صفحات الحوار

المعمارية العراقية الخلاقة زها حديد: لا يمكن تخيّل ضخامة حاجز أن أكون عربية وامرأة لكني لم أرض يوماً بالحل الوسط

 

كوزيت كرم الأندري

كأنما اسمها رسم لها قدرها؛ فلها من الزهو الافتخار بإنجازات مهنية خارقة، ومن الحديد صلابته. طموحها عنيد، تشبثت به فطار بها إلى القمة وجعلها تتصدر لائحة أقوى نساء العرب، إذا ما استثنينا الشيخات وزوجات الأمراء اللواتي غالباً ما يحتللن المراكز الأولى. لزَها حديد سجل مليء بالأعمال الشاهقة كالأبنية التي صممتها، ما جعلها تستحق جائزة Pritzker Prize التي تعادل في قيمتها جائزة نوبل، فأمست بذلك أول مهندسة معمارية تفوز بها وأصغر من حازها سناً. هي فازت بأرفع الجوائز الدولية، وفزنا نحن بمقابلة امرأة غير عادية!

¶شغل والدك منصب وزير المال في العراق. يبدو أنك ورثت عنه حب الرياضيات التي درستها في الجامعة الأميركية في بيروت. لماذا لم تتخصصي في الهندسة التي برعت فيها؟

– قد يكون مردّ ذلك إلى أهمية مستوى حصص العلوم والرياضيات التي كنا ندرسها في بغداد في الستينات. أما علم الهندسة Geometry، فقد بدأت أميل إليه أثناء دراستي الجامعية، حين أدركت أن هناك رابطاً بين منطق الرياضيات والهندسة المعمارية والتجريد في الخط العربي. لذا أجدني متأثرة، لا بل مفتونة، برياضيات العرب التي هي مزيج من المنطق والتجريد. من هنا السيولة والخطوط التي ترونها في أعمالي.

¶لمَ اخترت بيروت آنذاك؟

– كانت بيروت المحور الثقافي والأكاديمي في المنطقة. وقعت في حب هذه المدينة ذات التركيبة العجيبة وأنا لا أملّ من زيارتها. السنوات التي أمضيتها هنا طبعت في مخيلتي الكثير وشكلت مصدر وحي لتصاميمي في ما بعد. لا شك في أنني تأثرت بهيكلية بيروت المتداخلة والمتعددة الطبقة. إنها مدينة مذهلة وشعبها يعانق الحياة بشغفٍ لم أر له مثيلاً سوى في البرازيل!

¶أي تصميم قفز باسمك إلى العالمية؟

– كان ذلك عام 1981، حين شاركت في مسابقة دولية حول نادٍ كان من المقرر بناؤه في هونغ كونغ. ضمت المسابقة معظم الأسماء الكبيرة في عالم الهندسة المعمارية آنذاك، بمن فيهم أساتذتي. كنت يومها مدرّسة شابة، فجنّدت عدداً من طلابي لتشكيل فريق عمل. أذكر تماماً أنهم شاطروني الشعور نفسه، وهو اكتشافي نهجاً جديداً غير تقليدي في عالم الهندسة المعمارية. التصميم الذي وضعته كان تجريدياً للغاية وغير عادي وقد فزت به في المنافسة، مما أثار دهشة الجميع. أما الجائزة المالية التي ربحتها فقد أنشأت بواسطتها مكتباً لي في لندن.

¶هل لعبت جذورك العربية دوراً ما في حياتك المهنية، أكان سلباً أم إيجاباً؟

– للأسف، غالباً ما شكلت جنسيتي عائقاً كان عليّ اجتيازه، ناهيك بالعائق الثاني المتمثل في كوني امرأة! لا يمكنك تخيل ضخامة الحاجز الذي كان عليَّ، ولا يزال أحياناً، مواجهته فقط لكوني عربية. إمرأة… وعربية! هكذا كنت كلما عملتُ جاهدة لتخطي المشكلة الأولى، انتصبت في وجهي الثانية…

¶ما هي المشاريع الأخيرة التي نفذتها شركتك، وما أبرز المشاريع التي تعملين عليها حالياً؟

– أكملنا أخيراً مركز حيدر علييف في باكو (أذربيجان)، متحف دونغ ديمون للتصميم في سول (كوريا)، وبرج الإبتكار في هونغ كونغ. نعمل حاليا على أكثر من 40 مشروعا في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك المسرح الكبير في الرباط والستاد الوطني الجديد في طوكيو، فضلا عن مشاريع كبرى في بكين، بلباو (إسبانيا)، اسطنبول وسنغافورة… من دون أن ننسى المؤسسات الوطنية كالبنك المركزي في العراق.

¶في الحديث عن موطنك العراق، أين أنت من إعادة بنائه؟ وأين زها حديد من الفورة المعمارية في الخليج؟

– إنها مرحلة تثير فعلاً شهية المهندسين المعماريين للعمل في الشرق الأوسط، والتطورات التي تشهدها هذه المنطقة تحض على البحث في تكنولوجيات التصميم والبناء. فقد أنجزنا، على سبيل المثال، مركز الملك عبد الله للدراسات والبحوث البترولية في الرياض. صحيح أن التخطيط المدني في العالم العربي إجمالاً ليس مثالياً بسبب سرعة النمو، لكن دول المنطقة تعمل جاهدة لتحسين البنى التحتية لديها، ونحن نشارك في هذه العملية من خلال بناء جزء من نظام المترو الجديد في الرياض. أما بالنسبة للعراق فقد خسرت، للأسف، كل من كانت تربطني به صلة دم في هذا البلد. والداي غادرا الحياة وجميع من أعرف رحلوا، لذا سأشعر بالمرارة لدى عودتي. لكني أتطلع إلى العودة على رغم الألم، وشركتي تعمل على عدد من المشاريع المميزة هناك.

¶كيف وصلتِ إلى القمة؟ أهي موهبة فذة، إصرار لا يعرف الهوادة، علاقات، حظ…؟

– المفتاح هو عدم الإستسلام! كنت ولا أزال في كفاح مستمر. المهم العناد في المحاولة وتكرار التجربة وإن تعثرت بعض الخطوات. لم أرض يوماً بما يسمى “الحل الوسط” لأنني مقتنعة بأن ذلك يؤدي إلى إضعاف العمل. ثم من الضروري الاقتناع بأن ليس باستطاعتك أن تقومي بكل شيء بمفردك، لذا عليك أن تؤمني بعمل الفريق. طبعاً شعرت بالإحباط مرات عديدة، إلا أني لم أترك كآبتي تستمر لفترة طويلة. فأنا بطبيعتي متفائلة وأؤمن بقدرتي على الخروج من الأزمات.

¶الكاتب يكتب… ثم يرمي أحياناً ما كتب في سلة المهملات. الرسام يرسم… ثم قد يمحو كل ما رسم بضربة من ريشته. كم من تصميم قمت به لم يرَ النور؟

– في هندسة العمارة تنافسية عالية، تالياً لا يمكننا الفوز بكل المشاريع. عام 1994، دخلنا في منافسة لتصميم دار الأوبرا في كارديف (بريطانيا) . قدمنا ​​عملنا وتلقينا بعد فترة اتصالاً يعلمنا بأن الفوز كان من نصيبنا. عمّت البهجة مكاتبنا، لكن ما لبثت أن تحولت إلى حزن شديد بعدما ألغي المشروع. هذه التجربة دمرت نفسية زملائي فكان عليَّ أن أرفع من معنوياتهم. في تلك الفترة، رحنا ندخل المنافسة تلو الأخرى لكننا لم نفز بأيٍّ منها. ربما كان هناك وصمة عار تلاحقنا، علماً أن التصاميم التي وضعناها كانت رائعة. كل تلك الأعمال التي أُجهضت، أكسبتنا مخزوناً كبيراً طوّرنا من خلاله معرفتنا في هذا المجال.

¶رفض نحو مئة معماري تصميمك لملعب طوكيو الخاص بدورة الألعاب الاولمبية لعام 2020، بعدما شُبِّه هذا التصميم بمهبل المرأة. كذلك يرى البعض أن تصاميمك صارخة ولا تنسجم مع طبيعة المكان، إضافةً إلى ضخامتها وكلفتها المبالغ بهما. هل تقومين بتصميم ما يرضي مخيلتك غير آبهة بهذه العوامل؟

– كل تصميم هو نتيجة دراسة نقوم بها عن تاريخ الموقع والثقافة المحلية، إلى جانب المتطلبات الهندسية. أنجزنا العديد من المشاريع بجداول زمنية ضيقة وموازنات تنافسية جدا. شعبية مشاريعنا والإعجاب الذي تحصده دليل على ذلك. مليونا زائر قصدوا متحف ريفرسايد في اسكتلندا، وزار نحو 1.5 مليون شخص مركز الألعاب المائية في لندن خلال الألعاب الأولمبية عام 2012، وقد اختاروا هذا المبنى كأكثر الأمكنة شعبية من بين تلك المتعلقة بدورة الألعاب الأولمبية. أما في سيول، فقد انضم إلينا أكثر من 500000 شخص للمشاركة في افتتاح متحف دونغ ديمون للتصميم.

¶بعد هذا الكم من الإنجازات، الجوائز والإبهار، هل لا يزال للحلم مكان، أم أن العادة والروتين يبتلعان نشوة النجاح؟

– الخطوة التالية تثير فضولي باستمرار. التطورات السريعة التي لحقت بالهندسة من جراء الحوسبة لا تُصدَّق، والصناعة تتجاوب مع هذه الفورة من خلال توفير أدوات ومواد أكثر تعقيدا من أي وقت مضى، مما يخلق تحديات وآفاقاً جديدة.

¶عندما تكون المسيرة المهنية للأنثى بهذا الحجم، هل تأتي حتماً على حساب الزواج والأمومة؟

– لم يكن هناك قرار بإعطاء الأولوية لجانب من حياتي على حساب الجوانب الأخرى، تالياً عدم الزواج والإنجاب لم يكونا خياراً طوعياً. أرغب أحياناً في أن آخذ قسطاً من الراحة لكن حتى لو حاولت، لن يدعني زملائي في المكتب بسلام. سيجدون حتماً ما يقولونه لي في أي وقت من النهار أو الليل!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى