الموارنة والمسيحيون بعد “نهاية التاريخ” في سوريا
جهاد الزين
هؤلاء المسيحيون الذين تحمل الحداثة رائحة وازياء احيائهم ومدارسهم سنكتشف انهم يستقبلون الآن المرحلة الاكثر حداثية وغربية في المنطقة منذ عقود بتحفظات بل باعتراضات.
لا يمكن للمراقب السياسي، خصوصا اللبناني، الا ان يتوقع الضجة التي بدأت تثيرها التصريحات التي ادلى بها البطريرك الماروني بشارة الراعي خلال زيارته الى فرنسا.
فهذه التصريحات ليست مجرد مواقف غير مألوفة صادرة عن الرئيس الجديد للكنيسة المارونية، انما هي بما تعنيه حرفيا انقلاب حقيقي في مواقف هذه الكنيسة ليس قياسا بالبطريرك السابق مار نصرالله بطرس صفير وانما بما هو ابعد من ذلك.
لهذا تستلزم هذه التصريحات قبل اتخاذ موقف منها سلبا او ايجابا ان نسعى الى فهم اسبابها والمعطيات التي ادت الى صدورها. فهي لم تصدر فقط عن البطريرك بل اختار صاحبها اطلاقها في العاصمة الفرنسية التي تقود سياسات نقيضة لها، وهي اي باريس ماهي عليه من اهمية رمزية وعملية في حاضر وتاريخ الموارنة ولبنان الصغير ثم الكبير.
يمكن اختصار تصريحات البطريرك الراعي في اربع نقاط اساسية:
الاولى هي الموقف من خطر التشدد الاسلامي السني على المسيحيين السوريين وبالتالي اللبنانيين بل على مسيحيي المنطقة.
الثانية هي الموقف المتفهم لوضع النظام السوري من حيث حاجته الى الوقت لتنفيذ اصلاحاته الموعودة.وهذا يعني نوعا من التأييد لهذا النظام.
الثالثة وهي تأييد عدم تسليم “حزب الله” لسلاحه قبل انهاء الاحتلال الاسرائيلي لما تبقى من اراض لبنانية بحوزته ولتأمين عودة اللاجئين الفلسطينيين الى بلادهم.
الرابعة وهي اشتراطه ان لا تكون المحكمة الخاصة بلبنان مسيّسة او مزورة… لتأييدها.
هذه المواقف بالمعايير اللبنانية والاقليمية هي مواقف صاعقة وخصوصا لفريق مسيحيي 14 اذار، ناهيك عن انها تحمل تحديا مباشرا في نقاطها الثانية والثالثة والرابعة للسياسة الغربية الاميركية والاوروبية في لبنان والمنطقة وليس فقط للدولة المضيفة فرنسا.
لو حملنا على محمل الحرفية كلام السيد الراعي لكان بامكاننا ان نعتبر بلا اي تردد ان اقوال البطريرك الاخيرة تعني لاول مرة منذ عام 1920 انتقالا للكنيسة المارونية من اولوية خطاب الحفاظ على صورة ما للبنان السياسي التي هي مؤسِسة تكوينية بالشراكة مع الفرنسيين في قيامه كدولة الى اولوية استطيع القول ولو بحذر انها من نوع جديد هي اولوية الحفاظ على وجود المسيحيين المشرقيين في بلاد الشام بما فيها لبنان وفلسطين والاردن وطبعا مسيحيي مصر وما تبقى في العراق.
الكنيسة المارونية هي الكنيسة الوحيدة في العالم العربي التي تعتبر نفسها مسؤولة عن كيان وطني له دولته على غرار الكنيسة الارمنية في القوقاز والصربية واليونانية والبلغارية في البلقان والبولونية في شمال اوروبا ناهيك عن علاقة الكنيسة الروسية بالدولة الروسية ما قبل وما بعد الحقبة السوفياتية.الكنائس العربية الاخرى او الموجودة في العالم العربي لا تملك هذه الخاصية بما فيها الكنيسة القبطية التي وان كانت شديدة الاعتزاز حتى داخل العالم المسيحي باصالتها الوطنية الا انها لا تعتبر نفسها مسؤولة عن الدولة المصرية على الاقل منذ الفتح الاسلامي، بل العكس هو القائم اي كونها خاضعة لتقاليد الدولة “السلطانية” المسلمة المصرية.
منذ عام 1920 تأسست الثقافة السياسية المسيحية اللبنانية على الحساسية الكيانية اللبنانية حيال سوريا كداخل واسع ثم لاحقا ككيان موحد عاصمته دمشق باعتبار الاخيرة مصدر تهديد الاستقلال اللبناني. ستستمر هذه الحساسية اللبنانية وبكركي عنوان رئيسي فيها، لتبلغ بسبب مسؤوليات سورية ولبنانية متبادلة لسنا في مجال التدقيق فيها هنا، مستوىً عاليا من التوتر في العقدين المنصرمين.
تنزع تصريحات البطريرك الراعي الاخيرة اذا اعتبرناها “كُلا” مترابطا الى اولوية الوجود المسيحي المشرقي لا اللبناني وحده. وبهذا المعنى هي تحدث تعديلا نوعيا في خطاب الحساسية باتجاه تغييره الفعلي مرتبة الخطاب المشرقي داخل توجهاتها السياسية. وليس صدفة في هذا السياق ان تنضم هذه التصريحات الى النمط الغالب لخطاب الكنائس الانطاكية الاخرى ولكن طبعا سيعني، هذا لأن المارونية هي الكنيسة العربية الاقوى سياسيا- وان كانت ليست الكنيسة الاكبرعدديا وجغرافيا- سيعني انها ستحتل الموقع القيادي بين الكنائس في الخطاب المشرقي كونها الكنيسة “الدولتية” الوحيدة (السلبيون يقولون انها الكنيسة الوحيدة غير الذمية).
البعد الاخر لتصريحات البطريرك اذا كانت غير عابرة انها تنتقل الى تبني مفهوم تحالف الاقليات المسلمة والمسيحية في مقابل الاكثرية السنية. ادخال موضوع “حزب الله” في التصريحات يعني ان الشيعة الاثني عشرية جزء من هذه الاقليات في نظر البطريرك.
لا بأس هنا من التدقيق. بما ان مواقف السيد الراعي تضع ضمنا ومباشرة الطائفة الشيعية ضمن الاقليات في المنطقة، لا بد من التساؤل عما اذا كان هذا “التصنيف” للشيعة دقيقا قياسا بـ”معيارين”، الاول هو مسؤولية الحالة الايرانية التاريخية منذ العام 1979 عن تفعيل بل اطلاق الاسلام السياسي الذي يتوجس منه البطريرك الراعي بمعناه “الاكثري”داخل ايران ذات الثمانين مليون مواطن، وبمعناه الايديولوجي الذي سيساهم في تفعيل مد اصولي سني هائل اعتبارا من منتصف الثمانينات من القرن العشرين، رغم ان جزءا مهما من الجيل الثاني لهذا المد سيصبح معاديا للشيعية الخمينية.
المعيار الثاني هو دور الاسلام السياسي الشيعي ايضا الاغلبي في العراق – الى جانب الاسلام السني – في ما آلت اليه الحالة العراقية بعد العام 2003 ومن ضمنها اوضاع المسيحيين “الانقراضية” في بغداد المختلطة مذهبيا وفي الشمال الموصلي السني مع التذكير الدائم بأن تدهور اوضاع المسيحيين العراقيين بدأ في الثلاثينات من القرن الماضي. فبعكس الازدهار الاجتماعي الذي لاءم المسيحيين مع تأسيس الكيان السياسي السوري والحماية الملكية الدستورية للاقلية المسيحية الاردنية يجب ملاحظة ان الكيان العراقي منذ تأسيسه عام 1921 سيظهر سريعا انه لم يلائم بشكل عميق المسيحيين العراقيين لا في المجال السياسي بعكس لبنان والاردن، ولا في المجال الاجتماعي الاقتصادي بعكس سوريا، بينما سيشاطر المسيحيون الفلسطينيون سوء الطالع الذي اصاب المسيحيين العراقيين انما بشكل اقسى بما لا يقاس لان المسؤولية هناك تتعلق بالعدو الاسرائيلي وفي سياق وحشي لم يميز بين مسلمين ومسيحيين. لكن من الواضح في خلفية تصريحات سيد بكركي ان الشيعة في لبنان هم جزء من اقليات بلاد الشام رغم سيطرة نوع من الاسلام الاصولي على تمثيلهم السياسي.
دائما يخبىء التاريخ اشكالا غير متوقعة من ردود الفعل. ففي الزمن المفاجىء للثورات العربية شبه الشاملة تحت الشعار الديموقراطي اساسا شهدنا في جملة وقائع كثيرة ان حركات الاخوان المسلمين لاسيما في مصر هي في الواجهة الديناميكية للحدث. لكن شهدنا ايضا بروزا سريعا لحساسية سلبية من الفاتيكان حيال تأثير التيارات الاسلامية المتشددة المباشر في مصر. استدعى هذا رد فعل ليس من المتطرفين بل من المؤسسة التي عادت تحاول تحضير نفسها في ظل قيادة شيخها المتنور الدكتور احمد الطيب لقيادة تيار الاعتدال الاسلامي اي مشيخة الازهر.
اذن سيصبح السجال في مرحلته الاولى “الثورية” سجالا بين معتدلين (الفاتيكان-الازهر) وليس بين معتدلين ومتطرفين وهذا امر حمل معه خطر ظهور نوع من التوتر بين الاسلام والمسيحية. واسمح لنفسي بالقول انه تلاسن في المكان الخطأ لان مصر نفسها، دولة ونخبا، تبدو حتى في حالتها الثورية ذات فرادة مطمئنة عميقا على المدى الابعد وهي خوض التغيير من داخل المؤسسات القضائية رغم التحديات اليومية بل المخاطر اليومية للتطرف.
اما في المشرق “الليفانت”، بلاد الشام والعراق، فتبدو الامور اقل يقينية، حيث دول غير مكتملة الشرعية منذ تأسيسها ومجتمعات تزداد تفككا حتى لو ان الرؤية المتفائلة (دعونا نسمها الرؤية التماسكية) التي تحملها نخب علمانية ومتنورة معارضة في الداخل والخارج تستطيع الاتكاء على معطيات جادة من تاريخ الصراع السياسي في هذه الدول. لكن من اين لنا اليقين بل الثقة في ان اجنحة الاسلام السياسي في “الليفانت” قادرة على لعب ادوار “تماسكية” فاعلة بالمعنى الذي اظهرته القيادة الرئيسية للاخوان المسلمين في مصر ناهيك عن التجربة الميدانية “العلمانية” لتيار مهم من شباب “الاخوان” في ميدان التحرير مع اليساريين والليبراليين اقباطا ومسلمين؟ اذا كان للامور الكبيرة نِصابها فمن المستحيل ان يكون كلام البطريرك الراعي مجرد فورة عابرة كنسيا وفاتيكانيا. نعم انه انقلاب يقوده البطريرك ولكن علينا ان نفهم موجته الضمنية لاسيما في الفاتيكان. وحتى لو ان اعتراضات كبيرة عليه يمكن انتظارها من داخل النخب المارونية، فلن تكون المرة الاولى التي تختلف فيها هذه النخب على خيارات سياسية كبيرة.وسبق لبعض البطاركة ان اختلف مع المفوض السامي الفرنسي كما حصل عام 1936 في موضوع امتياز التبغ (وجعل ذلك رياض الصلح يلتقط الفرصة لمد جسور بين بكركي وقيادة الكتلة الوطنية السورية) او حتى كما تقول مذكرات الجنرال غورو التي نشرها ابن شقيقته عندما اعترض البطريرك حويك عام 1921 على النفوذ الذي يتمتع به جهاز المفوضية الفرنسية في دمشق!
واذا كانت النخب المسيحية عموما في بلاد الشام قد ساهمت في الحفر الثقافي والسياسي الذي ادى الى سقوط الامبراطورية العثمانية فسيكون من الترويج السطحي الادعاء ان هذه النخب وجماهيرها قد انخرطت بدون تعقيدات في عملية اخراج الانتداب الفرنسي من لبنان وسوريا. لقد كان الكثير منها واجفا وقلقا من ذلك التغيير “الوطني” حتى لو كان بعضها في قيادة التيار الاستقلالي. واي كلام آخر هو مجرد بروباغندا.
اليوم ها هي موجة التغيير الديموقراطي العربي التي يقودها الغرب بالاستناد الى ديناميات واحتقانات اجتماعية وسياسية واقتصادية محلية هي بنت زمننا الاكثر عولمة، واذا بالتاريخ الراهن يخبىء لنا مفاجأة كبيرة بدءا من الشكل: المسيحيون الذين هم بيئة الليبرالية الاجتماعية والثقافية في المنطقة، هؤلاء الذين تحمل الحداثة في بلادنا رائحة وازياء احيائهم ومدارسهم، هؤلاء انفسهم في سوريا بشبه صمت وفي لبنان بضجيج ما بعد تصريحات بشارة الراعي يثيرون اشكالية مدى اهلية التيارات الاسلامية لقيادة مرحلة التحول الديموقراطي!؟
لنكتشف انهم ايضا في الموجة الديموقراطية التي هم بائعو بضاعتها الغربية الاعرق في بلاد الشام منذ القرن التاسع عشر… لنكتشف انهم لديهم اسئلتهم وتحفظاتهم واعتراضاتهم – احيانا الوجودية – على اكثر مرحلة غربية وحداثية في المنطقة منذ عقود… كأنهم يفتحون كوة في جدار “نهاية التاريخ” نحو ما بعده….؟
النهار