبان في حياتها، وهما جناحا أي عملٍ سياسيٍّ حقيقيٍّ. الفكر غير الأيديولوجية، الفكر يدرك العلاقة الجدلية مع الواقع المتغير، أي يرى الواقع بكل حيثياته وتفاصيله ثم يبني تصورًا استراتيجيًا وتكتيكيًا حوله، ويعيد النظر بمقولاته ومقارباته في ضوء تغيرات الواقع، بينما الأيديولوجية لا ترى الواقع وتغيراته، وتريد منه أن يسير على هواها وعلى إيقاع أوهامها عن نفسها وعن الآخر والواقع والعالم، ولذلك تظل تردد الشعارات المحفوظة من دون تعديل أو تغيير، ولا تسأل نفسها لماذا لا يستجيب الواقع لهذه الشعارات، وفي الحصيلة تضع المسؤوليّة على البشر، ولا تخفي آنذاك “احتقارها” لهم. جديرٌ بالذكر أنه إن كانت المعارضة الأيديولوجيّة لم تغادر بعد أوهامها الأيديولوجيّة، فإن المعارضة الجديدة، أي التي بدأت تتكون مع الثورة، لم تتعب نفسها بالقراءة والمتابعة، وظلت تقارب أمور الواقع وتتخذ قراراتها السياسية استنادًا إلى الشعور والمزاج والعواطف والانفعالات اللحظيّة.

السبب الآخر لضعف فرص المبدئيّة السياسيّة هو ضعف الأخلاقيّات السياسيّة، فلا يمكن مثلًا نكران وجود حالات شائعة من النفاق السياسيّ مهما حاول أصحابها إخفاءها، وهذه لها جذورٌ عديدةٌ. إذ إن العديد من المواقف والخيارات السياسيّة التي يحاول أصحابها الإيحاء أنها تصب في إطار المصلحة الوطنيّة قد يكمن جذرها الحقيقي مثلاً في الخوف الشخصيّ أو إلى أن القيِّم على المؤسسة السياسيّة أو الحزب السياسيّ هو فرد معروف بضعف الشخصيّة أو بالمواقف الهلاميّة، ليصبح بالتالي دور مريدي هذا الفرد محدّدًا في الترويج لمواقفه الهزيلة والدفاع عنها وتصديرها على أنها تنم عن عقلانيّة وحكمة سياسيّة. وقد تكون المصالح الشخصيّة المباشرة أو الحزبيّة أو النزعة النرجسيّة هي التي تقبع وراء موقفٍ سياسيٍّ معيّن، ومع ذلك يحاول أصحابه تصدير هذا الموقف على أنه تجسيدٌ عميقٌ للالتزام بالثوابت والمصلحة الوطنيّة.

قبل الثورة السوريّة كان يوجد في سورية معارضة سياسيّة ممثلة بالتجمع الوطنيّ الديمقراطيّ  الذي تأسس في عام 1979، وكان يضم مجموعةً من الأحزاب السياسيّة الصغيرة التي عملت في السرّ لفترة طويلة. وقد مرّ التجمع الوطنيّ بمحطاتٍ سياسيّةٍ عديدةٍ إلى أن تبعثرت قواه وشخصياته بعد انطلاق الثورة السوريّة التي لم تترك حجرًا على حجر، وقد ظهر وقتها أن وظيفته ومهامه قد انتهت، وأن اصطفافاتٍ سياسيّةً جديدةً على وشك أن تتبلور استنادًا إلى المعطيات الجديدة، وفي المركز منها الموقف السياسيّ من النظام والثورة.

كنت خلال العقد الأخير من عمر التجمع الوطني عضوًا في قيادته المركزيّة، إلى جانب كوني عضوًا في هيئة تحرير جريدته “الموقف الديمقراطيّ” الناطقة بلسان حال أحزابه الستة، وقد أتاح لي ذلك فرصة الاطلاع عن كثب على مواقف جميع أحزابه وشخوصه التي توزعت بعد الثورة ما بين إعلان دمشق وهيئة التنسيق الوطنيّة والمجلس الوطنيّ والائتلاف الوطنيّ لقوى المعارضة والثورة، إضافة إلى عددٍ من الشخصيات التي آثرت العمل بشكلٍ مستقلٍ.

معظم الخلافات التي عاشتها قوى المعارضة السياسيّة خلال الثورة السورية تعود في جذورها إلى الخلافات التي عاشتها في السابق داخل التجمع الوطني الديمقراطي، ويمكن القول أنه كان لدينا ثلاثة تيارات سياسيّة داخل التجمع الوطني تعايشت مع بعضها لسنواتٍ طويلةٍ قبل الثورة على الرغم من خلافاتها الحقيقيّة والجديّة. وإذا أردت مقارنة المواقف السابقة لتلك القوى والشخصيّات بمواقفها خلال فترة الثورة السوريّة بعد الاصطفافات الجديدة، أستطيع القول –وأنا مرتاح الضمير- أن معظم القوى والشخصيات لا تتوافر لديها صفة المبدئية السياسية التي يحاولون إيهام الناس بها، على أن هذا النقد “الجارح” لا يطال بالتأكيد مسألة الصدقيّة الشخصيّة بقدر ما يطال مستوى الوعي والتفكير والإدراك السياسيّ.

(2)

كان هناك لفترة طويلة قبل انطلاق الثورة السوريّة تيار سياسيّ داخل التجمع الوطنيّ يغني دائمًا الموال التالي:

أ- العداء لأميركا، إذ كيفما كانت السياسة الأميركيّة، وفي أي لحظة، نحن ضدها، وبالتالي علينا الوقوف مع جميع الدول الداخلة في عراك من أي نوع ومستوى مع أميركا، مهما كانت طبيعة هذه الدول، لذلك وقف هذا التيار في محطات عديدة مع إيران وكوريا الشماليّة وكوبا وفنزويلا، وتغنى بـ “ممانعتها” للسياسة الأميركيّة، كما كان على الدوام كارهًا لدول الخليج العربيّ وسياساتها كونها تنام في الحضن الأميركيّ.

ب- الوقوف ضد أي تسوية سياسيّة من أي نوعٍ ومستوى، وفي أي لحظة، مع إسرائيل، وتأييد مطلق لحزب الله وحركة حماس، فلا يمكن تحرير الأرض بغير السلاح، إلى جانب تأييد الدعم الإيرانيّ لهذه القوى.

ج- كان هذا التيار مؤيداً في العمق لجماعة 8 آذار في لبنان، أي حزب الله وميشيل عون، ولم تكن فكرة الدولة اللبنانيّة تعنيه إلا من جانبٍ شكليٍّ، فوجود حزب الله كحزب “مقاوم” كان أهم بالنسبة إليه من بناء الدولة اللبنانيّة التي لا يستقيم وجودها بداهة مع وجود حزب مسلح يشكل دولة داخل الدولة اللبنانيّة.

د- تجنب أي نقد لما يسمى “المقاومة”، حتى لو كانت قواها القائمة ضد الديمقراطيّة والمشروع الوطنيّ، وهو ما دفع قوى هذا التيار صراحة إلى الوقوف مع حزب الله مثلاً عندما قام باجتياح بيروت في أيار 2008، كمعظم أهل القوميّة العربيّة واليسار في العالم العربيّ.

ه- تجنّب نقد ما سمي آنذاك “المقاومة العراقيّة” التي تشكلت بعد الاحتلال الأميركيّ للعراق في عام 2003 كونها تقاوم قوات الاحتلال، على الرغم من أن مكوِّناتها الواضحة كانت عبارة عن جماعات قاعديّة متطرفة وبقايا بعثيّة مسلحة صداميّة الهوى.

يلاحظ أن جميع المواقف السابقة تستند إلى أيديولوجية قوميّة أو يساريّة تقليديّة لم تتعرض لأي تغييرٍ في منطلقاتها ومقارباتها منذ عقودٍ بالتزامن مع تغيرات الواقع السياسيّ، كما يلاحظ أيضًا أن أغلبيّة هذه المواقف تتعلق بالقضايا الخارجيّة المحيطة بسورية أكثر بكثير من ارتباطها بالواقع السوريّ والمشروع الوطنيّ الديمقراطيّ الخاص بسورية، على الرغم من إقرارنا بعلاقتها الوثيقة بالوضع السوري. ما نقصده هنا أن المشروع الوطني الديمقراطيّ في سورية لم يكن هو المنطلق والمستقر في مقاربة القضايا الخارجيّة، بل على العكس كانت المسائل الخارجيّة في تفكير قوى هذا التيار هي الأساس في التعاطي مع متطلبات المشروع الوطنيّ الديمقراطيّ.

استنادًا إلى المواقف السابقة، يمكن اليوم فهم الكثير من مواقف أحزاب وقوى وشخصيات هذا التيار منذ بداية الثورة السوريّة وحتى اللحظة، فبعض هذه المواقف تشكل استمراراً للمواقف والرؤى السابقة، وبعضها الآخر على النقيض منها بما يفقدها المبدئيّة السياسيّة التي يحاولون إيهام الناس بها.

في الحقيقة، لا تختلف جميع المواقف السابقة عن رؤية النظام السوريّ المعلنة تجاه القضايا المذكورة، مع أنه بالطبع كان يستثمر “المقاومات” و”الخطاب الممانع” كـ “عدّة نصب” من أجل الاستمرار والبقاء، وكغطاءٍ لعوراته في الداخل السوريّ. المدهش في الأمر أن هذا التيار كان على الدوام مركوبًا بهاجس إثبات وطنيّته في كل لحظة أمام النظام “الوطنيّ”، فما من بيان سياسيّ كان يصدر عن التجمع الوطنيّ الديمقراطيّ إلا وكان يُصرّ على تضمينه إشارة للعداء لأميركا وإسرائيل حتى لو كان هذا البيان يتحدث عن أمورٍ داخليّةٍ كقانون الطوارئ والحريّات والوضع الاقتصاديّ وغيرها.

على الرغم من أن هذه القوى تمتلك حساسيّة عالية إزاء مسألة التدخل الخارجيّ، وترفع دائمًا شعار “لا للتدخل الخارجيّ”، فإنها لم تتوجه بنقد واضح وصريح للنظام الإيرانيّ على سياساته الداعمة للنظام السوريّ عسكريًّا وأمنيًّا وماليًّا، بما يعني أن هذه الحساسيّة خاصة بالأميركان والغرب ودول الخليج فحسب، والمنطلق في ذلك هو رؤى قوميّة ويساريّة أيديولوجيّة محدّدة وتتقاطع في كثيرٍ منها مع رؤية البعث والنظام. لم تنتقد أو تعترض هذه القوى على إرسال إيران بعض قواتها العسكريّة إلى سورية أو على دفعها لحزب الله نحو المشاركة عسكريًّا ليمارس القتل والاعتقال إلى جانب جماعات النظام المسلحة، اللهم إلا من باب عام كطريقة للهروب من الموقف الصريح والمبدئيّ، على شاكلة “نطالب جميع القوى والجماعات الأجنبيّة بالخروج من سورية”، في حين كانت قوى هذا التيار تستسهل دائمًا توجيه الاتهام بقتل الشعب السوريّ إلى دول الخليج العربيّ، على اعتبار أن هذه الأخيرة تقدم السلاح لجماعات المعارضة.

كذلك، لم يتعرض حزب الله بشكلٍ مباشرٍ إلى أي نقدٍ من جانب قوى هذا التيار على مشاركة ميليشياته في قتل السوريّين ولا عن خطاب عناصره الطائفيّ والمذهبيّ، اللهم أيضًا إلا من بابٍ عامٍّ يتسم بلباقةٍ زائدةٍ عن اللزوم عبر مطالبة جميع الغرباء بالرحيل عن سورية، بل على العكس لقي سلوك حزب الله بالمشاركة في القتال إلى جانب النظام السوريّ “تفهمًا” من بعض شخصيّات هذا التيار.

ويُضاف إلى ذلك أن جميع المواقف الروسيّة في جميع المحطات كانت تقابل بالصمت أو حتى بتأييدٍ صريحٍ، على الرغم من وقاحتها واستهتارها بدماء السوريّين، لدرجة امتناعها عن أي إدانة للنظام السوري طوال ثلاث سنوات، وعلى الرغم أيضًا من الدعم الروسيّ الكبير والمفضوح للنظام ماليًّا وأمنيًّا وعسكريًّا. ويحلو لأصحاب هذا التيار توصيف مواقفهم تلك بأنها تنمُّ عن “حكمة” و”عقلانيّة سياسيّة” فيما هي في الحقيقة والجوهر تدلِّل على نمطٍ “انتهازيّ” في التفكير يحاول الحصول على “الموجوديّة” السياسيّة إزاء قوى معارضة أخرى من خلال الغطاء الروسيّ، وتجري تغطية هذه المواقف في بعض الأحيان وتبريرها بأيديولوجيّات قوميّة ويساريّة ماضويّة لا تزال تحن إلى ذكريات “روسيا الاشتراكيّة”.

لا يوجد إذًا موقف مبدئي من التدخل الخارجيّ، بل هناك موقف من التدخل الخارجيّ الذي لا ينسجم مع المرتكزات الأيديولوجيّة لقوى وأحزاب هذا التيار. فالتدخلات الروسيّة والإيرانيّة المباشرة التي تفقأ العين لم تلق أي نقد أو اعتراض حقيقي، في حين لا تقصر قوى هذا التيار في الهجوم على دول الخليج والولايات المتحدة الأميركيّة كما قلنا. هنا يصبح من غير المنطقي ادّعاء هذا التيار باستقلاليّة قراره عندما يقارن نفسه ببقية أطراف المعارضة متفاخرًا، فبالتأكيد لا روسيا ولا حزب الله ولا إيران من آل البيت السوريّ.

(3)

يحلو لهذا التيار توصيف نفسه بـ “التيار أو القطب الديمقراطيّ”، مع أن قياداته في معظمها تاريخيّة لم تتغيّر منذ عقود، ومؤتمرات قواه السياسيّة لم تتمخض عن مقارباتٍ سياسيّةٍ جديدةٍ في جميع محطاتها. كذلك، فإن معظم الدول التي شكلت قدوةً لهذا التيار في السابق، واليوم أيضاً، كروسيا وإيران وكوبا وكوريا الشماليّة، هي دول شموليّة لا علاقة لها بالديمقراطيّة، ومتهمة بممارسة الإرهاب ضد مجتمعاتها والمجتمعات الأخرى. لسان حال هذا التيار هو “لا مشكلة في الوقوف مع الشيطان” طالما أنه ضد أميركا، بما يعني أنه في العمق مع الإرهاب إن كان موجهًا ضدّ أميركا. مع ذلك لا يترك هذا التيار أي فرصةٍ لنقد أطراف معارضة أخرى يرى أنها تنام في الحضن الخليجيّ غير الديمقراطيّ، وهذا صحيح نسبيًّا، لكن غير الصحيح هو سياسة الكيل بمكيالين والنظر بعين واحدة. يضاف إلى ذلك أن هذه المقاربة لدول الخليج تتم عبر منظار أيديولوجيّ يعود تاريخه إلى فترة عبد الناصر من دون الأخذ بالاعتبار الواقع العيانيّ والتطورات التي حصلت في هذه الدول خلال أربعة عقود، إلى جانب أن الدول المسماة “الدول التقدميّة العربيّة”، أي سورية ومصر والعراق، كانت في الحقيقة هي الأسوأ من حيث الحريات والتجربة الديمقراطيّة والإنتاج الاقتصاديّ.

يظهر النفاق “الديمقراطيّ” و”السلميّ” لدى هذا التيار جليًّا أيضًا في وقوفه في السابق إلى جانب ما كان يسمى “المقاومة العراقيّة” وتجنّب نقدها، على الرغم من أنها كانت مؤلفة بوضوح من جماعات قاعديّة متطرفة وبقايا بعثيّة صداميّة مسلحة، وعلى الرغم من ممارستها الإرهابيّة، لمجرد أنها تربك الاحتلال الأميركيّ للعراق، وعندما كان يجد حرجًا إزاء فظاعة تلك الممارسات كان يهرب نحو صياغات عامة ملخصها أنه مع “المقاومة العراقيّة”، على الرغم من “إسلاميّتها” ومذهبيّتها وتطرّفها، وضد الإرهاب الذي تمارسه بعض جماعاتها في آنٍ معًا.

أما السلوك العنفيّ المسلح الذي قام به حزب الله باجتياحه لبيروت في أيار 2008 فلم يكن فيه غضاضة لدى هذا التيار “الديمقراطيّ” (التيار القوميّ العربيّ في معظمه وقف مع حزب الله آنذاك)، وجرى آنذاك وضع الديمقراطيّة التي ينادي بها هذا التيار على الرف لمصلحة انتصار “المقاومة” في معركة داخليّة!. كذلك كانت عمليات حماس الاستشهاديّة تجد الترحيب الدائم لدى هذا التيار وقواه حتى لو كانت تأتي من دون فوائد سياسيّة. فالمقاومة الموجودة (حزب الله، حماس، الجهاد الإسلاميّ) كانت ولا تزال مقدسة، ولا يجوز نقدها في عرف هذا التيار، على الرغم من خطاباتها وممارساتها السياسيّة غير الحكيمة والعقلانيّة في محطاتٍ كثيرةٍ، بل وممارساتها العنفيّة المسلحة في الداخل الوطني في بعض الأحيان، إضافةً إلى عدم مدنيّتها ولا ديمقراطيّتها وخطابها الطائفيّ والمذهبيّ في أحايين كثيرة.

“النصر الإلهيّ” المزعوم الذي حققه حزب الله في حرب 2006 ضد إسرائيل لقي تطبيلًا وتزميرًا كبيرين لدى هذا التيار، على الرغم من تدمير لبنان وبنيته التحتيّة وقتل ما يزيد على ألف لبناني آنذاك، مع أن غاية هذه المعركة التي افتتحها حزب الله كانت واضحة، وهي الهروب من الوضع الصعب آنذاك الذي كان فيه الحزب والنظام السوريّ بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. معنى ذلك أن هذا التيار يمكن أن يكون في لحظة ما مع تدمير البلد وتجاوز الدولة ووضع الديمقراطيّة على الرف طالما أن ذلك يجري في سبيل المعركة التاريخيّة مع إسرائيل، ومع ذلك يسمي نفسه اليوم بـ “الديمقراطيّ”، ويرفع شعاراته ضد العنف والتسلح والعسكرة، وفي الحقيقة إن جوهر جميع مواقفه هو “الخارج” وليس “الداخل” ومتطلباته، فيما القضية الديمقراطيّة ليست ذات شأن.

يمكن الاستنتاج –منطقيًّا وليس اتهامًا- استنادًا إلى تاريخيّة هذا التيار ومواقفه، أنه كان في محطات عديدة مع الطائفيّة والمذهبيّة وضد الديمقراطيّة وضد منطق الدولة ومركزيّتها في الحياة السياسيّة، ومع الممارسات العنفيّة والإرهابيّة، ولا مشكلة لديه في تدمير البلد، طالما أن ذلك كله يجري في سياق إطلاق رصاصة ضد إسرائيل. أليس مستغربًا إذًا أن يرفع هذا التيار نفسه منذ بداية الثورة السوريّة وحتى اليوم شعارات “لا للعنف”، “لا للتسلح والعسكرة”، “لا للطائفيّة”؟! أم أنه لكل مقام مقال؟! أو ربما يفترض بنا ألا نفكِّر بالمواقف المعلنة بل بالمصالح اللحظيّة والرؤى الذاتيّة والتنافسات الشخصيّة والأوهام الأيديولوجيّة.

موقف القوميّين العرب في هذا التيار (الناصريّون) من الأكراد والإسلام والعلمانيّة قبل الثورة ومقارنتها بمواقفهم اليوم ذات دلالة على عدم الصدقيّة أو على أقل تقدير على تغيّرات سياسيّة غير موثوقة. إذ لطالما كان يُنظر للأكراد بالعموم على أنهم “انفصاليّون وأنهم إسفين في خاصرة القوميّة العربيّة”، أما بالنسبة للعلمانيّة فكان القوميّون يرتعبون من هذه الكلمة وينكرونها مجاملةً أو خوفًا من الإسلاميّين والشارع الشعبيّ أو بحكم أن أيديولوجيّتهم القوميّة لم تنبنِ على أرضيّة فكريّة حديثة بل على رؤية مشوّشة تدمج العروبة بالإسلام بطريقة لا نعرف معها حدود هذه من تلك، بما لا يختلف في الحصيلة عن أيديولوجية البعث، والأنكى أن فكرة الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة الحديثة غير موجودة في قاموسه، بل يجري النظر –صراحة أو ضمناً- إلى سورية بوصفها دولة قطريّة “مؤقّتة” ومكروهة لمصلحة دولة متخيَّلة في الذهن هي “دولة القوميّة العربيّة”.

مع الثورة هبطت على القوميّين العرب فجأة تغيّرات بعيدة من ثقافتهم وتاريخيّتهم المعهودة، ومعظمها تصب في إطار تمييز أنفسهم فحسب عن بقية أطراف المعارضة، وفي حالة أقرب ما تكون إلى “تفكير الجكارة” أو “المناكدة” أو لكسب مواقع أو نقاط على الساحة السياسيّة، فأصبحوا مثلًا يتحدثون بالعلمانيّة ويعترفون بالإدارة الذاتيّة للأكراد في سورية … إلخ. وهناك ظاهرة بيِّنة أخرى برزت بعد الثورة هي اختباء القوميين خلف الشق اليسراويّ في هذا التيار، على اعتبار أن اليسراوييّن يمكن أن يقوموا بالدور المطلوب في “مناكفة” بقية أطراف المعارضة، خاصة لجهة “محاربة” ما يرونه توجهًا إسلامويًّا في الثورة، من دون أن يتلطخ القوميّون بهذه المعركة حفاظاً على “رصيدهم الجماهيريّ” في لحظة سياسية أخرى عندما تتغير الاصطفافات السياسيّة مستقبلًا. أما خلفيات مواقف الشق اليسروايّ فتستند إلى خلفيّات طائفية في بعض الأحيان إزاء الحدث السوريّ، أو إلى أوهام أيديولوجيّة متحجرة  حول نمطيّة محدَّدة للثورة لا يستطيعون تخيّل غيرها، تنطلق بإشارة من “النخبة” التي يمثلونها، ولا ننفي بالطبع صدقيّة البعض في توجههم.

(4)

أما بالنسبة لظاهرة التسلح في الثورة السوريّة، فإن قوى هذا التيار تتعاطى معها وتناقشها بوصفها خيارًا عقلانيًا أخذته مجموعات سياسيّة معارضة، وليس بوصفه خيارًا حتميًا خارجًا عن إرادة تلك المجموعات، على الرغم من مساهمة هذه المجموعات فيه فيما بعد على الأقل من حيث الخطاب السياسيّ، كما لا تنظر إلى هذه الظاهرة في سياق الأحوال والأوضاع التي أحاطت بالثورة السوريّة، الداخليّة والإقليميّة والدوليّة، وبأن الفاعل الرئيس فيها هو النظام السوريّ وإرادة المجتمعين الدوليّ والإقليميّ. المهم أن الهاجس الرئيس الذي كان يحكم قوى هذا التيار هو إثبات موجوديّتها إزاء أطراف المعارضة السياسيّة الأخرى وليس النظام السوريّ، وبدا أن هذه القوى المعارضة مشكلتها –للأسف- مع بقية أطراف المعارضة أكبر بكثير من مشكلتها مع النظام.

كما لم تحاول هذه القوى أيضاً تفهّم المنطق الداخليّ للثورة السوريّة المستقل نسبيًّا عن خيارات وخطاب أي طرفٍ سياسيٍّ معارضٍ، وظلت تنظر لما حدث في سورية تحت بند “معارضة-نظام” وليس “ثورة-نظام”، وهو ما تجلى في الأنشودة الساذجة والمستمرة “نحن المعارضة الداخليّة”، والتي أرادت من خلالها مسألتين، الأولى الحصول على نصف المقاعد على الأقل في أي هيئة تمثيلية خلال جميع المحطات التي طرحت فيها مسألة “وحدة المعارضة”، وكأنه لا يوجد في سورية ثورة إنما قوى سياسيّة معارضة فحسب، والثانية ضبط الخطاب السياسيّ للثورة وقوى المعارضة الأخرى تجاه النظام بسقف خطابها، وهو ما لم يتم قبوله، وكان لسان حال البعض من أهل الثورة العقلاء يقول لهم ما معناه: “أنتم داخل سورية ومعروفون للأجهزة الأمنيّة ومعرضون للخطر، وتُصدرون في أحايين كثيرة مواقف سياسية حذرة أو باهتة تجاه النظام لتحاشي خطره، وهذا أمرٌ مشروعٌ ومفهومٌ، لكن ما هو غير مشروع هو الطلب من الثورة وبقية المعارضة –المتخفية أو الموجودة في الخارج- تبني مواقفكم المرهونة بحسابات ذاتية تتعلق بكم، بخاصة بعد كل ما فعله هذا النظام وإدراك أغلبيّة السورييّن أنه لا مستقبل لسورية مع استمراره”.

قبلت قوى هذا التيار في الماضي بوجود حزبٍ لبنانيٍّ مسلح (حزب الله) لا يخضع لسلطة الدولة اللبنانيّة، وفي وقت آخر بعد الثورة ملأت هذه القوى الدنيا صراخًا ضد العسكرة، على الرغم من قبولها بوجود حزب مسلح بين ظهرانيها (حزب الاتحاد الديمقراطيّ الكرديّ)، وأيّدت “الجيش العربي السوري” في معاركه مع الجماعات المسلحة في محطاتٍ عديدةٍ، على الرغم من تحول هذا الجيش إلى ميليشيا مسلحة في خدمة النظام الحاكم. من الواضح أن موقف هذه القوى ضدّ العسكرة ليس مبدئيًّا، فأن تكون مع العسكرة في مكان وضدّها في مكان آخر، أو أن تكون مع العسكرة التي تتناسب مع وجودك ورؤيتك، يعني ببساطة أن خياراتك تقوم على أساس مصالحك الشخصيّة أو الحزبيّة ولا تقوم على أسسٍ مبدئيّة.

كان موقف التيار الأول طوال فترة ما قبل الثورة السورية ضدّ أي تسوية من أي نوع مع إسرائيل، فلا يمكن تحرير الأرض بغير السلاح، وما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، ولذلك كان يعلن عن تأييد مطلق لحزب الله وجركة حماس، ويبارك الدعم الإيرانيّ لهذه القوى. أي أن المنطق الداخليّ لهذا التيار كان يستند إلى فكرة الحرب الدائمة ضدّ أميركا وإسرائيل والوقوف ضدّ منطق التسويات والهدنات مهما كان ميزان القوى السوريّ أو العربيّ خاسرًا مقارنةً بإسرائيل، وفي العمق لا مشكلة لديه إن تم تأجيل بناء الدولة الوطنيّة ووضع الاستحقاق الديمقراطيّ والإصلاح الاقتصاديّ على الرف في سبيل الانتصار في هذه المعركة المقدسة، وهذا لا يختلف بالطبع عن خطابات وشعارات النظام السوريّ وسائر الأنظمة القوميّة التي جرت الكوارث على السورييّن والعرب على حد سواء.

المهم أن منطق التسويات والحلول السياسية يعتبر غريبًا بالأصل عن التكوين السياسيّ والعقائديّ لهذا التيار، بخاصة شقه القوميّ، لكن مع الثورة السوريّة هبطت “الحكمة” فجأةً على أصحابه، وكانت تُغطّى حلوله السياسيّة المطروحة بلغة المصلحة الوطنيّة والمبدئيّة السياسيّة، والغريب أن هذا التيار كان يتوجه في أغلب الأحيان بالهجوم على أطراف المعارضة الأخرى متهمًا إياها بعرقلة الحلول السياسيّة، وكأنّ الحلَّ السياسيَّ سينفتح بمجرد موافقة المعارضة على السير فيه، أو كأن النظام السوريّ حملٌ وديعٌ لا علاقة له بعرقلة الحلول السياسيّة، أو بالأحرى كأن النظام ليس المحدِّد الأول والأخير في مسألة الحلِّ السياسيّ، هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية لا يحدِّد هذا التيار طبيعة الحلِّ السياسيّ المنشود، ولا يقارب الأمر إلا من خلال أطروحات نظريّة عامة، ولا يتعرض للتفاصيل والاستحقاقات الواقعيّة المتعلقة بحلٍّ سياسيٍّ حقيقيٍّ في سورية (مثل موقع رئيس الجمهوريّة)، فهذه النقطة شئنا أم أبينا أصبحت النقطة المركزيّة في أي حلٍّ سياسيٍّ، ولا يمكن جرّ النظام إلى الدخول في عمليّة سياسيّة تؤدي بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ إلى نهايته أو “تفكيكه” من الداخل كما يزعم البعض.

قد يأتي اعتراض من جانبهم يقول أنهم ضدّ منطق التسويات والحلول السياسيّة مع العدو الإسرائيليّ، فيما هم يؤيدون هذا النمط من الحلول بين أبناء الوطن الواحد. من جانبٍ أول يوحي هذا القول أن ما فعله النظام السوريّ طوال فترة الثورة لا أهميّة له مقارنةً مع ما قام به مع المحتل الإسرائيليّ، على الرغم من أن الواقع يضعه في قمة هرم أقسى وأسوأ المحتلِّين: قصف المدن وتدميرها، اعتقال وتعذيب وقتل عشرات الآلاف، تشريد عدة ملايين من السورييّن…. إلخ . من جانبٍ ثانٍ لا أعتقد أن هناك فائدة أو فضيلة من تأييد الحل السياسيّ أو رفضه من دون تحديد ماهيته وهدفه وحدوده وآليته وزمنه، فالجميع –أياً تكن انتماءاتهم وتوجهاتهم- يطمحون إلى الحل السياسيّ لكنهم مختلفون حول طبيعته.

(5)

الأنكى من ذلك هو موقف هذا التيار من مؤتمر جنيف، والتناقضات الواضحة التي وقع فيها. إذ ملأ الدنيا صراخًا بخصوص ضرورة الذهاب إلى مؤتمر جنيف، مع ادعاءات غير صحيحة “نحن أول من طرح الحلَّ السياسيّ”، غايتها الأساسية إثبات الموجوديّة في ظل الهامشيّة التي عاشها خلال الثورة، فالحل السياسيّ أمرٌ مطروحٌ منذ اليوم الأول للثورة، وقُدِّمت مبادراتٌ عديدةٌ من قوى وشخصيات داخل وخارج سورية، فضلاً عن مبادرات جامعة الدول العربيّة العديدة في محطاتٍ مختلفة.

أما ما يسمى “الرؤية السياسيّة” للحل السياسيّ التي طرحها هذا التيار فهي رؤية نظريّة عامة تنفع موضوعًا لندوة أو محاضرة، إذ لا تتعامل مع التفاصيل الواقعيّة للمسائل المطروحة للتفاوض، ولا للجوانب التي تشكل عقدةً رئيسيةً أمام أي حلٍّ سياسيٍّ ممكن في مصلحة الثورة السورية.

قبل انعقاد مؤتمر جنيف كان الخطاب السياسيّ لهذا التيار يركِّز على ضرورة مشاركة المعارضة من دون طرح أي معايير أو اشتراطات مسبقة على إطلاق التفاوض السياسيّ في جنيف، وكان يحمل مسؤوليّة الدم السوري المراق لكلِّ من يضع أي اشتراطات حتى لو كانت بديهيّة لنجاج أي حلٍّ سياسيٍّ (كإطلاق سراح المعتقلين وفتح المجال للإغاثة الإنسانيّة وفكّ الحصار عن العديد من المناطق السوريّة… إلخ). كما كان هذا التيار يؤكِّد على مشاركته في مؤتمر جنيف، بالاستناد إلى وعودٍ روسيّة، وفي مرات عدّة طرح مشاركته بوفدٍ مستقلٍّ، وعندما وصلته رسالة المجتمع الدولي بأن وفد المعارضة سيشكله “الائتلاف الوطنيّ” أصبح يؤكد على ضرورة وجود وفدٍ واحدٍ للمعارضة باسم “وفد المعارضة الوطنيّة الديمقراطيّة”.

عندما اقترب موعد انعقاد المؤتمر ظهر أن التفاهمات الدوليّة بخصوص وفد المعارضة كانت في غير مصلحة هذا التيار، بمعنى أن الروس قد “تخلَّوا” عن وعودهم بشكلٍ أو بآخر، وأن تمثيل هذا التيار سيكون عبر قيام “الائتلاف الوطنيّ” باختيار أفرادٍ منه فحسب. وهنا لم يقبل هذا التيار بهذه النتيجة، وذهب نحو إعلان رفضه المشاركة في المؤتمر على الرغم من أنه ليس بين المدعوين.  علاوةً على ذلك، أظهر هذا التيار لأول مرة تشدّدًا غير معهودٍ عندما بدأ يتحدث عن معايير واشتراطات لنجاح المؤتمر كان يستهجنها في السابق، بل ويحمِّل –كما قلنا- المتحدثين بها تبعات عرقلة الحلِّ السياسيّ والمسؤوليّة عن استمرار نزيف الدم السوريّ. كذلك، أعلن بشكلٍ صريحٍ عن توقعه لفشل المؤتمر، وهو توقع بديهي لدى أغلبيّة المعارضة بما فيها التيار الذي يشارك في المؤتمر وجلساته التفاوضيّة، لكن المعنى العميق الذي يريد أن يقوله لنا هذا التيار هو “المؤتمر سينجح إن شاركت فيه، وسيفشل إن لم أشارك”.

هناك نقطة أخرى تتعلق بهذا الأمر، وهي أنه قد ظهر بوضوح أن وجود هذا التيار، وبالتالي وزنه السياسيّ، كان معتمدًا بشكلٍ شبه كليٍّ على العلاقات الخارجيّة (مع روسيا بشكلٍ رئيسيٍّ)، وجزئيًّا على المقابلات الإعلاميّة لبعض أفراده مع القنوات الفضائيّة، ولم يكن له وزنٌ أو شرعيةٌ داخليةٌ تجبر الدول على عدم تجاوزه، على الرغم –كما قلنا- أنه ظلَّ يكرِّر طوال الثورة اللازمة المفضلة لديه “نحن المعارضة الداخليّة”، وعلى الرغم من احتكاره الواضح لهذا التوصيف الذي يشمل الكثيرين في الداخل (إعلان دمشق وتيار بناء الدولة ولجان التنسيق المحليّة مثلًا)، وعلى الرغم من عدم وجود معايير واضحة لهذا التوصيف باستثناء المعيار الجغرافيّ. بالتالي لم يختلف هذا التيار عن الطرف الآخر من المعارضة من حيث اعتماد كليهما على “الخارج” و”الإعلام” فحسب في إثبات مشروعيّتهما ووجودهما، على الرغم من كل زعيقه حول “الاستقلاليّة”.

كانت المرة الأولى التي تتعرض فيها قوى هذا التيار لروسيا بالنقد هي عندما لم تتم دعوتها إلى مؤتمر جنيف، وهذا بالفعل موقف “صبياني” مثير للسخريّة والاشمئزاز في آنٍ معًا، بخاصة أن كافة المواقف والممارسات الروسيّة الداعمة للنظام السوريّ طوال ثلاث سنوات لم تلقَ أي اعتراضٍ أو استهجانٍ، بل على العكس كانت تجد ترحيبًا حارًا في بعض المحطات. لقد شعرت قوى هذا التيار بما يشبه الخديعة والخذلان، وأنه قد تم استغلالها واستخدامها في مواجهة الأطراف المعارضة الأخرى، ومن ثم رميها والتخلي عنها، بعد رحلةٍ طويلةٍ من طربها بمديح الروس لها، بما يوحي بسذاجةٍ ما هي من نوعيّة السذاجة ذاتها التي وقع فيها التيار المعارض الآخر عندما صدّق أن ما يسمى “دول مجموعة أصدقاء سورية” داعمة للثورة السوريّة.

ما أريد قوله أن هذا التيار غير مبدئيٍّ بخصوص معظم المسائل التي طرحها. ففي مراتٍ عديدةٍ كان مؤيِّدًا لقوى سياسية مذهبيّة وطائفيّة أو إسلامويّة (حزب الله، حركة حماس، الجهاد الإسلاميّ، الجماعات القاعديّة في العراق)، وفي مراتٍ أخرى كان ضدّها (كالجماعات الإسلاميّة التي تشكلت خلال الثورة السوريّة). في محطاتٍ سابقةٍ ولاحقةٍ كان هذا التيار مع حركاتٍ وقوى مسلحة داخل المجتمع، وفي مرات أخرى ضدّ غيرها. كان هذا التيار ولا يزال يصمت إزاء / أو يبارك في العمق تدخّل قوى إقليميّة ودوليّة معينة (روسيا، إيران)، ويقف بصوتٍ عالٍ ضدّ تدخل قوى أخرى (أميركا، دول الخليج). وحتى ما يتعلق بعددٍ من القضايا (كالقضيّة الكرديّة والعلمانيّة والموقف من الإسلام) كانت وجهات نظر بعض أطرافه، بخاصة القوميّين العرب، متبدِّلة بحسب الأحوال والعلاقة مع النظام السوريّ وأطراف المعارضة الأخرى.

(6)

أما التيار الثاني داخل التجمع الوطنيّ الديمقراطيّ فقد كان تقريبًا على النقيض في معظم القضايا السابقة، ولذلك كانت بيانات التجمع وافتتاحيات جريدته “الموقف الديمقراطيّ” غالبًا ما تميل إلى إظهار موقف توليفي أو توافقي إزاء معظم الحوادث السياسيّة، لكن هذه الطريقة ما كان من الممكن لها أن تستمر بوجود حدثٍ جللٍ كالثورة السوريّة. يمكن تكثيف مواقف التيار الثاني داخل التجمع فيما يلي:

 أ- التعاطي مع السياسة الأميركيّة من خلال براغماتيّة نفعيّة، وليس بعدائيّة مطلقة، والنظر إلى الدول الأخرى من حيث بنية أنظمتها وسياساتها في المنطقة، وليس من خلال وقوفها مع أو ضدّ السياسة الأميركيّة، ومن هنا لم يكن هذا التيار يتعاطى بارتياح مع أنظمة الحكم القائمة في إيران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا، حتى لو كانت هذه الدول “تمانع” السياسة الأميركيّة في الظاهر.

ب- كان هذا التيار ينظر إلى الصراع العربيّ الإسرائيليّ بوصفه صراعًا تاريخيًّا يمكن أن تتخلله تسويات بحسب موازين القوى في أي لحظة، وكان يعطي الأولويّة للوضع الداخليّ، أي بناء الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة، ويرى أن التفكير السلاحويّ والعمل المسلح لحزب الله وحركة حماس لا يأتيان إلا بالكوارث.

ج- كان هذا التيار مؤيِّدًا في العمق لسياسة وتوجهات جماعة 14 آذار في لبنان، لكن من دون تأييدٍ لعددٍ من شخصيّاتها، وكانت فكرة الدولة اللبنانيّة مركزيّةً بالنسبة إليه، فوجود حزب الله كحزبٍ “مقاوم” كان معيقًا لبناء الدولة اللبنانيّة التي لا يستقيم وجودها مع وجود حزب مسلح يشكل دولةً داخل الدولة.

د- كان هذا التيار يتعرض بالنقد لما يسمى “مقاومة” حزب الله وحركة حماس، لأن الطرفين يحملان مشاريع مذهبيّة غير ديمقراطيّة ولا تلتقي مع المشروع الوطنيّ في المآل، وهو ما دفع قوى هذا التيار إلى الوقوف ضدّ حزب الله مثلًا عندما قام باجتياح بيروت في أيار 2008.

ه- لم يكن هذا التيار يرى في “المقاومة العراقيّة” سوى جماعاتٍ قاعديةٍ متطرفةٍ وبقايا بعثيّة صدّامية مسلحة، معيقة لتحقيق الانتقال الديمقراطيّ في العراق بعد رحيل نظام صدام حسين.

يمكن تفسير الكثير من المواقف التي اتّخذها هذا التيار بعد قيام الثورة السوريّة، فبعضها استمرّ وعبّر عن نفسه في جميع المحطات، إلا أن جانبًا مهمًّا من هذه المواقف أصبح على النقيض من سابقاتها، بما يعني أيضًا افتقاد المبدئيّة السياسيّة مهما جرت محاولات تغطية هذه المواقف بلبوس المصالح الوطنيّة والانحياز إلى الثورة السوريّة.

بعد أن كانت قوى هذا التيار تنتقد الجماعات القاعديّة الإرهابيّة في العراق، صمتت بعض قواه أو تبنّت ممارسات جماعات متطرفة مسلحة على الأرض السوريّة تحت بند أن المعركة الأساسية هي مع النظام (مثل جبهة النصرة وداعش)، وبالتالي لا مانع من الاستعانة بالشيطان لتحقيق هذا الهدف. وبعد أن كانت في السابق تنتقد حزب الله وحركة حماس باعتبارهما مشروعين مذهبيين ومتطرفين ويعيقان المشروع الديمقراطيّ، فإنها لم تكن جريئةً في نقدها للجماعات المسلحة في سورية باعتبارها أيضًا لا تحمل أي مشروعٍ وطنيٍّ ديمقراطيٍّ.

على الرغم من براغماتيّة هذا التيار في التعاطي مع السياسة الأميركيّة، إلا أنه لم يدرك كنه هذه السياسة ما بعد الثورة وعوّل عليها الكثير في التدخل إلى جانب الشعب السوريّ ضدّ نظام الحكم، وهو ما يعني التحول من السياسة العقلانيّة التي كان يدعيها في السابق إلى السذاجة السياسيّة في فهم المصالح والتوازنات الدوليّة وقراءة الواقع.

قضية التدخل الخارجيّ التي طرحها هذا التيار بقوةٍ في محطاتٍ عديدةٍ من الثورة تُظهر بوضوحٍ المستوى المتدني سياسيًّا في قراءة الواقعين الدوليّ والإقليميّ من جهة، وتدلِّل على الجهل بالواقع السوريّ المعقَّد من جهةٍ ثانية، والأخطر كان انخراط بعض قواه ورموزه في خطابٍ شعبويٍّ تضليليٍّ غايته الأساسية الحصول على التأييد الشعبيّ بأي طريقة.

وأكثر من ذلك أنه عندما أراد الاستفادة براغماتيًّا من سياسات ومواقف بعض الدول الخليجيّة ضدّ النظام السوريّ، ومن ورائه إيران، فإنه نسي عقله وخطابه، ولم يميِّز نفسه عن توجهات هذه الدول ولم يضع مسافةً ما بينه وبينها، واندرج بعض رموزه أحيانًا في خطابٍ طائفيٍّ وفي استقطابٍ سنيٍّ – شيعيٍّ لا علاقة له بالمصالح الوطنية السورية، وبعيدٍ من توجهات وقيم الثورة السوريّة.

بعد الثورة انقلب التفكير التسوويّ في التعاطي مع الأزمات السياسيّة لدى هذا التيار إلى تفكيرٍ سلاحويٍّ، حتى أنه تعامل بتجاهلٍ ولا مسؤوليّة مع عددٍ من المبادرات السياسيّة التي طُرحت خلال فترة الثورة السوريّة (مبادرة جامعة الدول العربيّة وخطة عمل كوفي عنان ومبادرة جنيف الأولى والثانية)، ظنًا منه أن القبول بهذه المبادرات يصبُّ في بوتقة التنكّر للثورة السوريّة، وربما اعتقد أن القبول بها يمنعه من العمل على الجبهات الأخرى وفي المستويات كافة لتحقيق أهداف الثورة كونه -ربما- لا يتقن السير في العمل السياسي إلا على قدمٍ واحدةٍ. هذا الرفض للمبادرات السياسيّة يدلِّل على خطابٍ سياسيٍّ يجهل أساسيّات العمل السياسيّ، ويغرِّد خارج منطق وقوانين المجتمع الدوليّ السائد، سواء أحببناها أم كرهناها. والمشكلة أن الدعوة إلى السلاح والدعم بالسلاح كانت تصدر على شاشات الفضائيّات بطريقةٍ هزليّةٍ تدعو إلى الشفقة، بما يعني أن هذا التيار قد استغنى كليًّا عن دوره السياسيّ والمهمات العديدة المنوطة به، واختزل نفسه في مجموعة أصواتٍ لا تتقن شيئًا سوى المطالبة بالسلاح.

ما أريد قوله هنا هو أن التيارين السابقين اللذين عملا معًا داخل التجمع الوطنيّ الديمقراطيّ لسنواتٍ طويلةٍ، وانفصلا عن بعضهما بعد انطلاق الثورة السوريّة، واندرجا في اصطفافات سياسيّة مختلفة عبرت عن نفسها بتشكيلاتٍ سياسيّةٍ جديدةٍ، هما في العمق متقاربان من حيث طرائق التفكير، وإن اختلفا على صعيد المواقف السياسيّة الظاهرة، وهو الأمر الذي جعلهما يغيِّران بعض مواقفهما السياسيّة السابقة قبل الثورة إزاء بعض القضايا السياسيّة من دون أي حرجٍ، على الرغم من أن بعض المواقف السابقة الأخرى قد استمرت، خاصة لجهة طبيعة الاهتمام أو الهاجس الأساسيّ الذي يحكم كلًا من التيارين، فالتيار الأول كان وما زال مسكونًا بالهوس تجاه الخارج (أميركا وإسرائيل)، والثاني كان وما زال محكومًا بالنزعة الثأريّة ضدّ النظام السوريّ.

(7)

إضافةً إلى التيارين السابقين كان هناك “تيار ثالث” ضمن التجمع الوطنيّ الديمقراطيّ قبل الثورة، واستمرّ في جميع المحطات بعد الثورة، وهو لم يكن بالتأكيد كسائر القوى التي تتّخذ لنفسها في محطاتٍ مفصليةٍ اسم “التيار الثالث” كموضة أو محاولة للهروب من موقفٍ حاسمٍ إلى جانب أحد التيارين المتصارعين، فيكون بالتالي تياراً بلا لون ولا طعم ولا رائحة، بل كان هناك بالفعل تيارٌ ثالثٌ حقيقيٌّ، لكنه كان ولا يزال التيار الأضعف من حيث التواجد والحضور والأنصار، ويمكن أن نطلق عليه اسم “التيار الجدليّ”.

كان “التيار الجدلي” يقدِّم على الدوام مقارباتٍ وقراءاتٍ متكاملةً لجميع الحوادث السياسيّة. على الرغم من أن المواقف السياسيّة له كانت في الغالب الأعم تنسجم “ظاهريًّا” مع بعض مواقف التيار الثاني قبل الثورة، إلا أنه كان يبنيها على قاعدةٍ فكريّة سياسيّة مختلفة تنبذ المواقف السياسيّة السطحيّة والجزئيّة، ولا يمكن اختزالها بالموقف الحادّ والصارم من النظام السوريّ، فقد كان هذا التيار يفكِّر ويعمل بدلالة سورية والسورييّن أولاً وليس بدلالة السلطة الحاكمة فحسب. هذه القاعدة الفكريّة السياسيّة تنسجم مع “التفكير الجدليّ”، وهو نمطٌ من التفكير الحديث يحتاج إلى الكثير من التعب الفكري وجهاد الذات والعقلانيّة السياسيّة والشجاعة السياسيّة والالتزام بالثوابت الوطنيّة الديمقراطيّة جنبًا إلى جنب.

فمثلاً على الرغم من انسجام موقف “التيار الجدليّ” مع الموقف الذي ينظر إلى حزب الله على أنه حزبٌ طائفيٌّ وورقةٌ بيد إيران والنظام السوريّ في مواجهة بناء الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة إلا أن هذا التيار كان يرى ضرورة التأكيد على نصرة الفعل المقاوم ومشروعيّته شريطة توافر معايير محدَّدة فيه، ومنها: أن يكون تعبيرًا عن إجماعٍ شعبيٍّ، وأن يتّخذ لنفسه الصفة الوطنيّة لا المذهبيّة، وأن يخدم المصالح الوطنيّة لا لعبة الدول الإقليميّة والدوليّة، وأن يُعاد بناء الفعل المقاوم على أسس شاملة لا تختزله بالمقاومة المسلحة، وأن يكون السلاح في خدمة السياسات الوطنيّة، وبالتالي ضرورة اندراج المقاومة المسلحة في مشروع برنامجٍ سياسيٍّ وطنيٍّ ديمقراطيٍّ متكاملٍ.

كذلك، لم يكن “التيار الجدليّ” متوافقًا مع التيار الثاني في تحولاته غير العقلانيّة بعد الثورة، والتي ارتكزت إلى “مخزون الحقد”، المشروع والمبرر بالطبع، بدلًا من الحسابات العقلانيّة في السياسة، متناسيًا المقولة الشهيرة الصحيحة “الحقد موجِّه سيء في السياسة”، كما لم يكن متوافقًا معه في لهاثه وراء الشارع الشعبيّ وسيره في طريقٍ شعبويٍّ مبتذلٍ بدلًا من تنوير السورييّن ومكاشفتهم بالحقائق.

في الحقيقة لم يحدث حوارٌ جادٌّ داخل صفوف المعارضة السياسية حول معظم هذه القضايا في فترات السلم، أي قبل الثورة السوريّة، ومن الطبيعي في غياب مثل هذا الحوار أن يكون هناك بشكلٍ دائمٍ استقطابٌ حادٌّ، ساذجٌ وسطحيٌّ واعتباطيٌّ، وهو ما ازدادت حدّته بعد الثورة، بخاصةٍ مع اصطباغ معظم المواقف السياسيّة بالصفات الشخصيّة لعددٍ من قيادات المعارضة التاريخيّة، فالهلامية الشخصيّة مثلاً وسمت العديد من المواقف السياسيّة، وهذا يختلف بالتأكيد عن الحكمة والعقلانيّة السياسيّة، وحضرت مواقفٌ أخرى هوجائيّة وغوغائيّة، وهذه تختلف أيضًا عن سماتٍ مطلوبةٍ كالشجاعة والمبدئيّة والانحياز للثورة، فيما غاب –كالعادة- الموقف الذي يتسم بالحكمة والشجاعة في آن معًا.

على الرغم من هذا النقد الصارم للمعارضة السياسية السورية، فإنه نقدٌ متضامنٌ معها، يهدف إلى تنويرها ودفعها إلى تجاوز عيوبها وأنماط تفكيرها السائدة من جهة، كما يأمل هذا النقد من جهةٍ ثانيةٍ أن يكون في منزلة رسالةٍ تحريضيّةٍ إلى الشباب السوري بشكلٍ خاصٍّ الذي سيتجه عاجلًا أم آجلًا نحو بناء قوىً سياسيةٍ جديدةٍ، بالاستفادة من ثغرات وعيوب التجارب السابقة.

مع ذلك، فإننا نعي اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى حجم التشوّه الفكريّ السياسيّ، بل والنفسيّ أيضًا، الذي خلقه النظام الحاكم في المجتمع السوريّ، بخاصةٍ في قواه السياسيّة، ولذلك حضرت أنصاف المواقف في محطاتٍ كثيرةٍ خلال الثورة، وكانت هي المسيطرة على التيارين السياسيين اللذين حكما المعارضة السياسيّة السوريّة، على الأقل في مستوى الخطاب السياسيّ والإعلاميّ، وغابت المواقف التي تحترم التفكير الجدليّ الحديث وتنطلق منه في مقاربة واقعٍ سوريٍّ شديد التعقيد، وثورةٍ عظيمةٍ كان قدرها أن تجتمع فيها وحولها كافة الأوضاع والبلايا التي تحاول وأدها.

دراسة تنشر في “زمان الوصل”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى