المهمشين في سورية .. يزدادون غرقا في النسيان !
– عامل نظافة في وسط الشارع, يقع على الأرض, يمدد على جنبه في الحديقة العامة, يجتمع حوله بضعة أشخاص من الشارع يرقبونه وهو مغمى عليه,
قلت لأحد أصدقائه: دعنا نطلب له الاسعاف
أخبرني” هاد مافيه شي دائما بيوقع بالساعة, إذا ما صحي بناخده”
فهمت أن الشاب يمر بنوبة صرع
وكلما اقترب أحد ليسأل عنه. تتكرر العبارة مع صداها بشكل كبير, ويعلو صوتها في أذني..
سرعان ما ابتعد جميع المارة, لم يبق إلا عامل نظافة آخر يعانقه بحزن, وهذا الشاب المسؤول عن تكرار عبارة “بيوقع بالساعة” كلما اقترب أحد, وكأنها عبارة طمأنة ..
لازال غائبا عن الوعي, غبت في تأمله ..شاب ضعيف البنية وهزيل, الجروح تملأ قدميه الحافيتين,
جاء المسؤول من البلدية ليطمئن على الشاب, أخبرته هل تعرفه؟
استغرب وجودي وسؤالي, وأخبرني هو الآخر ” مافيه شي بيوقع بالساعة”
سألته إن كان يأخذ دواء معين, أخبرني أنه منذ أيام لم يعد يأخذ دواءه , وأنه يمر بأزمة, وعاد ليطمئنني قائلا ” وقع بالساعة ما فيه شي”
لا أدري لم احتدت لهجتي وفجرت عصبية يومي في وجهه لأخبره “الشاب مريض ولا يقع بالساعة ! “
عم الصمت دقائق..
استعاد الشاب وعيه وفتح عينيه, كانتا واسعتين لدرجة مخيفة والحزن غائر فيهما, لم أقو على تثبيت نظري فيهما
سرعان ما مضى الجميع..
عامل النظافة وعربته, مسؤول البلدية وسيارته, والشاب الموجود ومحاولاته في دعوتي لفنجان من القهوة!
وبقيت أفكر ماذا كان يرى هذا الشاب في نوبته؟ هل كان يرى غباءنا وترفنا ؟ هل كان سعيدا أكثر وهو غائب عن الوعي؟
وأدركت بسخرية: ليست تلك التي يقع بها الشاب إلا “ساعة” في أزمنة لانهائية من قسوتنا !
…………………………………….
– من يعتقد أن الزجاج الشفاف ليس بحاجز, فهو مخطئ تماما !
أنا وذلك الطفل في نفس الشارع, وعلى نفس الرصيف بيننا فقط حاجز زجاجي,
أنا في الداخل, وهو في الخارج
في الداخل مكيف الهواء وأطعمة أشكالها أشهى مما قد تحتويه وأناس بمظاهر متناسبة وضحكات ودودة..
وفي الخارج, هو والحر الشديد وقدميه العاريتين وعينيه الجائعتين ..
فكرت في سري .. قلوبنا من زجاج
وما أخبث الزجاج !
– في مطعم في ضيعة, صبي بعينين خضراوين بعمل في المطعم , حين تسأله إن كان يذهب إلى المدرسة: يرتسم الخجل والخوف في صمته, أخبرني سرا .. أن والده لا يسمح له بالذهاب كي يعمل في المطعم .. ولم يستطع إقناعه..
– في كل صباح: تتردد أختي في إرسال طفلتها للمدرسة, ويعاد نقاشي معها أن عليها الذهاب.لأن الحياة مستمرة.. .تقنع هي لهذا اليوم وينتقل خوفها إلي..
في البلد:
كيفما التفت .. أطفال يزداد مع النزوح تشردها في الشوارع, والحدائق ..
ومع الخوف أو الفقر أو التشرد أو الجهل يزداد تسربها من المدارس .. وتسرب الطفولة من نفوسهم
…………
– كان فيما مضى يخرسك صوت ما باسم ” المخابرات والأمن “
اليوم تخرسك أيضا أصوات باسم: اللجان الشعبية, والجيش الحر,و…
كان فيما مضى يختفي إنسان ما لكلمة ما نطقها في مكان ما , فنعرف أنه ذهب لحيث بوجد الذباب الأزرق..
اليوم حين يختفي أحد ما, بسبب كلمة ما نطقها في مكان ما.. فلا نعرف قرب أي ذباب هو .. لم يتجدد شيء سوى أن الذباب تزاوج وتكاثر .. وأصبح أحمرا وأزرق وأخضر و بنفسجي … وجعل الممكن أبعد !
……………
لطالما تمر هذه المشاهد من جوع وفقر وحرمان وقهر وكبت واستبداد وطفولة مسروقة في حياتنا كل يوم وفي أكثر من موقف ..
ولطالما كانت الأصوات التي تكترث بها قليلة ..
لازال هؤلاء موجودون .. و الموت والدم والسلاح والنزوح في سورية, زاد الجوع جوعا والفقر فقرا والتشرد تشردا ..
ولكنه لم يجعل الأصوات التي تكترث أكبر , بل جعلها خافتة أكثر !
والمعادلة العكسية تستمر في غرقها نحو الأسفل ..
والانسان في بلدي يستمر في صموده وألمه وفي طريق النسيان صعودا..