صفحات الثقافة

المكان البعثي


    روجيه عوطة

يقول إعلام البعث إن بشّار الأسد هو الأقوى على الأرض. لا شك أن الرصاصة تقتل مباشرةً، أما اللافتات فلا تفعل ذلك مهما حاولت. مدى خمسة عقود، احتل البعث “الأرض”، من دون أن يترك حجراً على حجر فيها. هذه علة من العلل البعثية: المرء لا قيمة له فوق أرضه، حيث وُلد، ولا تحتها، حيث يموت. المكان أعلى شأناً منه، لأنه أداة اعتقاله أو لأنه الحطام  المهدوم على رأسه.

تعيث ماكينات الديكتاتور خراباً في المكان، وفق معادلة تساوي بين الإعمار والتدمير، القتل وإحياء المقتول، البقاء والمغادرة، وضمن منهج  شبكاته الخطابية الخارقة والفسيحة لمعقودي اللسان، أي هؤلاء الذين لا يعيشون في العمران البعثي بل هو الذي يعيش فيهم. يدافعون عنه بالقول إن الأسد “الإشتراكي” يؤمّن للسوريين مدارس ومستشفيات مجانية. تأمين هذه المرافق العامة لا يبرر قمع الحريات، أما خدماتها فلا ينجو من ضعفها و”مجانيتها” الطالب والمريض، ما يفضي إلى استغناء المواطن عن خدماتها.

بالعنف والإضمار، يتجلى المكان في بنية ثنائية متناقضة. يتماسك ويتقلص بين الإحتياطات اليوتوبية، الدينية والقومية، الأشد تدقيقاً في مجريات المجتمع والأكثر امتداداً في اتجاه تراتبي يستهجنه البعث ويراكم تناقضاته في خطابه المتجانس مع المكان المضمر والمحطم.

شجرة غودو والباب الذي نجا

يوم زار الأسد حيّ بابا عمرو، الذي دمرته قذائف “حماة الديار”، توجّه إلى المحيطين به قائلاً إنه سيعيد بناءه أفضل مما كان عليه. ليس غريباً على البعث التجوال في مكان يخرّبه ثم يعِد بإعماره من جديد، كي يعيد تخريبه فتشييده، إلخ. تريد السلطة البعثية من المكان أن يقبل موته، ويرضى بكونه مقبرة الميت. أي أن قاطنه هو في طريقه إلى الموت دائماً وهذا أكثر قسوةً من نهاية الطريق نفسه. المكان البعثي، من حيث معادلته العقابية، هو مكان فجّ، فالسوريون هم في طريقهم إلى الموت، منذ انقلاب حافظ الأسد. وهو ليس بمكان، من حيث انعدام الوصول إلى غاية، حتى لو كانت الفناء. في هذا المعنى، هو يشبه شجرة غودو، لا هي ثابتة، ولا يحظى الوقت بمكانته في أرجائها، فيطرى عودها وتيبس أغصانها وتتساقط أوراقها. هذه الشجرة مثل المكان البعثي، لا جذور لها، لكن خديعة الفيء تجذّر الجالسين تحتها في الوحول، آخرها وحل “المقاومة والممانعة”. لذا، فإن الداخل إلى هذا المكان مفقود والخارج منه مولود. فعلاً، يولد السوريون من جديد، وتعبر قبورهم إلى خارج المقبرة، حيث تصير أبواباً يخرج الأحياء منها.

جاب الأسد في الحيّ المنكوب لتمتين حُماته من إقفال المنافذ المكانية، ما يفسر الإبادة العمرانية التي تتعرض سوريا لها، في حين يوهمنا النظام، على لسان طاغيته، بـ”بناء المنطقة” مثلما بناها من قبل. والحال، أن البعث يساوي بين البناء والخراب: المدرسة والسجن، المستشفى والمقبرة، أحزمة البؤس والشبّيحة، الجامعة والجيش إلخ. أما المطار، وهو بديل من باب لم يُفتح بعد، ففيه ينضج “البناء” ليصير تأشيرة دخول إلى أحد البلدان. المكان البعثي، مثل قرينه اللبناني، مأهول بالرحيل. نتيجة ذلك، يتساوى البقاء بالمغادرة. فساكن هذا المكان، يبقى فيه ليغادر، ويغادره ليبقى فيه، كما لو أن السكن تحت شجرة غودو أو التفيّؤ بها مشروع استشهاد متواصل، لا أهمية فيه للموت أو للبقاء على قيد الحياة، فغايته الوحيدة هي بناء المكان خراباً.

في طريقهم إلى الموت، لا يبحث السوريون إلا عن باب، يخرجون منه. ثورتهم تفتيش عن الأبواب الموصدة، وانحراف عن الطريق الذي عبّده البعث بدمائهم. الانحراف عنه لا وجهة محددة له. فقد تكون الوجهة هي الهجرة في أيام السلم، والإعتقال أو النزول إلى جوف المكان، الذي تتوسده الجثث، خلال حرب البعث ضد المكان ذاته. فحين يشدد الأسد على إعادة تأهيل البنية التحتية، يعني بتشديده المقعر هذا، أن على بابا عمرو الرجوع  إلى قوامه السابق، أي إلى تصاميمه المحدّبة، المخبِّئة لقعور ساحقة. مع الوقت، المحدّب يلامس الأجوف، أو ينقلب الحيّ رأساً على عقب، مثل لافتات كفرنبل المقلوبة تماماً، التي تذكّر بشعار الهيبيين المشهور: “أوقفوا العالم، أريد أن أنزل”. النزول إلى قعر الحيّ المدمّر، يعني الصعود إلى سطحه، لمعاينة الخراب عن قرب. الساكن في المكان البعثي، يُقتل ولا يموت، يغادر ويبقى، يصعد لينزل، كالبعث الذي يبني ويهدم، مساوياً بين الفعل ونقيضه. فبرغم توسّد أبنية الحيّ سطح الأرض، يقدّم محافظ حمص تقريراً إلى الأسد حول الإنتهاء من إصلاح البنى التحتية بنسبة تسعين في المئة. مقصده واضح: لم يبق من الحيّ إلا الميت، أبيد مثلما شُيّد في السابق. بقي منه بابان. ففي صورة ملتقطة حديثاً في حمص، نرى باباً مغلقاً على الردم وآخر مفتوحاً على مبنى نجا من القصف، وبينهما، نرى درجاً حديدياً، ارتفاعه المبنيّ مُسَوَّى بدركه المدمّر، والتنقل على درجاته مثل التدرج في المكان البعثي: محض شلل عمراني.

خطاب القاتل الطليق في يوتوبيّته

في لبنان، نتلمس خطاب البعث، لكننا لا ننسبه إلى بعث لبناني، برغم حضوره في مقولات الأحزاب اللبنانية ومفاهيمها. نعزوه إلى البعث الأسدي حصراً. لا يفارق المكان البعثي خطابه، والخطاب لا يتعدى مكانه، إلا ليصطحبه معه. الخطاب البعثي يجلب المكان معه إلى حيث يُركن إليه. مكانه الجديد لا يختلف عن القديم كثيراً.

تتجاور المتناقضات وأقاويل التشويه الدعائي في حقل الخطاب، مثلما تتجاور، في مساحة ضيّقة، مقولة الإزالة (وليد المعلم) مع دعاية الإشتراك (الدستور). ترتبك الدلالات في الخطاب البعثي وتصطدم، فلا يسعها أن تتحاذى في ألف باء المستحيل، خصوصاً أن البعث لم يترك من الشِّعر، وهو مكان اللقاءات المفاجئة، إلا كتمان الضرورة وانتزاع المخفي من التمثلات التي توزّع علاماتها في خانات لا تخطر في بال أحد: تلافي الانتفاضة بحرب “عربية- إسرائيلية”، أو تعداد “المواد الدستورية” ومقارنتها بنصّ يلغي المكان لأن سلطته لا ترضى إلا بالتقاطع مع “نقيض” يناسبها لأنه فزّاعتها. تقدَّم لمنصب “الرئيس” وكالة طائفية تتشابه السلطات بها وتختلف فيها، كمشترك احتياطي ومعبر إيديولوجي من “العلمانية” إلى الدين السياسي.

ينص  دستور الدولة الجديد على أن “للحياة الخاصة حرمة يحميها القانون” وأن “المساكن مصونة لا يجوز دخولها أو تفتيشها إلا بأمر من الجهة القضائية المختصة وفي الأحوال المبيّنة في القانون”. هذه المادة عرضة للإنتهاك تلقائياً، عندما يمنع الأمر القضائي تمثّلها خارج النص القانوني نتيجة اختلالاته التي تكرّسها العلاقة المنضبطة بين مؤسسات التشريع والحكم والإجتماع. لا تغلق الدولة البعثية خطابها “الدستوري” على ما تعتبره تحديثاً، فثمة تطابق مستمر بينها وبين المكان الذي يتسلسل لكي تتمكن سلطاته من البقاء. تصوّر كاميرا الإعلام الرسمي جامعاً مدمَّراً، لتغمز من قناة “الإخوان المسلمين”، وتحذّر منهم في الوقت عينه. لا تنفضح طرق استمرار التطابق المكاني إلا في حالة انفجار المجتمع وانعدام مجاورته الناس، الذين كفلت المادة الحادية والعشرون قتلهم “في سبيل الوطن” كـ”قيمة عليا” وأوضحت أنهم ينتمون إلى “الشهداء”. كل ضحية للسلطة هو “شهيد” في مكانها اليوتوبي، ترعى المؤسسات “ذويه” بأحكام لا يمكن إلاّ أن تكون تحضيراً لـ”استشهاد” دائم. ينفذ الخطاب إلى أقصى المكان، ويجعله منافسه في إنتاج التشابه والمحافظة عليه في نوع من التنافر والتمايز الشكلي، الحاصل بين السلطة والمكان، وطبعاً المجتمع وناسه.

تتبدى السلطة متسلسلة في تعيين أنماط التنوع الهوياتي وتحديد كيفيات التعامل معها، بالعزل والتحليل والدمج، بحسب مضامينها المجمدة في أشكالها والجاهزة للضبط في “سيستيم” قمعي. المعيار ذاته الذي يقونن اللغة، يرفع السلاح في وجه المحكومين، يعاقبهم، يفصلهم عن اجتماعهم، ثم يغتالهم. لا شيء أكثر إخلاصاً للعنف مثل النظام. هو أشبه بقاتل طليق، كل مرة يقتل فيها، تتجدد أهليته الجرمية، ما يخوّله التجاوب مع يوتوبيته التي تظهر متغيّرة كأنها ليست من كيانه ولا تستدرجه إلى ممارساته ولا تنظّم إيديولوجيّته الأصولية، من لغة وقيم وإدراكات. يوتوبيّته تعيين إنتقائي للمحكوم. تعيين يسبق اللغة، ويصير رمزاً بقدر ما يجتاز عتبة التأويل. وتصبح اليوتوبيا البعثية أقلّ مدعاة للشك في وجود النظام ككتلة لا تجد نفسها معنية بخلفية نظرية ما، أو بمكان تندفع فيه وتطلق متشابهاتها داخله. وهذا لا علاقة له بالإنعتاق البورخيسي من الأحداث بالإعتماد على فوضى لا مكان لها.

يتكيّف البعث في كل مكان، شرط أن يتصوّر، على وجه الدقة، قانونه الداخلي وبناه السريّة. فوق مساحته هذه، يعيش المحكومون في يوتوبيّته التي تنمو وتتطوّر وتنفرط، فيحطّمها النظام ليعيد بناءها من جديد على أساس التجانس والتعنيف من ناحية، واحتكار التعاقد الإجتماعي من ناحية ثانية. يتدارك بذلك انقطاع التلاؤم بين “المواطنين” الذين يقتربون الواحد من الآخر، كي تجد العناصر الخطابية نفسها وقد اختلطت وتوافقت، وكل واحد منها يشير إلى آخر. يتقيّد التوافق الخطابي بالمكان البعثي تدريجياً، ويندرج في سياق ضبط المجتمع وينتمي إلى مؤسساته أكثر مما ينتمي إلى مكوّناته الأصلية التي يتوجب عليها التشابه في سلسلة من المعايير القانونية، مقرِّبةً المؤسسة من أطرافها الأبعد والأكثر حرية.

الإختصار ثم الإنقطاع

الجدير، استذكار حكاية تمويل مجلة “الآخر” الأدونيسية على يد ضابط أسدي سابق وأمبراطور تجاري، لإختصار المكان البعثي في مَثَل، أو في فضيحة على نحو أدقّ. فكما يبني جيش البعث المكان حطاماً، كذلك أدونيس، “الشاعر والمفكر الكبير” في المناسبة، يستند إلى الصيغة البعثية نفسها في بناء “الآخر” وثقافته، التي تناولها تعليقٌ حمصيّ يتهكم بأدونيس وانتهازيته بالقول إن على ضحايا البعث أن يفصلوا الدين عن الدولة قبل الموت قتلاً. الآلة الأدونيسية مثل الآلة العسكرية، أخلاق البعث مشتركة بينهما. لإخفاء الجثث، يبنيان القبور فوقها، حتى لو كانت قبوراً من كلمات فقط.

منذ آذار 2011 والمكان اليوتوبي لا يكفّ عن الإنسحاب أمام نفسه. إذ حددت الإنتفاضة الخط الفاصل بين المركب السياسي والمكان الإجتماعي، برغم بعض التمثلات الخطابية (الطائفية) التي انقطعت عن النظام اعتباطياً في مجموع تشكل جزءاً منه، كالرد على خطاب السلطة بخطاب يجانسه ويثبت فاعلية نسقه المتحرك. إلا أن الرد على النقيض بفكره هو فخّ ينصبه النظام ليُخضع وجوده وتلاشيه وينقلب على ذاته ليتماسك أكثر في تدشينه جولات عنف جديدة ضد الناس. ما إن ينسف حكم البعث المكان حتى يكون قد استبدله بـ”بعث” آخر، من المؤكد أن المجتمع، الذي ذاق الأمرّين، هو بغنى عنه. أولاً، لأن التجانس المنظومي لا حد له إيديولوجياً ومؤسساتياً. ثانياً، لأن النظام الذي يكفّر الكاتب حمزة الكشغري مثلاً، نتيجة تعبيره عن رأيه بكامل حريته والتفكر نقدياً في الدين، لن يقدّم أنساقاً فريدة في بناء المكان بل سيعجّل بتأكله وخراب اجتماعه في مدى يوتوبي غير مختلف إلا بالتجريب العنفي الواضح والغامض في آن واحد.

بعد أكثر من عام على انتفاضة شعبية متجددة، وعلى ثورة تُسقط منظومات فكرية وتعرّي أصحابها يومياً، أصبح تقويض دعائم البعث يستند إلى مواصلة اطاحة تركيبات سياسية كلية، لن تتحلل من تلقاء نفسها تبعاً لمبدأ “التناقض الذاتي”. فالنظام يصنع التناقض أيضاً ويعتمده في سياساته التي يجعلها مليئة باستثناءات واختلافات يجد فيها انسجامه وقوته، كحال “الجبهات الوطنية” وما تحويه من أحزاب يسارية وقومجية، تبيّن أنها صنمية، أكثر سوءاً من النظام لأنها تلخّص ما تعتبره السلطة “الشواذ الاجتماعي” فيها، لتظهره كملاءمات غير منقطعة عن خطابها المشروط بعلاقة “محتوٍ بحاوٍ”، وهي علاقة مطلق قوي بجزء ضعيف. تنبه إليها البعض من المنتفضين عندما استبدلوا شعار “يا الله ما إلنا غيرك يا الله” بشعار “يا الله ما إلك غيرنا يا الله”، وتنبهت إليها المرأة في سوريا عند إصرارها على أن ثورتها قد بدأت ضد الذكورية وتمثلاتها الثنائية في الثقافة والسياسة والإجتماع. لقد انقلبت المقاييس التماثلية في المكان اليوتوبي، والإنقطاع عن سلسلة التشابه البعثي ممكن وضروري كي يتقدم المتغيّر على الثابت، والحرية على مؤسسة “الإشتراك” بصيغته الإحتكارية. الثورة في سوريا، يتيمة ومغدورة ربما، لكن ناسها سينتصرون حتى لو كانت الإحتمالات صعبة في زمن الدم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى