“المعارضتان” السوريتان والخطاب السياسي: الشارع لا يرحم
ديانا سكيني
“هيئة التنسيق لقوى التغيير الديموقراطي” دفعت حتى الآن ثمنا شعبيا لما يجده بعض الشارع المعارض السوري من برودة في خطابها، لكن هذا لا يعكس في المقابل قصة نجاح نهائية لـ”المجلس الوطني” في التعبير عن هذا الشارع في ظل معادلتي الداخل والخارج الراهنتين. فالساسة المعارضون، الجدد منهم والمجربون، يختبرون لأول مرة بشكل قاس ومكثف لعبة التوفيق بين المبادىء والشعارات والممكن… والمزاج الشعبي.
مع ولادة “المجلس الوطني السوري”، أصبح الفرز واضحا بين معارضتين. واحدة يمثلها المجلس الذي يتكون بشكل اساسي من تحالف عريض بين المكونين الليبرالي والاسلامي، وتقول باسقاط النظام ورموزه وتترك الباب مفتوحاً أمام خيارات الاستعانة بالتدخل الخارجي، واخرى تمثلها “هيئة التنسيق لقوى التغيير الديموقراطي” التي تعبر عن ائتلاف واسع لقوى واحزاب وشخصيات معارضة في الداخل وهي تدعو الى اسقاط “النظام الامني الاستبدادي”، وليس النظام بكل رموزه، وتوصد الباب امام التدخل الخارجي.
واذا كان لا يصعب على المراقب لتعبيرات الشارع المتظاهر، ولمواقف الناشطين الشباب ملاحظة الانحياز إلى الخطاب المعارض ذي السقف العالي، فإن هذا الواقع وضع “هيئة التنسيق” أمام أسئلة صعبة، لكنه أيضاً لا يحكي بالضرورة عن قصة نجاح نهائية لـ”المجلس الوطني” بالتعبير عن الشارع وأسقفه. خصوصاً إذا كان المعيار التعبير “الحرفي” عن عواطف ورغبات الشارع في ظل معادلة سورية جيوسياسية يحكمها الانقسام الدولي حول قرار اسقاط النظام واستمرار فقدان العامل الدراماتيكي الداخلي القادر على الحسم لمصلحة التغيير.
معادلة قد تهدد “المجلس الوطني” بفقدان الادوات والوسائل التي تحاكي تطلعات الشارع المنتفض، لكنها راهنا لا تؤثر على زخم انطلاقته الشعبية والسياسية. اذ يبقى المجلس متمتعا برضى المنتفضين بشكل عام في معزل عن انتقادات محدودة لخطابه وادائه بدأت تعبر عن نفسها في بعض الحوارات البينية كتلك التي يمكن رصدها على موقع الفايسبوك الذي يعتبر ساحة نقاش وحوار متقدمة للثورة السورية.
وتصوّب هذه الانتقادات في غالب الاحيان على عدم وضوح موقفه حيال بعض القضايا وتباين الآراء جزئيا حولها بين اعضائه. ففي هذا السياق، وعلى سبيل المثال، وجهت انتقادات لتأخر صدور موقف حاسم من المجلس يرفض المبادرة العربية الداعية الى الحوار مع النظام، فتم الاكتفاء ببيان يعرب عن القلق من المساواة بين الجلاد والضحية، وذهب رئيس المجلس برهان غليون الى تبني قبول الحوار المشروط مع النظام فقط في حالة التفاوض على الانتقال الى النظام الديموقراطي. وهو الموقف الذي كان على ما يبدو كافيا لظهور لافتة كبيرة بأيدي المحتجين في تظاهرة ليلية عرضت مشاهدها على قناة “الجزيرة” أول من امس كتب عليها ما حرفيته: “الى المجلس الوطني… لا للحوار مع النظام… او ارحلوا مع بشار”!
ويُلحظ من تعليقات عدد كبير من الجمهور السوري المعارض على الفايسبوك ان النقد غالبا ما ينبع من الآمال التي عززتها لحظة الاعلان عن المجلس بامكان اسقاط النموذج الليبي على الواقع السوري مع ميل ظاهر لدى هذا الجمهور الى اغفال الخصائص المختلفة التي تطبع كلتا الحالتين الليبية والسورية. في هذا السياق، يطرح المواطن السوري المعارض أيهم فايز جملة استفهامات عن سبب تباطؤ أميركا وأوروبا والدول العربية في الاعتراف بالمجلس الوطني سائلاً “إذا لم تعترف هذه الدول بالمجلس كيف سيتصرف؟ وما هي خطة عمله المقبلة لدعم الثورة اذا بقي الفيتو الروسي قائما واذا بقي التسلح ممنوعا؟ يجب أن نعلم”. وعلى الموقع الاجتماعي نفسه، يبرز إحتجاج ناشطين أكراد على الرسالة التي بعث بها المجلس إلى تركيا مديناً العمليات العسكرية التي شنها حزب العمال الكردستاني على جنود أتراك، في مثال ذي دلالة على علاقة “المحاسبة” الناشئة بين المجلس والشارع.
رغم هذه الملاحظات التي تدل على ان الشارع المعارض لا يرحم “من يمثله”، يبقى المجلس الاكثر تقدما في محاكاة نبض هذا الشارع، وفق ما دلت على الأقل جمعة “المجلس الوطني يمثلني”، وهو يبلور راهنا قنوات اتصال إعلامية تهدف، كما يقول أعضاء في المجلس، الى شرح خطابه وخطواته للشارع. بالإضافة الى جهود تبذل لتجعل منه المرجعية التنظيمية والاعلامية للحركة في الداخل بتعاون وثيق مع التنسيقيات وفئة الشباب الفاعلة في الداخل تحديدا. الامر الذي بدأت معالمه تبرز مع تبني “المجلس الوطني” الدعوة الى الاضراب العام أمس ومع المطالبات التي ترفع له من ناشطين ليكون المرجع في إطلاق التسميات على أيام الجمعة، والمثالان يشيان بمحاولات دفع التناغم بين المجلس والشارع.
“يسقط العيطة”
الشارع نفسه، وفي حيّز منه، يمضي في ابتكار الشعارات التي تُظهر سلوكاً جذرياً مُدخلاً أدبيات جديدة الى شعاراته، منها تلك المحتجة على كل خطاب معارض لا يرقى سقفه الى إسقاط النظام ورئيسه والمناداة بحماية المدنيين بشتى السبل. وعليه يصبح كل معارض يناقش هذا السقف او الشعار مادة للطعن من قبل بعض الشارع المتظاهر الذي لا يعود مستغربا ان يجد الهوامش لتوسيع أجندته فتجد فيه من يحمل شعارات تنال من وجوه المعارضة المنضوية في نهج “هيئة التنسيق” كهيثم المناع وسمير العيطة وغيرهما. في مثال على ذلك، رُفع شعار يقول “يسقط النظام، يسقط سمير العيطة” من قبل متظاهر في منطقة القورية، في تعبير فاقع عن عدم الفصل بين النظام وبين رموز “هيئة التنسيق الوطنية”. لا يجدُ العيطة حرجاً في نشر فيديو تظاهرة القورية على صفحته “الفيسبوكية” معلقا عليه: ” يسقط سمير العيطة. لا مشكلة. وتعيش سوريا حرّة وأهلها أحرار. والنصر لانتفاضة الشعب السوري”. لا مشكلة طالما ان عضو “هيئة التنسيق” مقتنع بأن موقفه نابع من الانحياز الى “منهج من اثنين، واحد يقول بالانتقال بالانتفاضة إلى ثورة تحمل قيماً إنسانيّة وقيم تراث الشعب السوري من جهة، وبين المسار الليبي والحرب الأهليّة من جهة أخرى. وهو الفرق بين أن يبقى السوريوّن هم وحدهم من يصنعوا صورة مستقبلهم من جهة، وبين أن يخضع مستقبل سوريا للعبة الإقليميّة والدولية”.
موقف العيطة “المبدئي” والذي يشدد على ان هدف كل من “الهيئة” و”المجلس” واحد، لا ينفي حقيقة وجود هوّة بين شارع “يغلي” وخطاب “هيئة التنسيق” الذي يُتّهم بالبرودة. ولعل هذه الهوة تحديداً النابعة من أزمة محاكاة الخطاب السياسي للشارع المنتفض هي التي دفعت بوجوه معارضة بارزة الى أخذ مسافة من “الهيئة” أو الاستقالة منها. فبعد أن انتقد ميشال كيلو طريقة التعبير عن نبذ العنف في بيان مؤتمر “الهيئة” الذي عقد في دمشق في 17 ايلول والذي أوحى بالمساواة بين النظام والمنتفضين باعتبارها “غير موفقة” كاشفا في وقت سابق لـ”النهار” انه فضل البقاء خارج “هيئة التنسيق” بعد دخول عناصر معادية لـ”اعلان دمشق” ورياض الترك إليها نظرا الى ما يعزز وجودها من انقسام في صفوف المعارضة، على عكس “ما كنا نحن الداعين إلى وحدتها نخطط له، عندما دعونا الإعلان والتجمع إلى الحوار والتنسيق”، اعلن فايز سارة على صفحته على الفايسبوك انسحابه من عضوية المكتب التنفيذي للهيئة وبقائه فيها كمشارك عادي. واكتفى بالقول أنه “ليس لوضعي هذا أي علاقة بامر آخر وانما يتصل فقط بقدرتي على متابعة نشاطي ليس إلا. وما زلت أرى في الهيئة تكوينا وطنيا ديموقراطيا، وهي تشكل واحدة من حوامل العمل الديمقراطي الداعمة للحراك الشعبي في الشارع”.
أما “الاستقالة الأوضح” من الهيئة والتوضيح الأبرز لأسبابها المتعلقة بأزمة خطابها السياسي فجاءت من المعارض المعروف حازم نهار، الذي لعب دوراً رئيساً في ما سميّ المحاولة الأكثر جدية لإنتاج ائتلاف بين معارضي الداخل والخارج خلال اللقاء التشاوري في الدوحة. نهار الذي غادر الهيئة دون ان ينضم الى “المجلس الوطني”، رغم مباركته ولادته، وضّح لـ”النهار” أسباب استقالته متحدثاً عن ملاحظات عدة تولدت لديه في الفترة الأخيرة حول أداء “هيئة التنسيق”: “رغم اتفاقي مع الخط السياسي العام للهيئة وتوجهها الوطني الديموقراطي، إلا أن التصريحات الإعلامية المتسرعة لبعض شخوصها، والآليات التقليدية في العمل، والأداء البطيء في التعاطي مع المستجدات في الحراك السياسي خارج سوريا، كل ذلك أفقد الهيئة الزخم الذي تستحقه وترك انطباعاً سلبياً حولها في الشارع السوري رغم وجود أهم الشخصيات الوطنية في سوريا داخلها”.
بالنسبة لنهار كان يمكن الهيئة “إنتاج خطاب سياسي يجمع بين ما يطرحه الناس في الشارع المنتفض وما تعتقد الهيئة أنه صحيح سياسياً في اللحظة الراهنة، وهذا يحتاج إلى الكثير من الدقة والبراعة السياسية، لا أن تكون طروحات الهيئة وتصريحات شخوصها صادمة للرأي العام السوري… بتقليلها من مستوى الخط الجذري الواضح في الموقف من النظام”، ويضيف “لست مع معارضة تشبيحية غوغائية ولكني لست ايضا مع تصريحات تتعاطى مع الحدث وكأنه في نيكاراغوا”.
ولا ينكر نهار ان المجلس الوطني قد نال “حالة من الرضى لدى السوريين، وهي ليست لفضل خاص به، وإنما لحاجة الثورة الماسة إلى إطار سياسي واسع” معتبرا ان “المجلس معرَّض اليوم لامتحان حقيقي يتصل بقدرته على الانفتاح على جميع القوى الأخرى في سوريا وبقدرته على السير بالثورة إلى ما فيه المصلحة العامة للشعب السوري في النهاية”.
في المحصلة، يبدو جلياً أن الساسة السوريين المعارضين، الجدد منهم والمجربون، يختبرون لعبة التوفيق بين المبادىء والشعارات والممكن والمزاج الشعبي بشكل مكثف وقاس لأول مرة. والأكيد ان أياً من أصحاب الخطاب العالي السقف، او المنخفض، او الما بين بين، لا يملك اجابة شافية ومضمونة النتائج حتى الساعة حول كيفية حصول التغيير… طالما أن معادلة الداخل تحافظ على مشهديتها الراهنة… وطالما أن الخارج لم يتخذ قراره النهائي بعد…
النهار