المعارضة اليسارية وتوسل الوهم: من السلمية إلى الحوار: سمير سليمان
سمير سليمان
في الذكرى الثانية لاندلاع الثورة السورية , من المفيد إلقاء نظرة عامة على التحولات الرئيسية فيها ,على مدى العامين المنصرمين . وعلى الموقف المواكب لدعاة السلمية من اليساريين والوطنيين عموما .
يمكن القول أن التحولين الرئيسيين للإنتفاضة السلمية في سوريا , كانا على الترتيب : بروز العنف المسلح ضمن الإحتجاجات السلمية وبالترافق معها , ثم طغيانه لاحقا بعد احتلال حماه ودير الزور وسحق إعتصام الساحة في حمص , كتحول أول . ثم تغلغل المجموعات الجهادية في العمل المسلح يصل لحدودالطغيان , ميدانيا , وايديولوجيا , وإعلاميا , كتحول ثان , ابتدأ مع بداية العام المنصرم ولايزال مستمرا .
لم يهدد التحول الأول بحد ذاته مضمون الثورة الإجتماعي والديموقراطي , لأنه كان عنفا إضطراريا لجأت إليه الثورة لحماية نفسها , بمعنى لتأمين استمرارها . فلم يتأسس العنف هنا على فلسفة أو مذهب للعنف , أي لم يكن خيارا إنتقائيا , بل كان سلوكا إجرائيا للدفاع عن النفس , كان سلوكا تفرضه الطبيعة . وكان الحامل الإجتماعي لهذا العنف من جهة الثورة هو مجموعة العسكريين المنشقين , غير المؤدلجين , والذين انضم إليهم متطوعون مدنيون . أفراد رأوا في السلاح وسيلتهم للمقاومة , وشكلوا أربعة أو خمسة أضعاف العسكريين المنشقين , لايجمعهم مبدأ سياسي , ولاجهادية دينية , ولاقيادة عسكرية أو سياسية موحدة . بسبب ذلك , لم تشكل ” عسكرة الثورة ” خطرا عليها , بل كانت في الحقيقة , ونقول ذلك بعد خبرة عامين على الثورة , ملجأ لها من الموت على يد النظام . ولكن الخطر الذي لاح في تلك المرحلة , كان في انفتاح الباب واسعا أمام ” الجهادية الإسلامية ” للدخول إلى ” محل الثورة ” واحتلاله . وهو خطر تحقق لاحقا بفضل ” الفراغ ” في قيادة الثورة سياسيا وميدانيا . وإذا كانت الجهادية الإسلامية تشكل خطرا ” إحتماليا ” على النظام , فإنها , لهذا السبب تحديدا , تشكل خطرا ” مؤكدا ” على الثورة , من منظور أهدافها الكبرى في بناء الدولة المدنية الديموقراطية كبديل لدولة الإستبداد .
ليس هدف هذه المقالة طرح النقاش حول هذين التحولين في مسار الثورة . بل تهدف إلى النقاش في تدرج الموقف وتطور الطرح السياسي عند ” نوع ” محدد من المعارضة الوطنية , معظمها يساري الأصول , بالترافق مع تحولات الثورة تلك .
من المفيد التذكير أن هذا النوع من المعارضة , والمنتشرة بكثرة في بيئة اليسار عموما , يقوده أفراد ورموز يطيب لهم تسمية أنفسهم ” المعارضة التاريخية ” . فتاريخهم ماقبل الثورة هو رأسمالهم الأعظمي , والذي يقدمون به أنفسهم لجمهور الثورة , وللشعب السوري أيضا , وللعالم الخارجي أيضا وأيضا .
والمفارقة أنه في البحث بتاريخ هذه المعارضة التاريخية , عن شيء ما حول فلسفة ” السلمية في الثورة ” أو ” فلسفة الثورة السلمية ” لانجد شيئا يذكر . بل على العكس , فتقاليدهم الثورية عامرة بالتغني ب” كلاشينكوف بيخلّي الدم شلّال … وديكتريوف بيغطّي انسحابنا ” , والتمجيد ” بالثورة الحمراء , والراية الحمراء , والساحة الحمراء , وكل شيء أحمر ” . ونشاطهم النظري كان يتركز حول كومونة باريس , والعنف المولد للتاريخ , والعنف الثوري , وتجربة حرب الغوار , ومذكرات غيفارا … الخ . هؤلاء المعارضون التاريخيون أنفسهم رفضوا الإلتحاق بالثورة كما هي في الواقع , بمبرر أنها حملت البندقية .
علامَ يدل ذلك ؟ إنه لايدل على أن دعاة السلمية – دعاة الحوار حاليا – قد نأوا بأنفسهم عن الثورة بالمطلق . بل يدل على نأيهم بنفسهم عن شكل محدد لها , هو الشكل الذي اتخذته منذ بدايتها . ويدل على أنهم لم ينخرطوا فيها منذ أن كانت سلمية , بل تفاعلوا معها عن بعد , وانهمكوا في إيجاد ” أمكنة خاصة ” بهم , خارجية عنها وتلامسها من أطرافها , أمكنة يتيحها الظرف الثوري , على الهامش السياسي الواسع الذي أتاحته الثورة في تلك المرحلة .
