المعارضة السوريّة وفكرة الجيش الوطني/ ماجد كيالي
تزايد الحديث في أوساط المعارضة السورية، لا سيما أخيراً، عن ضرورة إنشاء جيش وطني، باعتبار أن شعب سورية بات في مواجهة ثنائية الاستبداد والاحتلال (الروسي والإيراني)، وعلى أساس توحيد فصائل المعارضة العسكرية، وإعادة هيكلتها، بعد كل هذا الاضطراب والتنازع الناجمين عن طرح كل منها نفسه كصاحب أيديولوجيا ورؤى سياسية، وبعد كل التراجعات الحاصلة، وهي الفكرة التي ناقشها أيضاً الزميل عبدالناصر العايد («الحياة»، 11/10).
ونحن لا نستطيع تجاهل الواقع الناجم عن وجود فصائل المعارضة، مهما كان موقفنا من كيفية نشوئها، وطرق عملها، وبغضّ النظر عن تقييمنا دورها أو تأثيرها، فهذا شأن نقاش آخر. تهمنا هنا، مناقشة فكرة إنشاء هذا الجيش تحديداً، وتسليط الضوء على إشكالياتها وجدواها وتداعياتها.
بدايةً، تبدو الفكرة ضرورية، بيد أن طرحها من دون درس متطلباتها وتبعاتها ينمّ عن عقلية تبسيطية، ورغبوية، لا تأخذ في اعتبارها حيثيات التجارب الأخرى (الفلسطينية مثلاً)، ولا حتى حيثيات التجربة السورية ذاتها، وضمن ذلك تداعيات اختزال النضال الشعبي هكذا، والكلفة الباهظة الناجمة عنه (أكثر من المردود)، والارتهانات الواجبة للدول الداعمة.
على ذلك، ثمة أسئلة بديهية وتأسيسيّة أهمها: هل لدى الشعب السوري، بخاصة في أوضاعه الكارثية الراهنة، القدرة على تأمين الموارد اللازمة لتمويل هذا الجيش؟ أم الأمر يفترض أن ثمة دولاً تتولى تقديم الدعم المطلوب؟ ثم ما الضمانة بأن يستمر هذا الدعم وبالقدر اللازم؟ وطبعاً، هذا التفكير يفترض أن الدول تشتغل كأنها جمعيات خيرية، أي بلا مقابل سياسي، ومن دون توظيفات، وهذا غير صحيح على نحو ما اختبرناه فلسطينياً ولبنانياً وسورياً.
من جهة أخرى، حتى لو تجاوزنا الدعم المالي، فالسؤال الذي يطرح نفسه تالياً: هل في إمكان أي دولة أن تقدم السلاح اللازم لهذا الجيش؟ وهذا السؤال يغيب عن البعض مع أن التجربة السورية أثبتت، بدماء مئات الألوف وتشرّد الملايين وحصارهم، أن هذا غير ممكن، وأن التسليح رهن بإرادة الدول الكبرى، أي الولايات المتحدة وروسيا. وقد شهدنا أن كل الدول الداعمة أو المساندة للثورة لم تستطع خرق الخط الأحمر الأميركي القاضي بمنع تسليح المعارضة بمضادات للطائرات، وأن التسليح بمضادات للدروع، وحتى بذخائر أسلحة عادية، حصل وفق قرار سياسي بفتح معركة هنا أو معركة هناك، ووفق حسابات محددة، وغرف عمليات معينة، لا تتيح الحسم العسكري، ولا تتيح وجود قوة عسكرية يعتدّ بها.
أيضاً، ثمة سؤال ثالث أهم ينبغي طرحه على المعارضة، بخاصة أصحاب فكرة الجيش الوطني: هل في مقدور الثورة، بإمكاناتها الذاتية، أن تسقط النظام من طريق القوة العسكرية؟ أو هل يسمح النظام الدولي بإسقاطه؟ أو هل يمكن أي تسلّح أن يضاهي قوة القصف الروسي الجوي أو بالصواريخ؟ والفكرة هنا، أن الوضع في سورية خرج، منذ سنوات، من كونه مجرد صراع بين شعب أو غالبيته في مواجهة نظام، وبتنا إزاء واقع صراعي معقد ومتداخل، تحول من صراع داخلي على السياسة والسلطة إلى صراع إقليمي، ثم دولي مع دخول روسيا كطرف مباشر، وهذا من دون أن ننسى القوى الميليشياوية الطائفية والدينية ذات الأجندة المختلفة عن أجندة السوريين (كحزب الله وتوابعه أو كداعش والقاعدة وأخواتهما). أي أن المعارضة السياسية والعسكرية معنية بإدراك حقيقة أن الدول الكبرى، بخاصة الولايات المتحدة وروسيا، باتت هي المقررة في الشأن السوري، وعند الطرفين (النظام والمعارضة)، بسبب تحوّله إلى صراع مسلح، بحكم انتهاج النظام الحل الأمني وفتحه البلد على مصراعيه لإيران وروسيا، وبسبب خروج ملايين السوريين من معادلات الصراع ومن البلد، كما يأتي ذلك بسبب ضعف كيانات الثورة السياسية والعسكرية والمدنية، واعتمادها على الخارج، وارتهانها لأطرافه بقدر ارتهان النظام لروسيا.
ثم إن فكرة إنشاء جيش وطني تقفز من فوق التجربة السورية المسلحة، خصوصاً الاستراتيجية المعتمدة وقوامها السيطرة على مناطق واعتبارها محررة، والتي تكشفت عن فشل ذريع، إذ إنها سهّلت للنظام التخفّف من عبء السيطرة على ما يعتبره حواضن شعبية للثورة بتقليص عدد القوات المؤمنة لها، بتخصيص أعداد أقل لحصارها، وعبر تحويله لها إلى حقل رماية لصواريخه وبراميله المتفجرة، ما يمكنه من استثمار عديد قواته في مناطق أخرى، ناهيك عن أن القوى المسيطرة على هذه المناطق لم تنجح في إدارتها لمجتمعاتها، ولا في تقديم نفسها بديلاً للنظام. وأيضاً، هذا يرتبط بعدم مراجعة استراتيجية الصراع كجيش (النظام) مقابل جيش (الثورة)، علماً أن هذا الأخير لا يحمل مواصفات الجيش من نواحي الهيكلية والإدارة والتسليح والتخطيط، بدلاً من استراتيجية المقاومة الشعبية، أو جيش مقابل جماعات مسلحة لا تعتمد قواعد ثابتة، وتوجه ضربات إلى مراكز عصب النظام، علماً أن بعض قادة في فصائل المعارضة المسلحة أقروا أخيراً، بضرورة مراجعة التجربة والتحول نحو استراتيجية حرب العصابات، من دون أن تجري أية مراجعة من ناحية فعلية.
قصارى القول، على رغم التضحيات والمعاناة والبطولات التي بذلها السوريون في مواجهة جيش النظام وحليفيه الروسي والإيراني، فإن التجربة العسكرية لفصائل المعارضة لم تنجح، ليس فقط بسبب ضعف الإمكانات، وخروج الشعب من معادلات الصراع، وتحول هذه الفصائل إلى نوع من سلطات عسكرية، بصبغة طائفية ودينية، وإنما أيضاً بسبب إخفاقها في تحديد ما تريده أو ما تستطيعه. هكذا كنا نسمع بين فترة وأخرى عن غزوة أو عن حملة، مثلاً، لكن هذه وتلك كثيراً ما تبين أنها نوع من مغامرة غير محسوبة، ولا تتوافر لها الإمكانات، هكذا سمعنا عن غزوات الساحل أو الجبهة الجنوبية أو حماه وإدلب وحلب، من دون أن يعلن عن مآلاتها. كذلك، فالخلل لا يقتصر على تسميات من نوع «ادخلوا عليهم الباب»، أو «هي لله»، وإنما أيضاً وصل الى حد تسمية «تحرير» مدرسة المدفعية في حلب قبل أسابيع باسم غزوة إبراهيم اليوسف، وفتح معركة في حماه فيما المفروض تركيز الجهود لفك الحصار عن حلب!
وعموماً، تحتاج فكرة الجيش الوطني أولاً، إلى ترتيب حال المعارضة السياسية من كل النواحي.
الحياة