صفحات سوريةمنذر خدام

المعارضون بالصدفة


منذر خدام

لقد دفعت انتفاضة الشعب السوري في سبيل حريته وكرامته وبناء نظام ديمقراطي بديل لنظام الاستبداد القائم المتحكم بالبلاد والعباد منذ نحو أربعة عقود، كتلا كبيرة من الشعب وفئات وأفرادا كثيرين إلى الحقل السياسي ليتشكل منهم طيف واسع من ألوان المعارضة السورية يغلب عليه ما أسميه المعارضة بالصدفة. فأغلب المنشقين عن الجيش السوري الرسمي كانوا حتى قبل انشقاقهم يرددون شعارات البعث في اجتماعاتهم الصباحية، هذا عداك عن أغلبية الشباب المشارك في الحراك الشعبي من تلامذة وطلاب المدارس والجامعات السورية الذين في أغلبيتهم الساحقة كانوا منتسبين إلى حزب البعث الحاكم أو إلى إحدى المنظمات المدنية التابعة له ثم خرجوا عليه معارضين استمرار حكمه.

وهناك من عمل في أجهزة الدولة والحزب الحاكم وتبوأ مناصب مرموقة فيها، ولديه ملفات كبيرة من الارتكاب بحق الشعب والدولة، خرج يشتغل معارضة أيضا في محاولة لتبييض سمعته. وهناك فئة أخرى خرجت تشتغل معارضة بعد أن كانت حتى حين من المقربين والحلفاء الذين استغلوا علاقاتهم الوطيدة مع النظام ورجالاته خلال أربعين سنة من أجل تنمية ثرواتهم بصورة غير مشروعة.

وثمة فئة أخرى ساهمت في الحراك الشعبي في بداية انطلاقه، ونتيجة لضغوط النظام على الحراك الشعبي واقتراب المخاطر منها فضلت الخروج من البلاد وطلب اللجوء السياسي والاستقرار في الخارج والعمل كمعارضة سياسية. وهناك فئة من المعارضين الذين يقيمون في الخارج لأسباب كثيرة (للعمل أو للعيش أو لغيرها) أغلبها أسباب لا تتعلق بمواقف معادية للنظام، فجأة بدأت تشتغل معارضة وتتقدم الصفوف. ولا يمكن تجاهل ألوان من المعارضة المسلحة التي تنتمي إلى تنظيمات إرهابية معروفة.

لقد طغت المعارضة بالصدفة على تلك المعارضة التي لها تاريخ في العمل السياسي والتي تؤطرها أحزاب وتحالفات سياسية معروفة. بتكثيف أقول تتدرج المعارضة في سوريا من معارضة اللحظة أو الموقف حتى معارضة النهج، من معارضة بعض رموز النظام السابقين وتجار السلاح ومن يقدم خدماته لدول كثيرة ومنها العدو الصهيوني، حتى معارضة الثوار على الأرض، وانتهاء بمعارضة جماعة الإخوان المسلمين وحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي وحزب البعث الديمقراطي وحزب العمل الشيوعي وغيرها من الأحزاب التي عارضت النظام الحاكم منذ عقود من السنين وتعرضت للملاحقة والقمع والسجن وحتى محاولة التصفية. إنه لظلم شديد، عداك عن أنه خطأ معرفي وسياسي كبير أن يتم جمع جميع المعارضين للنظام السوري في الوقت الراهن، أو من يدعون ذلك، سواء كانوا من المعارضين بالصدفة أو من المعارضة التي لها تاريخ تحت مسمى واحد هو المعارضة السورية.

من حيث المبدأ يسهل التمييز بين فصائل المعارضة التي لها تاريخ، على الأقل لجهة مرجعياتها التنظيمية، وخطها السياسي، رغم ذلك يوجد بينها نوع من الاشتباك يصعب فكاكه. لقد وصل بها الأمر إلى حد تخوين بعضها البعض، بل التعارك بالأيدي في غير مكان ومناسبة، وربما تتعارك بالسلاح في المستقبل. بطبيعة الحال سوف يقرر صندوق الاقتراع في المستقبل مصير كثير من هذه الأحزاب، مع ذلك لا يجوز في التحليل السياسي عدم التمييز بين حزب يغير نهجه وسياسته وتحالفاته بدوافع انتهازية، وحزب آخر يمارس نهجا وطنيا بامتياز.

ويسهل التمييز أيضا فيما يخص «المعارضة بالصدفة» بين أولئك المعارضين الذي انشقوا عن السلطة لأسباب تتعلق بالسلطة ذاتها، بما فيها من مكاسب مادية ومعنوية، وهم اليوم من أكثر المعارضين في الخارج تطرفا وعلو صوت، وبين أولئك الذين كانوا على مدى أربعة عقود موضوعا يمارس النظام عليهم استبداده ونهبه. المشكلة الرئيسة التي تواجه مجموع المعارضين بالصدفة، وهم اليوم يغطون المشهد الثوري والسياسي في سوريا، بغض النظر عن نشأتهم وعن طبيعتهم المعارضة، سواء أكانوا أفرادا أم تنظيمات حديثة تتمثل في ضعف خبرتهم السياسية، وبالتالي عدم التمييز بين متطلبات الثورة على الأرض، وما تحتاجه في الحقل السياسي، بين الشعار التعبوي والرؤية السياسية.

عدم التمييز هذا جعلهم يغرقون في المطالب دون تقديم أي حلول سياسية، بل صار الحقل السياسي بالنسبة للكثيرين منهم رجسا من عمل الشيطان. والأمر الأكثر غرابة بالنسبة للمعارضين بالصدفة هو سرعة تقبلهم وانزلاقهم إلى ساحة الصراع التي أرادها النظام، أعني ساحة العنف. منذ البداية كان واضحا أن النظام رسم استراتيجيته لقمع انتفاضة الشعب السوري على أساس دفع الناس لحمل السلاح من خلال تكثيف القمع لهم، وقد نجح في ذلك للأسف. اليوم لا صوت يعلو فوق صوت السلاح، وهذا بالضبط ما أراده النظام، ليس فقط لأنه الأقوى في مجال استخدام العنف، بل لأنه بذلك يقضي على أي إمكانية لكي تلعب القوى السياسية المعارضة دور العقل المفكر والسياسي للثورة وحرمانها بالتالي من أن يكون لها قائد وموجه هذا من جهة، ومن جهة ثانية يستطيع تلويث الحراك الثوري من خلال خلق بيئة ملائمة لتنشيط وتفعيل مجموعات مسلحة ذات طبيعة إرهابية، وغير مرغوبة دوليا، وقد نجح في ذلك أيضا. وكما نجح النظام في دفع الثورة نحو العسكرة، فإنه نجح أيضا في دفع المعارضة إلى رفض أي «حوار» معه، بل جعلها تتوهم أنها هي التي ترفض الحوار، في حين، حقيقة، هو الذي لا يريد الحوار مع أي فصيل معارض لأنه يدرك جيدا أنه في حقل المفاوضات السياسية يتعرى وينفضح أمره أمام العالم، وأمام مناصريه وأمام عناصر أجهزته.

مشهد المعارضة السورية اليوم يتميز بالتناحر: الجيش الحر من جهته يخون المعارضة السياسية كلها، والمعارضة السياسية تخون بعضها بعضا، ومدّعو النطق الرسمي باسم الثورة لا يعجبهم العجب، وكأنهم جميعا أرادوا، بقصد أو بغير قصد، أن يقولوا للعالم بأنهم غير جاهزين ليكونوا البديل عن النظام، عداك عن أن يكونوا البديل الديمقراطي. والأخطر من كل ذلك بدأت تغيب عن شعارات الحراك الشعبي في الشارع تلك الشعارات الوطنية الجامعة، وتحت وقع التدمير الذي يقوم به النظام للمدن والبلدات السورية بذريعة وجود الجيش الحر فيها، بدأت تظهر هنا وهناك بعض السمات الطائفية للصراع، في تحقيق لعنصر آخر من العناصر التي بنى النظام عليها استراتيجيته. وعلى العكس مما كان يتوقعه بعض الحالمين فلم يتغير هذه المشهد بعد المؤتمر الذي عقدته المعارضة السورية مؤخرا في القاهرة، بل جاء المؤتمر ليؤكده. فما إن انتهى المؤتمر، وقبل أن يجف الحبر الذي كتبت به الوثائق التي صدرت عنه، حتى عاد كل معارض إلى طبيعته، إنها أمراض «المعارضة بالصدفة».

الشرق الاوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى