المقاومة الاسلامية خارج الموضوع!
الياس خوري
وضع الخطاب الأخير للسيد حسن نصرالله النقاط على حروف الخروج النهائي لحزبه من الموضوع الذي يعصف بالعالم العربي، ويضع سورية اليوم في مفترق انتصار ثورة شعبها. فات السيد نصرالله ان يلاحظ بأن النظام الأسدي يتهاوى بسواعد السوريين وموتهم الكثير من دون اي تدخل عسكري خارجي. لكن خطأه الكبير الذي اخرج حزبه من الموضوع لا يكمن فقط في رثاء ‘رفاق السلاح’ من جلاوزة الأمن السوري الذين اذاقوا الناس الهوان، بل ايضا في رفضه المطلق الاعتراف بحق السوريين في الخروج من نظام السلالة الأسدية التي لا شرعية لها.
لقد وصل مسار حزب الله الى الطريق المسدود، وهو طريق محفوف بالمخاطر، لكنه يشير للأسف الى ان المقاومة الاسلامية اللبنانية التي ورثت المقاومة الفلسطينية في لبنان، لم تتعلم من الماضي سوى دروس تقنية، وقامت بتكرار الأخطاء السابقة، مضيفة اليها خطأ قاتلا اسمه تطييف المقاومة ومذهبتها، بحيث يسهل عزلها عن كثير من اللبنانيين، ويضعها في تناقض صارخ ومخيف مع محيطها العربي.
خرج حزب الله من انتصاره الأول عام 2000، عندما فرض الانسحاب على الجيش الاسرائيلي المحتل بهالة البطولة، وخرج من انتصاره الثاني في حرب تموز/يوليو عام 2006 بهالة القوة. هالتان جرى تبديدهما، وتمّ اغراقهما في المستنقع الطائفي اللبناني، قبل ان تأتي الثورة السورية لتسرّع من عملية التبديد هذه، وتوصلها الى نهاياتها المنطقية.
ورث حزب الله من المقاومة الفلسطينية اشباح الحروب الأهلية. والحق يقال ان الحزب تعامل بحذر شديد مع هذه الأشباح، وحاول تلافيها خصوصا عبر ادائه المتسامح في الجنوب اللبناني المحرر. واستطاع ان يمنع الانتقامات العشوائية، مدللا على نضج استثنائي، تجاوز فيه وحشية التطهير الطائفي الذي رافق الحرب الأهلية اللبنانية في مراحلها المختلفة. اضافة الى ذلك، فقد نجح الحزب في ابراز جدية عسكرية تثير الاعجاب، فاستخدم الدعم الايراني المفتوح بالسلاح والمال من اجل بناء جيش حقيقي قادر على الصمود والحاق الأذى والهزائم بالاحتلال الاسرائيلي.
لكن ما لم يستطع حزب الله التنبّه اليه هو مأزق تركيبته نفسها، فنجاحه في بناء قوته المقاتلة داخل ارضه الجنوبية، كان عنوان فشله في بناء هذه القوة خارجها. والحق ان هذا الحزب لم يكن قادرا على التوسع خارج بيئته الطائفية، فهو حزب اصولي ديني، يتبع منظومة ولاية الفقيه التي اسسها الخميني في ايران، وهو تاليا حزب اقلية مذهبية، تعيش في لبنان، وسط غابة الطوائف الاسلامية والمسيحية الأخرى.
لذا حاول الحزب تجاوز مأزقه البنيوي عبر نسج تحالفين: الأول اقليمي، وهو تابع كليا للتحالفات الايرانية، والثاني محلي، وهو جزء من منظومة التحالف الأول، لكن اليد العليا فيه هي للنظام السوري.
التحالف الأول اوقعه في قبضة التماهي مع نظام آل الأسد في سورية، والتحالف الثاني ادخله في تماس مباشر مع الحرب الأهلية التي حاول جاهدا الخروج منها.
رثاء نصرالله الأخير لجنرالات القمع في سورية ذكّرنا بالبندقية الاسرائيلية التي غنمها المقاومون واهداها الأمين العام لحزب الله الى والي عنجر رستم غزالي. لكن ما هو اكثر اهمية من الهدية هو الانزلاق الى حافة الحرب الأهلية، على ايقاع الصراع الاقليمي الكبير الذي تقوده ايران الخمينية في المنطقة.
التوترات اللبنانية المتوالية احدثت ثقوبا في جسد المقاومة، لكنها لم تستطع تمزيقه، وذلك لأن وعي الناس في العالم العربي كان وسيبقى مشدودا الى الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي، وهذا ما سمح لحزب الله، على الرغم من كل اخطائه البنيوية وتكتيكاته السياسية، في البقاء جزءا من وعي عربي يسعى الى مقاومة الهزيمة والاذلال اللذين تلحقهما دولة الاحتلال بالفلسطينيين والعرب.
غير ان الخطأ القاتل الذي وقع فيه حزب الله، ولم يسبق للمقاومة الفلسطينية ان وقعت فيه، هو تماهيه المطلق مع نظام يقتل الشعب السوري ويدمر مدن سورية وقراها.
كان منتظرا من حزب مقاوم ان يعلن على الاقل فتح بيوت اللبنانيين وقلوبهم للاجئين السوريين، ورفض الخطاب العنصري الذي يتفشى في بعض الاوساط اللبنانية ضد الشعب السوري. لكن السيد لم يكتف بتجاهل هذه المسألة، متناسيا الكرم الشعبي السوري مع اللاجئين اللبنانيين عام 2006، بل رثى جنرالات القمع، واعلن تماديه في التماهي الكامل مع نظام القتلة في سورية.
لا شك ان المقاومة الفلسطينية، في مرحلتها اللبنانية، ارتكبت الكثير من الأخطاء في تحالفاتها العربية، لكنها رغم ذلك، فتحت ابوابها للمعارضين العراقيين والسوريين والمصريين وغيرهم، ولم تنس ان دعمها وقوتها يأتيان من الشعوب لا من الأنظمة. واذا كان من نقطة سوداء في هذا التاريخ فهي تسليم المناضل السعودي ناصر السعيد الى موته الوحشي، وكان ذلك اشارة لا تخطىء الى بداية الافول.
لا يستطيع المواطن العربي ان يفهم لماذا وضع حزب مقاوم نفسه في خندق اعداء الشعب السوري! لماذا نقاوم اذا؟ الف باء المقاومة هو الدفاع عن كرامة الانسان وحريته. كيف تقوم المقاومة بتوجيه خطابها ضد الشعب؟
هنا تأتي لحظة الحقيقة التي حاولت المقاومة الاسلامية عدم الاعتراف بها. فالبنية الطائفية المذهبية ترسم الحدود، والقيادة الايرانية هي من يقرر، والتحاف مع نظام آل الأسد صار لعنة المقاومة ونقطة ضعفها.
صحيح ان الثورة السورية هي عنوان تغيير كبير في المنطقة، وصحيح ايضا ان الغرب يدعم تغيير النظام السوري بالكلام على الأقل. لكن من قال ان روسيا البوتينية ليست غربا وقوة استعمارية هي ايضا؟ ومن قال ان الخليج بعد انتصار الشعوب في المشرق والمغرب، سوف يبقى مركز العالم العربي وسوف يستولي على قرارات ثورة واجهت آلة البغي الوحشية من دون خوف؟ ومن قال ان رياح التغيير سوف تتوقف عند حدود سورية؟ واخيرا من قال ان البكاء على من اقفل جبهة الجولان اربعين عاما، هو افضل لتحرير الجولان من الوقوف الى جانب شعب يناضل من اجل كرامته وتحرير ارادته وارضه؟
خرجت المقاومة الاسلامية من الصورة، وصارت خارج الموضوع. هذا هو بؤس البنية الطائفية اللبنانية الذي افترس عمل اجيال من المقاومات: الفلسطينية والوطنية اللبنانية والاسلامية، وقام بتبديدها.
لا شيء يغفر الأخطاء اللبنانية القاتلة التي لا ترى تضحيات الشعب السوري الا من خلال عيون طائفية ضيقة، معتقدة انها تستطيع توظيف ما يجري هناك في لعبة الكراسي الطائفية هنا.
غير ان الأسى والحزن الذي يتركه موقف المقاومة الاسلامية في النفوس كبير وخطير، ويستدعي استئناف العمل من اجل تحرير فكرة المقاومة من كل ما علق بها من اخطاء وخطايا. المشرق العربي وخصوصا البلاد الشامية لا تزال في حاجة الى مقاومة شاملة للاحتلال الاسرائيلي، وهذا لن يبدأ الا بعد انتصار الثورة الديمقراطية في سورية.
القدس العربي