صفحات الرأيناصر الرباط

المفكر والحاكم في تجربتنا وتجارب مماثلة/ ناصر الرباط

 

العلاقة بين المفكر والحاكم علاقة متشابكة في كل العصور، فيها شد وجذب مستمران بين الطرفين. فكلاهما يحتاج الآخر وكلاهما يحتاج إلى السيطرة على الآخر، أو على الأقل تحييده، للوصول إلى هدفه الذي لا يمكنه الوصول إليه من دون مساعدة أو مناكفة الآخر. ولو أن الغلبة تكون عموماً للحاكم على الصعيد الآني، فهو مالك الأرزاق ومحتكر العنف ومسير الأمور في المجتمع، على حين يملك المثقف شهادة التاريخ وقوة الحجة والمنطق وأساليب النقاش والكتابة والتدوين، وهي كلها أدوات ذات تأثير طويل المدى وإن كانت في مجمل الأحوال لا تفيد في حسم الصراع عند حدوثه.

ونحن لو راجعنا أياً من حلقات تاريخ العلاقة بين المفكر والحاكم في أي من الثقافات العالمية، وبشكل خاص تلك النماذج التي اتسمت بالصدام المباشر بين الطرفين، لوجدنا أن المفكر غالباً ما يدفع ثمناً باهظاً لهذا الصراع الذي يكلفه عادةً عمله وسمعته ورزقه وأحياناً أسرته وحريته وحياته. لكنه مع ذلك يخرج في نهاية الأمر منتصراً من منظور التاريخ، أو على الأقل تخرج قصته منتصرة، فجرأته هي ما نتذكره، ودفاعه عما اعتقد أنه الحق حتى لو كلفه ذلك غالياً هو ما يجذبنا إلى حادثة صراعه مع الحاكم أساساً، وشهادته أو شهادة زملائه وتلاميذه ومريديه هي ما نعتمده أساساً لحكمنا على العلاقة وعلى الصراع بغض النظر عن حجج الطرف الآخر.

فمَن منا مثلاً يتذكر من كان أصحاب السلطة في أثينا الذين حكموا على سقراط بالموت بتجرع السم عام ٣٩٩ قبل الميلاد؟ ذهبت ذكراهم وبقيت ذكرى سقراط وتحديه لهم، وسمعته كالمعلم الأول عالية مرفوعة. أو من منا يأخذ جانب أبي يوسف يعقوب المنصور الأمير الموحدي (والخليفة لاحقاً) الذي خاض حروباً جمة في الأندلس والذي بنى مسجد الكتبية في مراكش وبدأ مسجد حسان في الرباط والذي احتضن الفيلسوف ابن رشد في بداية عهده قبل أن ينقلب عليه وينفيه عن قرطبة ويحرق كتبه علانية بحجة مروقه وضلاله؟ أصبح ابن رشد علماً عالمياً من أعلام الفلسفة تُدرّس آراؤه في كل مكان، وأصبحت قصة مقاومته للطغيان الفكري معلماً حضارياً ونموذجاً، على حين انزوت ذكرى أبي يوسف المنصور في صفحات قليلة في كتب التاريخ. أو من منا يتذكر تفاصيل علاقة فيلسوف الأنوار فولتير بالسلطة وأصحابها في عصره، كالملك لويس الخامس عشر أو الكنيسة الكاثوليكية أو فريدريك الأكبر ملك بروسيا؟ كل ما نتذكره هو نقد فولتير للسلطة واستهزاؤه بأصحابها وأساليبهم وقصر نظرهم. ونحن نشاركه تلك الآراء بملوك عصره، بل نسبغ عليه في ذلك صفات التنزه عن المصلحة والجرأة والذكاء اللماح والخاطف، ما جعله رائد عصر الأنوار في الذاكرة الجمعية وإرهاصاً فكرياً بالثورة الفرنسية ومبادئها الإنسانية (من دون التطرق لدمويتها واستهلاكها العنيف لثوارها).

وتطول لائحة الأمثلة من كل مكان وزمان. ففي تاريخنا العربي المعاصر لدينا الكثير من نماذج الصراع بين الحاكم والمفكر، وهي كلها انتهت إما بقتل أو سجن أو نفي المفكر، ظلماً وتعسفاً على الغالب، وإن كان في ملابسات بعضها ما يثير بعض الشك. ومع ذلك فنحن في عموم الأحوال نميل إلى الوقوف مع المفكر في صراعه مع السلطة، ولا نحاول أحياناً حتى التأكد من أحقية موقفه، لأن صورته أنصع وسمعته أنقى وحجته أقوى، أو على الأقل هذا هو ما نعتقده بحكم تربيتنا وتركيب مجتمعاتنا وإحساسنا بالحق والعدل وميلنا الغريزي إلى الوقوف مع الأضعف. ونحن أيضاً نعتقد أن المفكر لا يصدر في موقفه عن مصلحة آنية أو عن إحساس مباشر بالقوة، على حين أن صاحب السلطة طبعاً هو الذي يضع مصلحته ومصلحة سلطته فوق أي اعتبار آخر.

المفكر أيضاً لا يملك من وسائل الإكراه والإجبار أكثر من قوة منطقه وسلامة حجته وسلطته الأدبية أو العلمية، على حين أن الحاكم هو صاحب القوة المباشرة من مال وجيش وشرطة وإدارة تأتمر كلها بأمره وتدافع عن مصالحه ومواقفه وقراراته. وصاحب السلطة أيضاً، وبسبب من سلطته، بطاش ومتهور وعنيف في غالب الأحوال، وهو بالتالي لا يحتاج إلى كثير من المنطق في تبرير موقفه أو تعزيز حجته. وهو لا يهتم كثيراً بأساليب النقاش والإقناع بما أنه يملك القدرة على تنفيذ قراراته في التو واللحظة وإلزام الآخرين بها. وهو لذلك ربما يتوهم أنه يسيطر على حكم التاريخ عليه وعلى تصرفاته. فهو مثلاً يحاول أن يصيغ التاريخ لمصلحته عبر أبواق دعايته ومتزلفيه، ومع ذلك فصورته في التاريخ دائماً باهتة عند مقارنتها بصورة المفكر بخاصة إذا كان للصراع بينهما نهاية مأسوية بان عبرها بطش الحاكم وجبروته.

وتبهت صورة الحاكم أكثر مع مرور الوقت وخروج الحكم عن سلالته وأسرته، عندما لا يبقى هناك أحد من متزلفيه يعمل على تلميع صورته، على حين أن صورة المفكر تشرق أكثر فأكثر مع مرور الزمن وتقادم العهد حيث تُصفى من كل ملابساتها المادية ويبقى منها العبرة والأمثولة.

لا يبدو أن أياً من ديكتاتوريينا العرب المعاصرين قد درس التاريخ أو اتعظ منه، أو أنه على أقل تقدير غيّر أساليب حكام الماضي في التعامل مع المفكر المشاكس، على رغم تقمص كل ديكتاتور عربي لصورة حداثية في تقديمه لنفسه ولنظام حكمه. فالإرهاب والإقصاء ما زالا الأسلوبين المفضلين، يليهما الترغيب ومحاولة شراء الذمم. وهنا يبدو الفرق بين المفكر الحقيقي والمفكر المأجور الذي يستخدم ثقافته في خدمة الحاكم بدلاً من دفاعه عن حريته وحرية الآخرين. هؤلاء كثر طبعاً في مجتمعاتنا العربية المحكومة بالقوة وبالاستبداد والمغرقة بمال الحاكم يغدقه على من يشاء من مادحيه ومتزلفيه من دون رقيب أو محاسب، فالسلطة سلطته والمال ماله. لكن هؤلاء المثقفين المأجورين ليسوا أكثر من غيرهم ممن يماثلهم انتهازية وتزلفاً في مجتمعات أخرى لا تعاني الاستبداد. يقابلهم طبعاً الكثير من المفكرين والأدباء والكتاب الأحرار العرب أيضاً. هؤلاء تجرأوا في أصعب الأوقات على رفع أصواتهم بالنضال ضد الاستبداد وهدر حقوق الإنسان وقمع الحريات العامة مع أنهم في غالب الأحوال دفعوا ثمناً غالياً من فصل من وظيفة أو سجن أو تشرد عن الأوطان. وهناك بعض منهم من الذين أصروا على مواصلة انتقاداتهم للحكام الديكتاتوريين ولأنظمتهم القمعية على رغم التحذيرات والتهديدات المبطنة التي تلقوها، الذين اغتيلوا على أيدي جلادي النظام أو إرهابيي الفكر المتطرف أو قتلوا تعذيباً في السجون. هؤلاء هم مفكرونا الذين مهدوا الطريق لثورات الربيع العربي. وهؤلاء من يجب أن نتذكر عندما نعود لنبني ذاكرتنا الجمعية بعد خلاصنا من كل أنواع الاستبداد وإن طال الأمد.

* كاتب سوري وأستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى