المكان المُهان!!/ عزيز تبسي
لطالما راهنوا على الزمن، يتكفل كشط لحاء الأحجبة ويصل بهم إلى نواة البرهان، كاشفاً عن معنى الوقائع وسبر مخابئها وأسبابها. ربما أفرطوا بالتعويل على قوته الذاتية تتفلّت من قوى الجذب والنبذ، تَعبرُ المخاطر والعبث في ما بات يسمى ” ألاعيب الحقيقة”،وأحجيات الصواب والخطأ، والعبث المتعمّد بالوقائع، وتنقيح السير الذاتية للأعيان والأمراء وتصويبها، وتنظيف إصطبلات التاريخ وسجونه وسجلاته، ونقع القتلة والمجرمين بخلاصات ماء العطور، لطرد الدم من مسام جلدهم وأنفاسهم. رهان هدف ضمناً تشكيل المعرفة وتهيئها كقوة في متناول القوى الإجتماعية، تفصح عن معنى التجربة التاريخية وسيرورتها، ووضعها النهائي في نسق الفكرة القابلة للإدراك البيّن، وإختبارها في الممكنات، أو تجاوزها نحو المستحيلات التي تلهب خيال الشعوب المضطهدة، وتكون كذلك فرصة لإشهار إنتصارها، أو التلويح به، ورفع ميثاقها إلى الأعالي، وهو عينه ميثاق القوة الثورية التي تحملها. عملوا بدأب على توفير متطلبات الإنتظار، والتعويل على إنفراج في شفتي التاريخ، تفصح عن معنى العدالة والمساواة والحرية، لكن يحصل دوماً، مالم يكن في الحسبان، عجز الزمن بفعله الذاتي عن تجاوز عقباته والخروج من إختناقاته، إفتقاد الشهود والشواهد، إفتقاد العلامات والأدلة، إجبار الشهود بالتهديد والوعيد على تغيير شهاداتهم، جفاف الدماء ونثر العظام المطحونة، وتوهان الوافدون الجدد على المعرفة، في أتون إختبارها الناري، بين أهوال سرديات المنطوق الشفهي، وأناقة السرديات المكتوبة. وتوزع العامة في أرض الله الواسعة، أولئك اللذين كانوا يصدّون عن عيونهم الترابية ،شعاع الشمس اللاهب، بأكف مفتوحة، ليروا إقبال قطيع الماعز من شعاب الجبل، وإلتواءات الحمار المقبب بالأعشاب، متجنباً حفيرات وتجاويف الطرقات، وليعبروا الشوارع المتقاطعة، المزدحمة بعرباتها وعتاليها ودراجاتها النارية. اللذين حسبوا بأناة مطالع التقويم، ليصلوا خفافاً إلى مواعيد إزهار الكرز والمشمش والعنب واللوز والحنطة والعدس، وإقبال النسائم وإدبار الغيوم، وخروج النمل والقنافذ والسلاحف من مخابئها إلى براريها، ووصول أسراب القطا إلى مياهها، وإرتفاع النسغ كروح مخبوءة في جذع الشجر وأغصانه.. وكانوا في لياليهم يقوون إبنة الكرمة بمياه الفرات، كما يقوون في صباحاتهم إنحناءات الدوالي بأغصان الحور الجافة، ويركلون الوقت بأقدامهم الحافية إلى الأعلى ككرات من القطن المحشو برقائع من نسيج الكتان. ولا يكفون عن الدعاء لإنهمار المطر، والدعاء لتوقفه بعد أن يطفو أبناؤهم و محاصيلهم فوق سيوله. وحين أرادوا التعرف على بلادهم، بعدما تحولت إلى أوراق ومدونات حقوقية دولية، وقبل أن يتمرنوا على رسم خريطتها وتلوينها، طلب منهم أن يستلموها، وكأنما يستلمون أحد ذويهم من براد مشرحة المشفى، وكان عليهم التمعن به جيداً، للتأكد من وجود الأصابع والعيون والأنف والشعر، والطحال والكبد والرئتين والقلب والكلى والإحليل..، لم يكن متاح لهم الإعتراض على هذه القسمة الضيذى، وساعدهم الكسل على تقبل أقدارهم كما ساعد المتصوفة من قبلهم. ولم يلتفتوا إلى النداء المتأخر: تأكدوا من مطابقة المواصفات، قبل أن توقعوا على ورقة الإستلام!! يومها، أخذتهم الدهشة وذاك الفرح المنبعث، عن التلاقي بعد الغياب الطويل، بوطن يخرج من بين الأنقاض التاريخية، وتدربوا على محبة حلته الجديدة القصيرة الكمين المكشوفة الفخذين… وحفزت السلطات المتعاقبة الوشاية وجعلتها من لوازم المواطنة أو الإقامة، وسوقت الكذب كشطيرة يومية، وإمتهنت اللعب بالكلمات كإعتبار الرشوة كنوع من الهدية، والسرقة كضرب من إسترداد للمنهوبات التاريخية، وإعطاء الأفضلية للحديث المسهب عن الوطن كتعويض عن العجز عن تمام إسترداده. وإعتاد الناس معها على ترداد الكلمات الغامضة، التي لا تعبر عن شيء من مثل “ماشي الحال”، ورغم ذلك، وفور تسلل إستهلالية موسيقى النشيد الوطني، الذي كتب ولحن بعجالة، لا يستطيع أحد إلا أن يقف، الشغيلة والرعاة والمزارعون والشرطة… وتهيأ لهم ،أن الأشجار تبدو أكثر سماقة مما هي في الواقع، يضمون أذرعهم على أجنابهم، ويرفعون رؤوسهم نحو الأعلى، كأنهم في لحظة عبادة جماعية، صلاة تنبثق من صدورهم، يرفعون معها رؤوسهم، لأنهم مازالوا يعتبرون أن الآمال تأتي من الأعالي، وكلٌ يرى في تلك الدقائق ما لا يراه سواه، وطن من قطيفة رمانية تغدق جمالها على جسد عريان أنهكه البرد والمهانة؛ يلصقهم النشيد بصمغه، قبل أن تفككهم هتافات الحثالة يخاطبون كبارهم “أنا خرطوش بمسدسك” إيذان بعودة دورة العبودية والذل إلى مبتدئها. وهي فرصة للتأكيد على دوام زماننا الدهري، أن لا طبقات ولا طوائف ولا جماعات خارج الإختبار، وكما هي أقدار المعادن، أن ترمى بالنار لا لإهانتها، بل للتخلص من شوائبها وأملاحها وعوالقها الخسيسة، ليتولد بعدها فولاذها وذهبها…ويرتقيا سدة مجدهما. وفي إعتراض على ظلم الإقتسام و ما نتج عنه من أنظمة متعاقبة فعلت بهم “السبعة وذمتها” والجنون الدائم لحراسها، وحين لم تعد تنجيهم تلك العادات البالية، كإظهار الرايات البيضاء من نوافذ بيوتهم، أومن أعلى أسطحتها، بعد أن قرر الطغاة إهانتهم وقتلهم وتبديد دمهم في البراري. ضربوا المعاول في جوف الأرض، لا ليستخرجوا كمأتها وشمندرها وبطاطتها، وعظام أجدادهم وهياكل الحيوانات الخارجة من جلد وحشيتها وبراريها، المستأنسة قرب آبارهم وبيوتهم وبساتينهم؛ ليهتفوا أخيراً وهم يرفعوا أذرعتهم إلى الأعلى ككهنة مخذولين: خذوها وهللوا، ها هم أولادنا، ها هي أحشائنا، ها هي أرضنا، مطامعكم كغزاة في حياتنا، خذوها ولا تنصرفوا، إبقوا فوق الأرض التي أحرقتوها وأحرقتم معها قلوب من عفروا وجوههم من ترابها ولطخوا أبدناهم من طينها وألوان أعشابها، نحن من سنترك لكم اليابسة والمياه والسماء. خذوا من سماءنا، الدب الأكبر والدب الأصغر والقمر والثريا والزهرة والسهيل والسهى والميزان والحصان وبنات نعش…واللون الأزرق. خذوا من مياهنا الشبوط والسلور والسلطعانات والضفادع والسلاحف وقنديل البحر والأصداف ولؤلؤها المكنون… ومياه الشرب. خذوا من أرضنا النفط والغاز والفوسفات والقصدير والنحاس والبوتاس والمنغنيز …وملح الطعام.
عزيز تبسي حلب أيلول 2013
خاص – صفحات سورية