صفحات الرأي

المقاربات الجديدة للثورات العربية/ نجوان الأشول

 

مثّلت ثورات الربيع العربي، منذ حدوثها، تحدياً حقيقياً للأنظمة العربية، ليس فقط لأنها أدت إلى حراكٍ شعبيٍّ ضد هذه الأنظمة، وإنما، أيضاً، بما طرحته من مقارباتٍ جديدةٍ، مثلت، في جوهرها، قطيعةً لمنظومةٍ فكريةٍ رسختها الأنظمة المستبدة، وشبكاتها الإقليمية والدولية، في الوعي والوجدان الجمعي للشعوب العربية عقوداً طويلة. من هذه المقاربات أربعٌ مفتاحية: القيم الناظمة والمواطنة والعربية الجامعة والاستقلال.

تدور مقاربة القيم الناظمة حول الإعلاء الواضح لمجموعة من القيم، وهي الكرامة والحرية والإنسانية والعدالة، مسورةً بقيمتي السلمية والمدنية، وكل قيمة تحمل، في داخلها، قيماً فرعيةً متضافرةً مع بعضها داخلياً، ومع غيرها من القيم الناظمة. القيم التي تحاربها القوى المضادة للثورة، وتعمل حثيثاً على تشويه من يحملها، ويؤمن بها، لأنها تؤسس لمواطن عربيٍ مختلفٍ عن ذلك الذي شكلته الأنظمة المستبدة بمنظوماتها الإعلامية والثقافية والتعليمية.

أما مقاربة المواطنة، فطرحت فكرة الإنسان المواطن الذي يتمتع بالحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكاملة، بغض النظر عن نوعه ودينه وعرقه، فالمساواة المواطنية هي المظلة الحامية والحاكمة للجميع. وهذا، بالفعل، مثل تهديداً حقيقاً لكل مؤسسات الاستبداد، الدينية والعسكرية والأمنية، لأن هذه المقاربة تطرح، ببساطةٍ وقوةٍ أيضاً، قضية إزالة شرعية هذه المؤسسات في فرض وصايتها على المواطن. وبالتالي، لا يمكن مثلاً للكنيسة أَن تطرح نفسها ممثلاً حصرياً لعن المواطن المسيحي، باعتباره من رعايا شعبها المسيحي، المختلف عن المسلم الذي هو من رعايا المؤسسة الإسلامية، السنية أو الشيعية. ومن ناحية ثانية، لا يمكن الحديث عن وصايةٍ عسكريةٍ على مدنية الدولة ومواطنيها، باعتبارها، أي المؤسسة العسكرية، حاميةً للمدنية من الدينية التي صنعتها هي لحماية مراكزها السلطوية، وأنتجت تفكيكاً للمجتمع، رأسياً وأفقياً، بحيث تظهر تلك “العسكرية” الحامي والضامن للجميع، ومن الجميع. وبالتالي، يصبح المواطن الصالح، في نظرها، هو المنبطح لحماية المؤسسة العسكرية، والساكت عن طرح الأسئلة، الخاصة بوضع هذه المؤسسة داخل الدولة. أيضاً، مثلت مقاربة المواطنة تحدياً لمؤسسات الدولة المستبدة في أن تستمر في الادعاء بأنها تحمي حقوق المرأة، فمقاربة المواطَنة طرحت نموذجاً للمواطِنة الفاعلة، فهي شريكة، ومحرِكة، وقائدة وتابعة، ودافعة ومقاومة. ومثلت هذه المقاربة عموداً فقرياً للثورات العربية، فلقد طرحت، بالفعل، نموذجاً للمواطنين الأحرار، ذوي الحقوق الكاملة في مواجهة بعضهم. والأهم في مواجهة الدولة المُدّعية حمايتَها لهم من أنفسهم، ومن الآخرين، ومن المجهول غير المُعَرف إلا من خلالها.

أما مقاربة العربية الجامعة، فقد جاءت دالةً على الوعي الجمعي للكتلة الحرجة الثورية، بأن الحدود التي صنعتها الأنظمة الكولونيالية، وحافظت عليها الأنظمة الدكتاتورية، التابعة لها والقائمة في شرعيتها عليها، ليست سوى تراب. وأن القضايا العربية، وفي قلبها القضية الفلسطينية، هي قضيةٌ وهمٌّ عربيٌ مشترك، وليس شأناً فلسطينياً، كما روجت تلك الأنظمة. وبالتالي، لم تكن الشعارات، وحدها، التي انتقلت من تونس إلى مصر، إلى اليمن، إلى ليبيا، إلى سورية، وإلى المغرب، بل انتقلت الأفكار والأحلام والخطط. لذلك، لم يكن مستغرباً، أبداً، أن تقف القوى الإقليمية والدولية موقفاً معادياً من هذه الثورات، بل وتعمل على إجهاضها، لأنها تعلم أنّ أفكارا وقيما وأحلاما كهذه لن تحدها حدود، وأنها، أي الأنظمة، أضعف بكثير أمام شعوبها، الواعية بالتاريخ والمصير المشترك للمنطقة العربية.

وجاءت مقاربة الاستقلال الوطني، من خلال تحدّي الحراك الثوري للقوى الكولونيالية التي كانت مصدراً لشرعية الأنظمة الاستبدادية وبقائها: فهي، من ناحية، أعطت بعض تلك الأنظمة الاستبدادية شرعيةً قائمةً على حجة أنها أنظمة اعتدال. ومن ناحيةٍ أخرى، أعطت بعضها الآخر شرعيةً مزيفةً قائمةً على أنها أنظمة مقاوَمة للاحتلال، أو للغرب، وما هي بمقاوِمة، وإنما شُبه لها، وهكذا كانت تدّعي وصدقها كثيرون. وتعي القوى الثورية، بشكل واضح، أن الدول الغربية، بتصنيفاتها كافة، لا تؤمن بديمقراطية المنطقة، وتفضل العمل مع الأنظمة المستبدة والديكتاتورية، على أن تعمل مع أنظمةٍ ديمقراطيةٍ، تحاسبها شعوبها على العلاقات غير المتوازنة، والمكرِّسة للعلاقات الرأسمالية بين المركز والأطراف. لذا، أعلنت القوى الثورية، منذ اليوم الأول للربيع العربي، ضرورة الاستقلال الوطني على المستويات كافة. وكانت من الوعي بمكان بأنها لا تركز على الاستقلال الاقتصادي والسياسي فقط، بل أيضاً، على الاستقلال الثقافي، واعتبرته حجر ارتكاز للاستقلال الوطني الحقيقي والشامل، فكانت اللغة العربية حاضرةً في ميادين الحرية والاستقلال. ولم تمثل هذه المقاربة صفعةً قويةً على وجه الأنظمة الديكتاتورية فحسب، وإنما على وجه الأنظمة الغربية أيضا، والتي اعتقدت أنها سلخت العقول العربية من ارتباطها بلغتها وثقافتها العربية الأصيلة.

في الحقيقة، مثلت المقاربات الجديدة للثورات العربية الإطار الحاكم والحامي لها. وبالتالي، فإن هذه المقاربات لا يمكن أن تنتفي، أو تتلاشى، مهما تعرضت دول الربيع العربي إلى تحديات داخلية وإقليمية، كما أنها تمثل الأريج الذي ينتقل من مكان إلى آخر، مزعزعاً كل الأنظمة المستبدة في المنطقة.

فمهما طال الشتاء، لا بد للربيع أن يأتي في النهاية.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى