المقاومة تُسقط الأسد وتُنقذ الدولة
مهنا الحبيل
كقراءة موضوعية دقيقة، لم تشهد ميادين الداخل السوري تغيراً إستراتيجياً مركزياً منذ مطلع يونيو/حزيران الجاري، وعقب مجزرتيْ القبير ودرعا البلد اللتين جاءتا ضمن محاولات يائسة من النظام لإعاقة تقدم الثورة السورية, وسنشرح دافعه الإستراتيجي لسلسلة المذابح هذه.
لكنّ المنعطف التغييري الكبير برز في التصريحات التي انطلقت من أكثر من عاصمة ومصدر، ومنها تصريح المسؤول الأممي بأن الثوار باتوا يهيمنون على أكثر الأرض، ثم أعقب ذلك بمقولة تتناغم مع مواقف المعسكر الدولي والإقليمي المتواطئ ضد الثورة، وهو زعم المسؤول أن ذلك ضمن حرب أهلية شاملة.
وهذا غير صحيح من خلال قياس ومتابعة دقيقة للميدان وأخلاقيات وانضباط الثورة الحاسم ونتائجه على الأرض الذي منع انزلاق سوريا للحرب الطائفية، ولا يزال يمنع ذلك بإيمانه الثوري وتزايد قوة سيطرته على الميدان، رغم دفع النظام والإيرانيين وأحزابهم في المنطقة المشهد لهذه الوضعية، لتخلق لهم الفوضى الهدامة كخيار أخير لوقف الثورة الخلاقة.
إرهاب المذابح لن يُسقط الثورة
إن مدخل سبر زاوية النظام في إقراره الأخير لبرنامج المذابح الشامل لفهم هدفه ودوافعه من زاوية الفعل الإرهابي الذي يمثله, يلاحظ في سياق أنّ النظام كثّف المذابح ضد المدنيين واستدعى عن عمد محاولات توريط شامل للطائفة العلوية لاستخدامها في كل محافظة كطاقات جريمة منظمة تُمارس -مع الشبيحة المستقدمين من إيران وحلفائها- أبشع صور القتل التي سمعت عنها البشرية في التاريخ القديم, وهذا يعني بالضرورة التفكر وفهم الحالة التي تستدعي النظام وطهران لهذا الفعل, فلو طرحنا الصورة المعاكسة بأن النظام يستقر سياسياً ويحتوي الثورة -بحسب ما يردده إعلاميوه في لبنان أو في المهجر- فما هو الداعي للانتقال الآن للذبح الجماعي الشامل وتعزيز ورقة الطائفية؟
الجواب هنا ببساطة على النقيض إستراتيجياً، لأن الأسد يشعر بدخوله مرحلة الهزيمة فعلياً، وبأن الأرض تتحرك بقوة من تحته رغم كل الإسناد الروسي الهائل والترحيب الإسرائيلي الأخير بموقف موسكو، باعتبار أنّه يقمع الحالة الإسلامية كما تزعم تل أبيب, والحقيقة أن الدافع هو تطويل حالة إقامة النظام الذي شكّل توازن حماية لحدودها إستراتيجياً لعقود، عبر التلاعب بالتوازن الطائفي واختطاف الواجهة العربية لصالحه كنظام, فحسب الأسد خطوات توازن بقائه لمصلحة إسرائيل في مقابل ما تخشاه من عودة العمق العربي الشامل.
إذن لم يعد النظام يطمئن مطلقاً إلى أن هذا الدعم سيحميه، وتَطوّر رعبه بعد التقدم الإستراتيجي الذي حققته المقاومة بقيادتها الشرعية المركزية وهي الجيش السوري الحر، وعزز مخاوفه إعلان ضباط علويين انشقاقهم وانضمامهم أو تسليم أنفسهم للجيش السوري الحر, فهذا البعد جعله يتقدم لتفتيت هذا الجسر المتعاظم الذي تم أيضاً عبر تواصل شخصيات من الطائفة مع الجيش السوري الحر، ووجدوا في تواصلهم معه أمانا فعليا ووعيا متقدما رغم كل الجرائم التي ارتكبها النظام باسمهم، مع التذكير بأن الممارسة تظل مرهونة بأقلية من الطائفة في الميدان العسكري وإن اُستثمرت سياسياً في غالبيتها.
وهذا يعني للنظام تعززا إضافيا لحركة الانشقاق المستمر مروعا له، إضافة إلى التواصل المدني لبعض الزعماء الاجتماعيين للطائفة مع الثورة, فإذا أضفنا إلى ذلك قدرات الجيش السوري الحر وتعزز تحالفه، وإيمان الغالبية الساحقة من السوريين برمزيته الوحدوية وتنظيم انخراطها الميداني تحت شعاره كفصائل متعددة ومنتشرة كتائبها في الأرض السورية، فإن هذا الأمر بات يُشكّل قاعدة أساسية للانطلاق إلى معركة التحرير الشامل, وهو ما التقطه النظام بالفعل وعبّرت عنه رسائل المسؤولين السياسيين في الغرب وموسكو والأمم المتحدة.
رعبٌ من الثورة لا رأفة بالشعب
هذه الرسائل التي صدرت من عدة مواقع إثر هذا التقدم النوعي والانضباطي للثورة تؤكد كُلها قضية واحدة، وهي أن الثورة تزحف على الأرض، وأنّ هناك خشية كبيرة من كل أطراف المعسكر الدولي من حسمها دون تحقيق قيود واستيعاب لحصار الانتصار المحتمل.
فالناطق باسم الخارجية الأميركية -وفي ذات التاريخ، أي عقب تصريح المسؤول الأممي- أعلن مجدداً رفض تسليح المعارضة، وهو ذات موقف واشنطن الذي يُبلغ دورياً للخليج بتحذير أو تهديد. وأعقبت ذلك في يونيو/حزيران الجاري زيارة وزير خارجية موسكو لطهران، حيث نقل مراسل الجزيرة في طهران الزميل عبد القادر فايز أن لافروف طلب بالفعل من طهران التعاطي جدياً مع حل لسوريا عبر النموذج اليمني، أي تنحية بشار الأسد.
ورغم أن الثورة تجاوزت بمراحل هذا الطرح، فإنّ الزاوية التي تعنينا هي اعتراف موسكو الضمني للحليف الشريك مع النظام والقريب من الروس بالتحولات الكبيرة على الأرض التي تنقلها له وللرئيس بوتين شعبة المخابرات العسكرية الروسية في قاعدة طرطوس، وهو ما يجزم بوجود قلق كبير لدى الروس، ولو استمر خطابهم الإعلامي التصعيدي ضد الثورة للحفاظ على أي مستوى توازن ممكن لنظام الأسد.
هناك إذن قلق كبير في إسرائيل وموسكو والغرب من أنّ النظام لم يعد قادراً على الصمود أمام الثورة، رغم كل الدعم الدولي الذي قدم لموسكو وطهران والتغطية القانونية التي لم يشهد لها العالم مثيلا للمذابح ومشاركة الإيرانيين فيها.
ولذلك يُبقي المعسكر الدولي ومنظمته العالمية المخترقة مساحة تدخل لتحجيم الثورة -وليس لإنقاذ الشعب- باعتماد ضجيج ومسميات الحرب الأهلية التي تُكذبها حماية الثورة لأحياء الأقليات، واللقاءات التنسيقية الدائمة بين الحراك المدني والجيش السوري الحر لرعاية هذه الأقليات وحصر المطاردة والعقاب القانوني فقط في الشبيحة الجناة, وهو ما يعني أن الثورة السورية تقوم بامتياز بمسؤولية الدولة، والنظام يُجسد بتطرف مؤسسة عصابة إرهابية لا قانون لها ولا أعراف محترمة, المهم أن ما يعنينا من سياقات التصريحات هو الإقرار بالتقدم النوعي الكبير للثورة والتأسيس لمحاولة حصارها.
السلاح يحسم الجولة الأخيرة
هنا القضية تعود من جديد بقوة لمسألة السلاح، وهي تُعيد تأكيد المؤكد بأن تأخّر الطرف العربي القادر عن الدعم المركزي المباشر لتسليح الجيش الحر -كقوة للشعب وقيادة أساسية ضمن الأضلع الثلاثة (وهي الحراك المدني الثوري، والمجلس الوطني، والجيش السوري الحر)، وهو القوة التي لن يسمح وجودها ومركزيتها بتوسع بؤر أو جيوب على أساس مذهبي ضيق قد يُهيئ لاستثمار أطراف معادية- هذا التأخر في الدعم سيكلف المنطقة لأنّه سيعطي مهلة لإيران ليس للإشعال الطائفي للبنان فقط بل ومنطقة الخليج العربي، وتكون ضريبة الأمر فادحة على المنطقة، خاصةً أن كل دورة من الزخم الدولي تثبت فراغها من أي فعل وتؤكد تواطؤ واشنطن والغرب لبقاء الحالة على حساب السوريين, فيما يُحسم الأمر بالتقدم الواضح والشجاع المنتظر للتعاطي مع الثورة، ودعمها عبر أضلعها الثلاثة، الحراك المدني الثوري والمجلس الوطني وهما متفقان على دفع ودعم الضلع الثالث -وهو الجيش السوري الحر- كذراع وحيدة تحمي بإذن الله دماء المدنيين وهيكل الدولة.
وحين نقول السلاح فنحن نعني جدياً أولا هذا السمو الروحي المذهل للشعب السوري، وإيمانهم بالوعد الإلهي المقدس وتعلقهم به وركونهم إليه، وتبتلهم في فدائهم وأوردة أطفالهم وكفاح حرائرهم وثلة شهدائهم، مقاومين وناشطين، وصيحات ثكلاهم التي لا تعرف ولم تعرف إلا ربانية رهبانية متعلقة بعمود النصر وقدرة الخالق الناصر للمضطهدين.
فهذا هو السلاح الذي حقق توازن القوة لدى هذا الشعب العظيم الذي أثبت للتاريخ المعاصر أن مقاوم سوريا هو الأول في تاريخ الإنسانية المعاصر، وأن احتضانه شعبياً أمام أحقر قوة إرهابية نازية ساندها العالم -وهي نظام الأسد- يعني أنه شعب الصمود الأول في كل ثورات المشرق، حيث تمسّك بقوة الكفاح والمقاومة الشعبية والعسكرية وهو يدفن أبا ويفقد أخا ويحتضن أما ورضيعاً مذبوحاً متفحماً، وهو يتهدج قسَماً بالتهليل: بحق الله سوريا لن ينكسر مشروع تحريرها.
ولو تمكنت الأطراف الشعبية أو الرسمية من إيصال السلاح النوعي لقيادة الشعب الشرعية في الجيش السوري الحر وتحالف المجلس العسكري الأعلى التابع له، فإن مهمة التحرير والتخفيف عن هذا الشعب وحقن المزيد من دمائه ستتحقق، خاصة بعد الانعطاف الإستراتيجي للثورة الذي يتقدم بالفعل وقد يحتاج أشهرا نرجو أن تستبق مطلع العام القادم.
لكن المهم أنّ هذا الحسم سيعزز النصر ويقطع سبل أي مشروع لمحاصرة الثورة, حتى تصل أمانة أرواح الشهداء لساحة العباسيين، ويُعلن نشيد النصر ودولة التحرير وفاءً لمشروعهم، ويغني التاريخ تحية المجد لثوار وأرواح أبطال سوريا الميامين.
الجزيرة نت