نتيجة وضعيته ” الخارجية ” بالنسبة للثورة , لم يتمكن اليسار ” السلمي ” من تطوير موقفه بالترافق مع تطور الثورة , ولم يعمل على تصحيح رؤيته لبنيتي النظام والثورة , وللصراع بينهما , فتراجع أكثر . وإقراره بتسلح الثورة إضطراريا , تحت طائلة الموت , لم يغير شيئا باتجاه الإعتراف بالعجز عن مواكبة الثورة , وباتجاه التخلي عن تبرير هذا العجز بتراجع سلميتها , وعزا تباعده عنها إلى خطأ فيها , في تحولاتها , وتراجع شكلها السلمي . وبموقفه هذا , ساهم اليسار , مع جملة أسباب أخرى أكثر أهمية , في إخلاء الساحة للجهاديين الإسلاميين , الذين لم يتأخروا في احتلالها .
في الصراع المسلح , تكون البندقية في خدمة إيديولوجية صاحبها . يعرف الجميع ذلك , وخصوصا الساسة , من اليمين واليسار على حد سواء . فليس السلاح بحد ذاته , أو العنف بحد ذاته , هو مايهدد المضمون الديموقراطي للثورة وأهدافها . بل حامل هذا السلاح , وايديولوجيته . فلا يحق إذن لمدعي السلمية أن يتأففوا من ” أسلمة ” الثورة وقد كانوا , بموقفهم السلبي , شرطا من شروط أسلمتها , وتراجع ديموقراطيتها .
إذن , خطأ يسار ” السلمية ” كان منذ البداية , منذ أن كانت الثورة لاتزال سلمية , وقبل طغيان العنف المسلح على الأشكال السلمية للتظاهرات . خطؤه كان في محاولة خلق مواقع له في الثورة دون الإنخراط فيها , أي خلق مواقع باعتماد إرثه وخبرته ” التاريخيين ” وليس باعتماد معطيات ثورة تجبّ ماقبلها , وليس بالتفاعل مع التطورات العيانية كما تجري في الأزقة والساحات . ولهذا , فعندما دخل السلاح إضطراريا إلى الثورة , بلا أفق سياسي ولا قيادة , بدأ المقاومون الشباب يقدسون البندقية ويتغنون بها , وبقي اليسار يعيش وهم السلمية الدائم , ويدعو للعودة لها , تراجعيا إلى الوراء . على هذا السندان ” السلمي ” , وتحت مطرقة النظام الثقيلة , بدأ الجهاد الإسلامي يتقاطر إلى الساحة السورية كالذباب .
الآن , وبعد نجاح ملحوظ للجهاديين الإسلاميين في مزج العنف بالدين في الثورة السورية , وبعد تأسيسهم لعنف الثورة على فلسفتهم للعنف , مكرسين ذلك بنجاحات ميدانية وإنجازات عسكرية . يبدو اليسار ” السلمي ” بعيدا أكثر عن واقع الفعل والتأثير , ويبدو وكأنه يعيش ثورته الخاصة على هامش الصراع , ويبدو خطابه حول السلمية , خطابا فارغا وبلا معنى . ولكي يتفادى مصير التهميش والإهمال التام , ولكي يتفادى ” البعبع الإسلامي ” القادم , يزين لنفسه وهما جديدا يجري الكلام عنه في هذه الأيام , وهم ” الحوار مع النظام ” .
المفارقة الظريفة , أن الحوار مع النظام , هو الآن مطلب دولي أساسا , قبل أن يكون مطلبا للنظام أو للثورة . ودعاة ” الحوار غير المشروط ” مع النظام – دعاة السلمية سابقا – يتابعون بشغف وأمل تداول هذا الموضوع في أروقة الدول المعنية بالشأن السوري , غافلين , كعادتهم , عن بنية النظام وبنية الثورة اللتان تقرران إمكانية هذا الحوار . المفارقة أن دعاة الحوار هؤلاء , هم من كانوا ضد أي تدخل خارجي منذ البداية , ولايزالون . وهم الآن يأملون بحل مشكلتهم عبر ” تدخل ” من الخارج لفرض الحوار على طرفي الصراع ” سلميا ” .
على هذه المعارضة أن تتفادى الإنتقال من وهم السلمية إلى وهم الحوار مع النظام , وذلك بحوار داخلي يضم جميع أطياف المعارضة , والقوى الثورية المدنية والعسكرية , في الداخل والخارج , لبلورة مفهوم واضح للتفاوض , وليس الحوار . تفاوض يجسد أساليب الإستثمار السياسي الناجع لمنجزات الثورة , السياسية والعسكرية . تفاوض مفروض على النظام فرضا , عبر تنظيم قوى الثورة السياسية والعسكرية , وتنسيق رؤاها البرنامجية . رؤى لاتستند إلى أمنيات عاطفية , ولاتتبع إشارات الدول لها , الظاهرة منها والمخفية .
إذا كانت الثورة ” هي الصح الوحيد ” في تاريخ سوريا المعاصر , بحسب التعبير الجميل لياسين الحاج صالح , نخشى القول أن سلوك المعارضة السياسية , بكل أطيافها تقريبا , وطيفها ” السلمي – الحواري ” خصوصا , هو مجموعة ” الأخطاء العديدة ” المرتكبة عبر سنتين على هامش هذا ” الصح الوحيد ” .
خاص – صفحات سورية –