صفحات العالم

المقامرة في الخسران السوري/ أحمد جابر

 

 

يتداول المعنيون بالشؤون العسكرية مصطلح الفوز الاستراتيجي ومصطلح الربح التكتيكي، ويجدون أن الحرب مسار كرٍّ وفر، تتراوح بين حالتي النصر هاتين، ولا يغيب عن المخطط الاستراتيجي القول: أن هذه خطوة إستراتيجية، عندما يجد أن ما حققه في ميدان المعركة المحددة، يصبّ في مجرى المسيرة التي توصل إلى الانتصار في الحرب الشاملة. على ذلك، يصير ممكناً التمييز بين ربح معركة موضعية، لا يمكن تثمير نتائجها، لأن الخط البياني لمعركة صاحبها يميل إلى الهبوط، أي إلى الخسارة الإستراتيجية، وفي المقابل، يمكن الحديث عن فوز موضعي في معركة أخرى، يقال أن نتائجها تقرب أمد النصر الأخير.

وكل حديث عسكري هو حديث سياسي، هذا إذا استمر الأخذ بالقول المأثور: أن الحرب هي سياسة بوسائل أخرى. قياساً على هذه “المقولة”، كانت حرب العراق على الكويت فاشلة، رغم اجتياح القوات العراقية العاصمة “الشقيقة”، لأن أفق الحرب السياسي كان مسدوداً، أي لأن الحصيلة الدولية التي كان مطلوباً منها التسليم بنتائج الميدان رفضت ذلك، وباشرت فوراً الانقلاب على هذه النتائج، ثم أطاحت بها وبالقوى التي كانت سبباً في الوصول إليها. النتيجة العراقية اليوم بادية للعيان.

يكاد الوضع اليمني ينزل ذات المنزلة العراقية، فحيث يبدو للعقل “الإستراتيجي” التدخلي هناك، أنه متاح الإمساك بالساحة اليمنية ومن ثم توظيفها، من خلال التلاعب بالتوازنات فيها، بدأ يظهر تباعاً أن في الأمر مقامرة “تكتيكية”، لن تنتهي بإيداع الرصيد اليمني في حساب أصحاب النظرة الانتصارية الإستراتيجية الشاملة، لأسباب فيها ما يشبه “السبب العراقي” السابق، وفيها كل ما يشبه الخصوصية الحساسة والدقيقة في منطقة الخليج العربي.

المقامرة في الوضع السوري تظهر بجلاء أكبر، وعناصرها قابلة للرصد والتعداد والمتابعة، بحيث أن كل “مادتها” الملموسة، واحتمالات نتائجها، تكاد تكون معروضة أمام العين المبصرة، والبصيرة المفتوحة، أي أن التدقيق في أمري الربح الشامل والخسارة العامة، موضوع قابل للحسبان، بروية وهدوء، وأرقام، وجغرافيا وقوى أهلية، وبتحالفات محلية وإقليمية ودولية.

لقد أثبتت مجريات الكارثة السورية حتى الآن، أن خطوة النظام المسؤول عن سوريا، كانت الحركة العسكرية الأولى الخاسرة في مسار الاقتتال الأهلي، الذي اندلع بعد “ضربة الكف” الافتتاحية. علامة الخسارة الفاقعة الابتدائية، تمثلت في اعتقاد النظام السياسي أنه قادر على الرد على انفجار غضب الأربعين عاماً الشعبي، بالاستمرار في إجرائه التسلطي نفسه. لقد وُجد من زيَّن للنظام ذلك، مثلما وُجد من شرح له مخاطر تقديم تنازل سياسي ما، لتنفيس الاحتقان الشعبي الكامن والمتفجر، لكن أوهام الفوز الدائم على الشعب السوري كانت هي الغالبة، وعندما سار النظام على درب جلجلة أوهامه، لاقاه من لاقاه من خارج الإقليم، فانضم إليه البعض بالدعم والمؤازرة، والبعض الآخر بالتمويل والتسليح والمنافحة، و”الدولي” بغضّ الطرف حتى حين لم تكن حسابات المتدخلين الذين “انتصروا” للنظام متشابهة، لكنها لعبت مجتمعة دوراً تدميرياً أوصل سوريا إلى ما وصلت إليه. هكذا فُتح الوضع السوري، فتدخل مناوئو النظام، ولأن الحياة السياسية الداخلية كانت قد أبيدت تباعاً، على يد العسس الأيديولوجي والمادي، ولأن التحركات السلمية قتلت في رحاب سلميتها، لهذا وذاك، باتت الأرض السورية مسرحاً لكل قوى العبث بآمال الشعب السوري وبطموحاته.

ولأن النقطة المهمة، أو التي تلح على المقاربة هذه، هي نقطة لبنانية، فإنه من الواجب القول أن “اللبناني” قد انضم إلى مقامرة خسران سورية، لن تكون نتائجها أفضل من سابقتها العراقية، أو أفضل مما يلوح في أفق مسدود عن التجربة اليمنية. استعراض بعض الوقائع كفيل بتبيان بعض محطات معركة الخسارة هذه. يكفي القول أن ما من معركة حُسمت في الداخل السوري. لم يتحقق الحسم في درعا أو في حلب، ولا على الحدود التركية أو على الحدود مع العراق، وكذلك لم يحصل استتباب للحسم في القلمون، وأغلب الظن أنه لن يحصل. أفق اللبنانيين المشاركين في الحرب السورية مقفل سياسياً، وهذا قررته طبيعة الصراع، فحيث يصير النظام أحد أطراف الحرب الدائرة، تكون البلاد قد صارت بلاداً، والشعب شعوباً، وما دام الخراب شاملاً، فكل مشارك في الخراب صائر إلى خراب.

عليه، يبدو أن الاستغراق في المشاركة في الاقتتال السوري، ليس إلا طريقاً لمراكمة الخسائر، والخطير في الأمر، أن الخاسر هناك ليس الطرف المشارك في الحرب فقط، بل إن خسارته تمتد لتصيب كل الداخل اللبناني بانعكاساتها. طلائع ذلك باتت ممكنة الحصر والتعداد، فمنها فقدان معنى انتصار التحرير اللبناني عام 2000، ومنها استعداء أكثرية الشعب السوري ضد بعض المكونات اللبنانية، ومنها تشويش وتخريب علاقات لبنان العربية، ومنها حشر لبنان في معارك خارجية لا رابط بينها وبين مصالحه الداخلية، ومنها وليس آخرها، إصابة البنيان اللبناني بتصدعات إضافية، وعرقلة سيره نحو استعادة عافيته، واستئناف حياته الوطنية الطبيعية أسوة بسائر البلدان.

وبعد، كيف الاستمرار باللعب فوق المسرح السوري، وما في اللعب إلاّ حصاد الخسران؟ خطوة استدراكية متأخرة، خير من استمرار الوهم، الذي يكون قاتلاً… دائماً.

المدن

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى