المهدي واللحظة السورية والخلاص الأصولي/ حمّود حمّود
«لا شرعية» الوجود السوري، على الأقل بشكله الحالي، ربما بضدياته الطائفية، هي التي تؤكد بجزء كبير منها «شرعية الغضب» الأصولي الإيراني (الغضب الذي ذكرنا به مرة برنارد لويس)، وذلك للنضال والدم فداء للحظة المهدي المنتظر. هذا أقنوم من الأقانيم التي تحرك اليوم طيفاً واسعاً من التقعر الأصولي الإيراني في سورية. وسواء أكانت معركة الخلاص النهائية، معركة المهدي، والتي تعد بها الأدبيات المهدوية الشيعية، ستجري رحاها على أراضي الجامع الأموي الدمشقي أو حول أسوار القدس، كما يذهب إلى هذا عمق هذه الأدبيات، فإنّ ما هو مؤكد أنّ حالة الانتظار الأصولي قد بلغت أوجها عند أصوليي طهران. عناوين وألقاب كتائب الزينبيين والفاطميين والمهدويين… الخ والتعشق بالدم المصحوب بالتوق للشهادة… الخ كلها تترجم لحظة من لحظات هذا الانتظار الأصولي. ربما تعتبر اللحظات السورية، بالفعل، اللحظات المعمّدة بالصريخ الأصولي إلى السماء، من أشد اللحظات عنفاً على ذوات أصوليي اليوم (بعد تلك اللحظات العنيفة التي افتتحتها أيادي منتصف القرن السابع الميلادي)، بيد أنها أيضاً اللحظات التي يرى فيها المؤمن الأصولي صحة إتباعِ الإيمان بالعمل، أو لنقل ترجمة المخيال إلى عنف مقدس.
استيعاب المنطق الذي يتحدث به الأصولي، فضلاً عن فهم الذهنية العميقة التي تقولب كيانه العقلي والذاتي والسلوكي، مهم جداً لفهم منطق ردود أفعال «مجتمعات الانتظار» على انتظارها لحظة الخلاص، بخاصة في الأوقات التي تُترجم بالشهادة والدم، ولماذا أنّ مثل هذه الردود يجب أنْ تكون مدفوعة بعنف ينتهك ذات الشهيد والمُستشهد به، ولماذا مثلاً تنتاب هذا الشهيد الأصولي جِماحٌ مخيالية لعيش «الأصول الطاهرة» بكل ما تحمله من ثقل مقدس حتى ولو كلفته قساوة طهرانيتها الألم الشديد. وعلى أية حال، فكما أنّ طهرانيّة هذه الأصول، أياً يكن الشكل الذي تأخذه، تُشكّل بنية من البنى الجذرية للعمقية الأصولية، فكذا الأمر فإن «التاريخ الخلاصي»، الذي يسير ضمن غائية مكتوبة، حتى الوصول إلى لحظة الخلاص والحقيقة، وهي التي سيرسمها المهدي، يشكل جزءاً عقيدياً ثيولوجياً من قوام الأنا المهدوية.
سورية وبدخولها حقل هذه اللحظات الغائية للأصولي المُنتظِر (طالما أنّ ذهنيته تتحرك وفق غائية ستنتهي «حتماً» بالسماء)، فإنها قد عاودت ترميم، هذا إنْ لم نقل قد أعادت رسم، الحركة الأصولية الشيعية التي ولدت بشكل جديد من رحم خميني طهران (الحديث عن تفريخ أصوليات سنيّة من رحم هذه الخمينية جدّ مهم هنا، لكن ربما يترك لسياق آخر). ليس صحيحاً ما يذهب إليه بعض الباحثين الغربيين أنّ هذا الخميني قد بدأ بالقضاء على المنطق الإيسكاتولوجي الشيعي، من جهة بتسييس الخطاب الشيعي وإبعاده من الأبعاد الروحية للمقولة المهدوية، ومن وجهة ثانية حينما نصب نفسه أنه «الممهد» للمهدي، الأمر الذي حدا بـ «حالة الانتظار»، انتظار المهدي، لأنْ تخبو وتضمحل خلف متاريس «الجمهورية». الأدق من هذا أنه قد أعيدت على أيادي الخميني رسم خرائط تسييس الدين والثيولوجيا وتديين جديد للسياسة وإمبراطورية فارس. لا تمكن، والحال هذا، قراءة هذيان أحمدي نجاد الدائم بلحظة قرب وصول المهدي (مرة تحدث هو عن هالة المهدي الحاضرة معه أثناء خطابه الأول في الأمم المتحدة) سوى ضمن تطور الخرائط الأصولية التي دشن إعادة موضعتها قائد «الثورة الإسلامية».
أين تبدأ حدود هذه الخرائط وأين تنتهي؟ لهو سؤال ستترك الإجابة عنه لما ستتمخض عنه اللحظة السورية. ما يهم أنّ الحركات الإرهابية الإيرانية («حزب الله» واليوم شقيقاته في سورية)، التي بدأ بترجمة إخراجها خميني طهران وخليفته، تنتمي إلى هذا الخط الخلاصي الأصولي نفسه، المنفلت من عقال الدولة، لكن أيضاً المثقل بقوميات ما ورائية، كانت وما زالت فضاءات ما بعد الحداثة الباردايمَ الواسع في احتضانها ثيولوجياً وفكرياً. عنف هذه الحركات هو عنف على كلّ ضد؛ والطهارة منه فعل مقدس، حتى ولو ذهبت بنا هذه الطهارة حدّ السادية في اللعب مع الضحايا (الحركات الأصولية السنية الأصولية وتلك الشيعية على قدم سواء بهذا).
ما يهم التشديد عليه أنّ هذه المهدويات تشكل جزءاً واسعاً في فهم معارك المقدس اليوم في هذه اللحظات السورية. وإذا كانت الأصوليات السنية تحتكم إلى نمط آخر من مهدويات ضدية، فإنّ الأصولية الشيعية تقوم أساساً على أصولية الانتظار وترجمة هذا الانتظار إلى العنف: بالطبع تمهيداً وتطهيراً للحظة وصول المهدي. وكلما قربت هذه اللحظة ازداد «المنتظرون» أصوليةً. من هنا تمكن قراءة عنف كثير من الحركات الأصولية، والتي يندفع جزء كبير في هيجانها من خلال هذيانٍ أصولي هنا وهناك عن قرب هذه اللحظة (أحمدي نجاد وزمرته أعلنوا أيضاً مرة عن أنّ لحظة وصول المهدي ستكون في سنة 2009).
ما بين الارتماء الأصولي بأحضان ماضٍ خلاصي مخيالي مخترع و «انتظار» لحظة وصول رجل، يُقال أنه سيقيم العدل، ترتمي اللحظة السورية بكل ما تحمله من ألم يصعب على بشر اليوم حتى التفكر به. لا نعلم بالضبط إذا كان تطهير غوطة دمشق اليوم من الضديات اللاشرعية يندرج أيضاً ضمن مسلسلات الطهارة هذه. بيد أنه ربما يجب ألا ننسى دائماً أنّ مسلسلات الدم هذه هي أيضاً إحدى نتائج قمم الخراب المشرقي المديد- الخراب الذي تتسابق إليه أصوليات إسلام اليوم بكل أطيافها للطهارة منه تأسيساً للحظة الخلاص، الخراب الذي لا تشكل فيه حرب كل الأصوليين على كل الأصوليين سوى مشهد واحد من مشاهد الطهارة.
* كاتب سوري
الحياة