صفحات العالم

الملف السوري في قبضة الشيطان


باسل أبو حمدة

ما لم تتمكن آلة القمع أن تحققه على الأرض في سوريا، تتكفل به المبادرات والاتفاقات السياسية العربية منها والدولية على حد سواء، وتقدمه على طبق من ذهب لنظام حاكم يظن هو وحلفاؤه في المنطقة والعالم أن جل ما يحتاجه لمعالجة ما يطلق عليه خطأ أزمة هو الوقت والوقت فقط، فقد راحت محاولات وقف تغول تلك الآلة في الجسد السوري تتكسر على صخرة عقلية استبدادية لم تدرك بعد أو حتى لا يهمها أن تدرك أنها كلما استمرت في طيشها وكلما أمعنت سكينها في عضد المجتمع، فتحت شهية المزيد من الطامعين ووضعت الوطن الذي تتباكى عليه لقمة سائغة في فمهم.

هل أصبح الشعب السوري يتيما إلى هذه الدرجة التي تعطى فيها الفرصة للجميع كي ينصب نفسه وكيلا عنه وناطقا باسمه بحيث يحضر القاصي والداني طاولات الحوار التي تناقش قضيته بينما يستثنى الشعب السوري نفسه منها ويغــــيب عنها ممثلوه الحقيقيون ويغيب معهم أي طرح حقيقي يمكن أن يقود السفينة السورية إلى بر الأمان، لا لشيء إلا لأن شعبا انتفض وقدم كل هذه التضحيات الجسام في سبيل نيل حريته لن يكتفي بأنصاف الحلول ولا بأنصاف الثورات وسيمضي في طريقه قدما إلى نهاية المشوار ولن يتوقف قبل أن ينتزع حقوقه الطبيعية في الحرية والكرامة والعيش الكريم التي كفلتها له ولبقية شعوب الأرض القوانين السماوية والوضعية كافة.

يتعين على مطلقي تلك المبادرات الســــياسية فهم المعادلة السياسية السورية واستيعاب ما يجري على الأرض وفــــي أي اتجاه تسير عجلة التاريخ وعليهم أن يصمـــموا مبادراتهم وتحليلاتهم على هذا الأساس، فعجلة التاريخ ماضية إلى الأمام مهما حصل ولن يتراجع الشعب السوري قيد أنملة عن مسيرة الحرية التي عمدها بدماء أبنائه على مدار عام ونصف العام، ثم ألا يشـــعرون بالخجـــل عندما يقاربون مصالح شعـــب بأكمله وتضحياته ومعـــاناته وآلامه وآماله بمصالح فئة صغــــيرة متكسبة أعمتها الثروات الطائلة والسلطة المطلقة عن رؤية ما لغيرها من مصالح وراحت تستأثر بقدرات وطن وتستفرد بمصير شعب، ضاربة بعرض الحائط مروحة واسعة من حقوق الناس السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ما لم تتمكن جحافل الشبيحة من إنجازه في الميدان، تقدمه المحافل السياسية مجانا للنظام الحاكم في سوريا متعامية عن المعطيات التي يقدمها ذلك الميدان بصورة يومية حيث بات معدل القتل اليومي الذي تقترفه آلة الحرب النظامية في سوريا يفوق المائة شهيد، بينما تدمر مدن وقرى وبلدات على رؤوس أصحابها وعلى مسمع ومرأى الجميع ويشرد مئات الآلاف ويهيمون على وجوههم داخل الحدود السورية وخارجها، وعلى الرغم من كل ذلك يأتي مسؤولا دوليا مثل كوفي عنان ليقدم موعظته وينبؤنا، على سبيل المثال، بأن إيران رقم صعب في المعادلة السورية لا يمكن تجاوزه ثم يدعو إلى اجتماع دولي في جنيف لمناقشة القضية السورية يحضره الجميع ما عدا السوريون أنفسهم.

الأدهى من كل ذلك أن يتصدر الموقف الروسي والصيني مشهد مؤتمر جنيف العتيد حيث بدا وزير الخارجية الروسي متبخترا متعجرفا في غيه واثقا من قدرته على تعويم القضــــية السورية وإعطــــاء النظام السوري مهلة أخرى قـــد تطول هذه المرة لانهاء الثورة السورية، حيث بات من المعروف أن هذا المؤتمر انطلق من مبادرة كوفي عنان ذات البنود الستة والتي تنــــص أولا على وقف القــــتل ثم تدعو في بندها السادس والأخير أطراف الصراع في سوريا للحوار وليس العكس، ومع ذلك تمكن الروس والصينيون ومن خلفهم الإيرانيون من فرض البند الوحيد في المبادرة الذي لا يخدم إلا النظام السوري، لا لأنه سيشق طريقه إلى حيز التطبيق، بل لأنه من المستحيل تطبيقه لا في الداخل ولا في الخارج ولا بمشاركة النظام ولا بدونها قبل أن تطبق البنود الخمسة الأولى من مبادرة عنان والتي تنص على وقف القتل وسحب الآليات الثقيلة من المدن والأرياف وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والسماح بالتظاهر السلمي وبحرية الاعلام.

تصب عملية تعويم مبادرة عنان على هذا النحو وتعليقها من عرقوب بندها السادس في قناعة النظام السوري وأعوانه والتي تقول بأن العامل الحاسم هو الميدان في الحرب التي يشنها على شعبه، وبالتالي، فإنه لا يجد أي ضير في الحديث عن مسائل تتعلق بالحوار الوطني أو غيرها من المسائل التي لا تمس المعطى الميداني بشيء، وذلك على قاعدة قناعة أخرى بنى على أساسها النظام السوري كل سياساته الخاصة بالانتفاضة السورية وتقوم على الحل الأمني والأمني فقط، وكل ما عدا ذلك يندرج في إطار التكتيكات الخلبية التي لا بد منها عندما يتعلق الأمر بمناورة سياسية هنا وخدعة سياسية هناك أو حتى بالمجاملة.

النظام السوري رمى بورقته الأخيرة في حربه ضد الشعب السوري، وهي ورقة قائمة على الاستقواء بالخارج وجلب إيران وروسيا واستدعائهما للعب الدور الرئيسي في المعادلة السورية، ما يضع كل هذه القوى في مواجهة مباشرة مع الشعب السوري نفسه والقوى والدول المساندة له على المستويين الاقليمي والدولي بما فيهما العربي أيضا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن عملية الاستدعاء هذه لم يعد من الممكن إدراجها في سياق العلاقات الدولية الطبيعية أو حتى وضعها في إطار التدخل الخارجي، لأن تدخلا من هذا النوع يرقى إلى مستويات أعلى بكثير لا نريد القول بأنها ترقى إلى مستوى الاحتلال ولكن سنكتفي بوصفها بالاستعمار في هذا المقام، مع أنه هناك الكثير من المؤشرات والمعطيات والأرقام التي تشي بما هو أخطر من ذلك بكثير، وتقول إنه في حال استمر التدخل الإيراني في سوريا على هذا النحو التصاعدي، فإن سوريا لن تكون بمنأى عما آلت إليه اوضاع العراق.

يذكر مسؤول إيراني في الأمم المتحدة بالنفوذ الإيراني في سوريا ويهدد ويتوعد كل من لا يأخذ ذلك النفوذ بعين الاعتبار، لا بل إنه يتهمه بأنه لا يعرف شيئا عن الملف السوري، بينما لا يذكر في تهديده ووعيده لا النظام ولا الشعب السوريين، ما يوحي بأن الإيرانيين لم يعودوا يعتبروا أنفسهم طرفا خارجيا في المعادلة السورية بل محركها وبيضة القبان فيها، وكذلك الروس الذين وجدوا في الملف السوري الدجاجة التي تبيض لهم ذهبا في أطماعهم الخارجية، بينما بات الموقف الغربي بقيادة الولايات المتحدة مكشوفا بتبعيته للموقف الإسرائيلي، الذي ينطلق في الملف السوري من خيارين: إما بقاء النظام حارسا لخاصرته الشمالية الشرقية أو إدخال سوريا في فوضى سياسية عارمة من شأنها تكبيل المجتمع السوري وشل حركته إلى أجل غير مسمى.

النظام السوري زائل لا محال، لكنه يسعى قبل زواله إلى تكبيل سوريا بقيود داخلية وخارجية يصعب الفكاك منها، ألم يرفع شبيحة النظام شعارات من نوع ‘الأسد أو لا أحد’ ‘الأسد أو يحرق البلد’، لكن الشعب السوري سيبقى يدفع ثمنا باهظا بين مقولة ‘الصراع على سوريا’ من جهة وحقيقة أن ما يجري على الأرض حول صراع على السلطة من أجل الديمقراطية.

‘ كاتب فلسطيني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى