المعضلة العربية: الدولة والحرب الأهلية/ موريس عايق
حكمت ثنائية «العسكر/ الإخوان» السياسة العربية لما قبل الربيع العربي، واليوم يبدو أن هناك سعياً محموماً من جانب الثورة المضادة لاستعادة هذه الثنائية وتكريسها كما يحصل الآن في مصر. غير أن هذه الثنائية تبدو تعبيراً مخصوصاً عن ثنائية أخرى أعمق وناظمة للمجال السياسي العربي وهي «الدولة/ الحرب الأهلية»، إذ لا يعدو العسكر أن يكونوا إلا تعبيراً عن الدولة، ويصبح «الإخوان» ذريعة أو طريق الحرب الأهلية.
ثنائية «العسكر/ الإخوان» هي شكل مخصوص لتجلي ثنائية «الدولة/ الحرب الأهلية» في سياق محدد وهو سياق تحلل الأنظمة السلطوية الشعبوية، فيما تتجلى ثنائية «الدولة/ الحرب الأهلية» في معظم الدول العربية، حتى تلك التي تحكمها أنظمة تعتمد أشكالاً تقليدية من الشرعية. لهذا سأهتم بثنائية «الدولة/ الحرب الأهلية» باعتبارها المعضلة العربية التي تواجهنا وعلينا التفكير بها.
تجد الحرب الأهلية أساسها في الانقسامات الحادة التي تعيشها المجتمعات العربية، انقسامات إثنية ودينية وطائفية، أو حتى دينية وعلمانية، بتعبير آخر هي انقسامات حول نمط المعيش ونظرتنا للحياة التي نريدها ونتطلع إليها، انقسامات أفقية تحيل المجتمع إلى مجتمعات متباينة ومنفصلة عن بعضها بعضاً، لها هوياتها الخاصة ورموزها وشعاراتها ومعاييرها التي تتمحور حولها، أو بتعبير خلدوني هي عصبيات متنازعة الأهواء لا تجتمع لها كلمة إلا بغلبة إحداها على الأخرى. مثل هذا النوع من الانقسامات والخلافات حول معنى الحياة التي نريدها لا يمكن له أن يُدار في شكل ديموقراطي، فالديموقراطية غير قادرة على إدارة الخلافات القائمة حول القيم والمعايير الأساسية للاجتماع. لن يسلم أحدهم رأسه لقرار الديموقراطية، بل سيحمل بندقيته ويدافع عن رأسه ضد الجميع. لم تستقر الديموقراطية الأوروبية طالما أن المتنافسين حملوا مشاريعهم الثورية، الاشتراكية أو المَلكية، لكن الديموقراطية استقرت بعد الحرب العالمية الثانية مع تخلي الجميع عن هذه المشاريع الثورية لمصلحة إطار عام متفق عليه ويمكن إدارة الاختلاف داخله. الديموقراطية لا تجيب عن سؤال: الاشتراكية أم الرأسمالية؟ تبدو الخلافات التي تمزق المجتمعات العربية والمتمحورة حول الثقافات الفرعية من النوع الذي لا يمكن إدارته ديموقراطياً، حيث يتم رد كل خلاف– مهما كان ثانوياً- إلى الخلاف الأساسي حول هويتنا وفكرتنا عن الحياة. ربما كان عنوان كتاب إسماعيل المقدم، وهو أحد أهم مؤسسي الدعوة السلفية في الإسكندرية، «بدعة تقسيم الدين إلى قشور وألباب» شديد التعبير عن هذه الفكرة، فلا يوجد مسائل ثانوية وأخرى مركزية، بل جميعها كلٌ واحد لا يجوز التفريط أو الاستهانة بأي منها.
في المقابل، تقدم الدولة العربية المتسلطة نفسها كمانع في وجه الحرب الأهلية وحامية للسلم الأهلي، لكنه سلم لا يتحقق إلا بانتزاع الحرية من المجتمع نفسه واحتكار السلطة كليةً في يد الدولة، ومن أجل حماية هذه السلطة الكلية وتكريسها شنت الدولة على مجتمعها حرباً أهلية باردة عبر مخابراتها وأمنها وعسكرها. تبدو الدولة العربية شبيهة بوحش هوبز، لكن ما يفرقها عنه هو عدم خارجيتها، فالسلطان لا يقف خارج المجتمع، مبتعداً بقدر متساو من الجميع، ويضمن السلم الأهلي من خلال سلطته الكلية. في الحالة العربية تقوم الدولة، لضعف قدرتها على الهيمنة واكتساب الشرعية، بتكريس واقع الحرب الأهلية في المجتمع من خلال تكريس وترسيخ هذه الانقسامات ورعايتها، فأسلمة المجتمع تمت تحت رعاية الدولة، واستدخال العلاقات الطائفية والقرابية في بنية الدولة تمت تحت سمع السلطة ورعايتها.
المعضلة أن كل خيار يستدعي الآخر بوصفه التبعة الوحيدة التي سيؤول إليها آخر المطاف. الدولة باستبدادها وتسلطها ورعايتها الضمنية لشروط الحرب الأهلية تؤدي في النهاية إليها، وهذا ما حصل في سورية والعراق واليمن وليبيا. في المقابل، يبدو أن لا شيء يقف في وجه الحرب الأهلية، المحمولة على انقسام اجتماعي لا يمكن التعامل معه في شكل ديموقراطي، إلا دولة قوية متسلطة تنزع عن المجتمع حريته. هذا ما يجعل من الحالة العربية معضلة وليس محنة، محنة الدولة في مواجهة الأمة كما يرى برهان غليون، حيث يمكن المفاضلة الأخلاقية بين الطرفين أو اعتبار أحدهما أصل البلاء والمحنة التي ألمت بالآخر. المعضلة، في المقابل، تظهر عندما يحمل كل خيار البذور التي تؤول إلى نقيضه.
كان الربيع العربي المحاولة الأكثر تألقاً للعرب لكسر هذا الاستعصاء، وقد اعتُمدت استراتيجيتان خلال الربيع، لم يحالفهما النجاح دوماً. ارتبطت الأولى بمسعى النخب السياسية إلى الديموقراطية التوافقية، التي تسمح لكل الأطراف بالمشاركة من دون أن تجد نفسها مهددة بالإقصاء عبر العملية الديموقراطية نفسها التي تحتكم حصراً إلى العامل العددي، مما يجعل النخب المقصية، في ظل غياب الثقة المتبادلة، جاهزة للتحالف مع النظام القديم في مواجهة ما تعتبره خطراً وجودياً يهددها. في تونس والمغرب، سعى الإسلاميون إلى ضمان توافق واسع والوصول إلى توافقات مشتركة وعدم الاكتفاء بالاحتكام إلى «الصندوق». بينما رفض «الإخوان المسلمون» في مصر التوافق حول المسائل الأكثر أساسية مثل المبادئ فوق الدستورية، مطالبين بالاحتكام إلى الغالبية العددية للحسم في كل الأمور الخلافية، بما فيها تقرير القواعد الناظمة العملية السياسية نفسها، مما دفع الآخرين إلى التحالف مع النظام القديم، وهو تحالف برره تحالف «الإخوان» السابق مع المجلس العسكري والعسكر في مواجهة التيارات الثورية الأخرى.
الخيار الثاني، الذي تجلى في لحظة الربيع العربي، هو الكتلة التاريخية أو التيار العام، التيار الذي يتمركز حول المشترك الثقافي العام بين المجموعات المختلفة ويبني عليه من أجل الوصول إلى توافقات واسعة تسمح لاحقاً بتطوير ممارسة ديموقراطية ومواطنية تتجاوز العصبيات الداخلية وتكون قادرة في الوقت نفسه على مواجهة الدولة المتسلطة وتقييد سلطتها. ظهرت الكتلة التاريخية خلال اللحظة الثورية، بفضل التركيز على ما يجمع الناس (وليس على ما يفرقهم) في مواجهة السلطة. أفسحت اللحظة الثورية المجال للجميع بالتماهي مع «الشعب»، عبر خلق مجال مفتوح وحر سمح للجميع بالتعبير عما يريدون ويحلمون من دون الشعور بالإقصاء والتهميش، وبالنقاش المشترك وبناء الجسور على أساس من القيم العامة والمشتركة، فيكون المجال المفتوح هو المكان الذي تجسد فيه «الشعب» في مواجهة السلطة. سريعاً ما وصل هذا الخيار إلى حدوده، فما أن اختُزل المشترك الثقافي إلى ثقافة الغالبية، حتى انتهى إلى تكريس فكرة هوية الجماعة «الأصيلة» في مواجهة جماعات أخرى نُظر إليها بوصفها دخيلة وغريبة، فعاد طيف الحرب الأهلية للظهور مرة أخرى.
لا تتباين الاستراتيجيتان حول الطريق وحسب، بل أيضاً حول النتائج المترتبة عليهما. لكن المهم هو أنهما تقدمان إمكاناً حقيقياً لكسر المعضلة التي نعيشها كعرب. التاريخ هو الذي سيحكم على مسألة نجاح أو فشل المحاولات التي تنتهج إحدى هاتين الاستراتيجيتين.
* كاتب سوري
الحياة