المنفى الذي لا يُعيد إلى وطن/ سمير الزبن
لا تسأل المنفيّ عن مكان عيشه، اسأله عن المكان الذي جاء منه، لتعرف أن هذا البائس الذي أمامك قد ترك الجنة وراءه في البلاد التي غادرها. أنت قد ترى بلاد المنفيّ تجسيداً للبؤس الخالص، لكن المنفيّ لا ينظر بعينيك إلى تلك البلاد، هو يراها بعينيه التي رأت النور هناك، ليس من الغريب أن يحوّل الاقتلاع الأماكن البائسة إلى فردوسٍ من بعيد. لأن المنفيّ يريد استعادة المكان الذي عاش فيه في الماضي، فهو لا يرى المكان الذي يعيش فيه في الحاضر، هو يبني الجدران العالية مع المحيط، ويتمركز حول ذاتٍ تأسست واكتملت في مكان آخر، وتعلقت به، هو كل شيء بالنسبة له، ما يجعل كل الأماكن مؤقتة، والوطن البعيد الثابت الوحيد، فلا هو يعيش هناك، ولا يكف عن الانتماء إلى هناك، في الوقت نفسه، الأكيد بالنسبة للمنفي أنه سيعود، هو حلم لا يغادره حتى وفاته.
يأتي تشظي المنفى من التناقض الذي يعيشه المنفيّ بين واقع الحياة اليومية، العيش بين غرباء، سواء كانوا جيدين أو سيئين من وجهة نظره، والواقع الذي يرغب العيش فيه، بين مكان الوجود القسري ومكان الانتماء المرغوب الوجود فيه، بين واقع الحياة اليومية بقسوتها ومتطلباتها التافهة والعاطفة الجياشة التي تشعلها أماكن أخرى وتحيل كل التفاصيل اليومية إليها بمقارنة منحازة، وليست عادلة، مقارنة محمولة على العواطف، وليس على الواقع.
“المنفى ليس عبوراً حيادياً للحدود بين بلدين، إنه حالة الاقتلاع من التاريخ الشخصي والوطني، ومن شبكة الأمان الاجتماعي التي ولد فيها الشخص”
ولأن المنفى واقع المنفيّ المرّ، فهو يعيد تشكيله إنساناً باستمرار، فالمنفى ليس عبوراً حيادياً للحدود بين بلدين، إنه حالة الاقتلاع من التاريخ الشخصي والوطني، ومن شبكة الأمان الاجتماعي التي ولد فيها الشخص، إنه فطام قسري، بين الشخص والمكان الذي يُعطي المعنى لكل الأشياء بالنسبة له، هو تحطيم للتاريخ الشخصي واقتلاع من السياق الطبيعي للإنسان. إنه ما يُفقد البشر قدرتهم على إيجاد نقاط الارتكاز التي تساعدهم في صناعة الخطط المستقبلية، واختيار الأهداف وتنظيم الأفعال لحيازة مكانة ما في مجتمعه، ويحوله إلى ورقةٍ في مهب الريح، فالإنسان يبني التاريخ الشخصي على مساحة خاصة من خريطة العالم، هذه المساحة يفقدها المنفيّ دفعة واحدة. بذلك، يصبح أي زرع زرعاً في حقول الآخرين. وفي لحظات صدام المنفيّ مع مكان العيش، عليه أن يرتب حقائبه، ويبحث عن منفى جديد ليعيد إنتاج الغربة. لذلك، ليس غريباً أن ينظر المنفيون إلى مواطني المنافي بشيء من الحقد والحسد والغيرة والدونية، فهؤلاء يعيشون في محيطهم الطبيعي، ويصنعون التاريخ الشخصي في محيطهم الطبيعي، بينما المنفيّ يجد محيطه غريباً وقاسياً، ما يصيبه بالارتياب من محيط مجهولٍ لا يعرفه.
يتعمق المنفى بمرور الزمن، ويفقد المنفيّ القدرة على الإمساك بالمركز، وتبقى الإحالة إلى الفردوس المفقود ما يقتات عليه المنفيّ. وهذا العجز في إنجاز الطبيعي في المنافي يُحال إلى الحياة الثابتة والمستقرة والمتجانسة التي كان يعيشها المنفيّ قبل الاقتلاع، وهذا الاستقرار كان أساس المقارنة مع الحالة اللاحقة من الاقتلاع والشتات والغربة والمنفى.
ليس من الغريب أن تتحدد حياة المنفيّ بالسلب، فهو يستقر في بلد ليس بلده، لكنه يرفض الاستيعاب والاندماج فيها، حتى عندما يعمل داخل المجتمع. العمل لا يعني الاندماج، فهو لا يهتم بشكل خاص بالشعب الذي يعيش بين ظهرانيه، في الوقت الذي يهتم بشدة بالشعب الذي غادره. من هو المنفي؟ “إنه الذي يؤول حياته في الغربة كتجربة لعدم انتمائه إلى محيطه، وهو يبجّلها لهذا السبب بالذات. يهتم المنفي بحياته بالذات، بل وحتى، بحياة شعبه بالذات، لكنه لاحظ في نفسه أنه لكي يرجح هذه الغاية، سيكون من الأفضل له أن يسكن الغربة، أي حيث لا ينتمي، إنه غريب ليس بصورة مؤقتة بل نهائية”، حسب توصيف تزفيتان تودوروف.
لأن المنفيين يصنعون تاريخ المنفى، فهم يصنعون تاريخ العالم العام وتاريخ العالم الخاص بهم. أصبح المنفى جزءاً رئيسياً من العصر الحديث الذي يجسد اتجاهاً مميزاً للمجتمعات المعاصرة، فالمنفيّ ذلك الكائن الذي فقد وطنه، من دون أن يكسب بذلك وطناً آخر، الكائن الذي يحيا في خارجية مزدوجة. لا شك أن الناس يهجرون أوطانهم، لاستحالة العيش فيها، فيجدون أنفسهم في المنفى الذي ينبع أساساً من الانفصال، أو الشرخ الذي لا براء منه بين شخص ما ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها، ما يجعل وضع المرء في غاية الصعوبة عندما “يجد نفسه غريباً ضائعاً بلا حول ولا قوة، لا يفهمه أحد، من أصل غامض، ومن مكان مجهول من هذه الأرض”، كما يقول جوزيف كونراد.
يعيش المنفيّ بديلاً عن وطنه، فيزداد التصاقاً به في منفاه، من دون أن يدرك الواقع الذي يخلقه الزمن، والذي يقول إن لا عودة للمنفيّ من المنفى، فهو تجربة نهائية. وعندما يقرر المنفيّ أن يُنهي منفاه، ويعود إلى الوطن، يكتشف أن للوطن طعم المنفى أيضاً. من يعود إلى الوطن بعد سنوات طويلة من الغياب، لا يعود الشخص نفسه الذي غادر، إنما شخص آخر كوته نار المنفى، فوجد في الحنين حلمه المريح، كما لا يجد الوطن الذي تركه، ولا تاريخه الشخصي الذي تبدد في غيابه، فيدرك أن الحلم يناقض الواقع الحقيقي. بذلك تكون العودة إلى الوطن تجربة منفى جديد، أكثر قسوة من منافي الغرباء. لذلك، غالبا من يقرر المنفيّ/ العائد العودة إلى منفاه، محاولا إشعال نار الحلم من جديد، من دون أن ينجح في ذلك.
العربي الجديد