على الشاشة وجوه كبرت معنا وكبرنا معها، ممثلون لا يمكن وصفهم بالنجوم بمقاييس اليوم، ليس لديهم صفحات على ‘الفيس بوك’ ولا حسابات على ‘تويتر’ يشترون متابعيها! ولا يُدعَوْنَ لافتتاح مهرجانات السينما الباذخة. لكنهم مثل ورقة الجوكر أين وضعتها في لعبة ‘الهاند’ تكسب. متأكدة أن في ذاكرة كل مشاهد منكم إسما لواحد منهم. مع اعتذاري التقليدي عن طبع الإنسان البائس الذي يفطن ساعة الموت بمزايا الفقيد، ونندم لماذا لم نُفرح الغائب بالاحتفاء به على حياة عينيه؟ فنانون سوريون لم يحظوا ببطولات مطلقة لكنهم غادروا يشعون بسمعة كالألماس. إليهم أفرد مقال اليوم.
سليم كلاس الرحيل الهادئ
غادرنا يوم 2 ديسمبر 2013 إثر جلطة مفاجئة. أغلب التعازي تتفق على نعي الرجل بصفات كالأنيق والإنسان والخلوق والفنان المميز. كان من ذلك النوع الذي يعرف ما يريد. فهو ممثل ولا شيء آخر. ترك التقديم الإذاعي وعمله كموظف في البنك المركزي ولم يعمل في الإخراج بل تفرغ تماما للتمثيل قائلاً: لايمكن أن أكون إلا ممثلاً.
ما الذي يكسبه فنان في النهاية سوى أن يحظى بالاحترام ويكون في سيرته قائمة من الأعمال الهامة التي لا يوجد بينها ما يخجل أو يتبرأ منه. وأن يستمر بالعطاء حتى اللحظة الأخيرة مطلوباً من المخرجين وشركات الإنتاج. فلا يشعر بالتهميش أو يقضي آخر أيامه مريضاً ومحتاجاً ومنسياً. ولا يخرج على الشاشة بتصريح يكيل المدائح للديكتاتور بينما الشعب في حالة غليان. على هذا الأساس سليم كلاس حافظ بصمته على هيبته، فلم يدخل قوائم العار أو الغار بين طرفي الصراع.
كنت أراه مثل عمر الحريري وصلاح ذو الفقار. يمسك بيده زر التحكم فيستطيع أن يكون كوميدياً بلا هزل وبنفس الوقت يقدم التراجيديا بلا مبالغة. لكنه حوصر في حيز ضيق. حاول كثيراً التملص من دور الحلّاق الذي أجاده وأحبه الناس فيه، أو دور الرجل الثري الذي يليق به. ولكن المخرجين لم يروه إلا بهذه الأدوار. في الحقيقة كان يتمتع بعفوية كبيرة في الأداء. وقال بأنه تدرب عند أحد الحلاقين ليتقن الشخصية، كما أجرى بروفات كثيرة في البيت على ابنته التي كانت تلعب دور الزبون ليتعلم كيف ينهي حكايته مع انتهاء قصة الشعر.
هل هذا يعني أنه لم يمتلك رأياً في مسلسلات البيئة الشامية التي كان أحد أهم طواقمها؟ بالطبع لا. فهو كان يراها موضة مثل المسلسلات البدوية والفانتازيا. ولا تعبر عن البيئة الشامية الحقيقية في كثير من تفاصيلها. لكن الصحافيين والنقاد الذين انتقدوا حصره بأدوار معينه فاتهم أن يسألوه إن لم تكن مقتنعا بها فلم شاركت فيها بهذه الغزارة؟ لكن الإجابة رحلت مع سليم كلاس، الحلاق الشامي الحكّاء، أو الرجل الثري الأنيق الذي بقي شعره مصففاً كامل البياض وشاربه أسود فاحم لوقت طويل. رحم الله سليم كلاّس ورحم سوريا في فقدها اليومي. فمن لم يمت قصفاً مات بغيره.. والموت ليس واحداً في زمن الحرب.
ناجي جبر و’قرّررربت’
في عام 2009 توفي الفنان ناجي جبر، الفنان الكوميدي الشهير بأبو عنتر القبضاي، بعد صراع مع مرض عضال. جاءت وفاته مباشرة بعد عرض مسلسل ‘أهل الراية’. وفي هذا المسلسل يلعب دور نمر الذي يقتل فتاة بريئة تتهم بالزنا لغسل الشرف والعار. فتنتابه حالة ندم شديدة تؤدي إلى أن يصبح درويشا يدور بين أهل حي سوق ساروجة الذي تتوالى عليه الفجائع، محذراً ومنذراً يردد العبارات التالية: ‘يا أهل الرواية الله يجيركم من اللي جاية’ و’قرّررربت’ و’قبورنا تبنى ونحن ما تبنا ياليتنا تبنا قبل أن تُبنى’. عندما بدأت إرهاصات الثورة السورية استخدم الناس تلك العبارات كثيراً، فقد كان الظلم والجور واللامبالاة بمعاناتهم قد بلغت مداها. فبدت أشبه بنداء النبوءة لما سيمر على أهل سوريا في القادم من الأيام.
خالد تاجا حلمٌ من الجنون
في سوريا موت لكل الأعمار. موت للحجر والبشر والشجر. وفي عز الموت السوري الجماعي عام 2012 غادر خالد تاجا الذي لقبه الشاعر محمود درويش بأنتوني كوين العرب، الحياة في شهر إبريل. أشيعت أخبار قوية عن تعرضه للتعذيب بسببب مواقفه المعارضة للنظام. لكن أفراد عائلته سارعوا لتكذيب الخبر. ابنة أخته المخرجة سلافة حجازي صرحت بأنه توفي إثر معاناة طويلة مع سرطان الرئة. صحيح أنه كان من أنصار المطالبة بالحرية والديمقراطية وخرج بمظاهرة المثقفين، التي اعتقل فيها عدد من الفنانين الشباب آنذاك مثل مي سكاف وإياد شربجي والأخوين ملص وآخرون، لكنه لم يعتقل أو يتعرض للتعذيب.
خالد تاجا لم يترك تساؤل الناس عن موقفه بلا إجابة، بل ترك رسالة صوتية على ‘اليوتيوب’ فيها من العبرة والحرقة مايكفي ليكون موقفاً معلناً: ‘اعذروني لم أُبق في بيتي شيئاً أُقدمه لكم سوا لحمي فاقبلوه هنئياً مريئاً، ولكن حذارِ أن تأكلوه نيئاً لأني أخشى أن تتوحشوا فيأكلُ بعضكم بعضاً!! إطبخوه إطبخوه وافرشوا فوقه رزاً أمريكياً وأرشقوا فوقه السمَّ العربي. هكذا نحن العرب نأكل من سِمِّنا. واجعلوا من ذبحي حلالاً لأن في شريعتنا النحرُ حرام ليكن من الوريد إلى الوريد ودمي الذي يسيل، اشربوه نخباً لإنتصاركم بحفاظكم على عروشكم وقروشكم. لترتوِ عروقكم ولتنتفخ كروشكم. فأكثر ما أكره في الحياة الجوع والخنوع وصرخة الموجوع…’.
على سفح قاسيون بمقبرة الزينبية دفن خالد تاجا، حيث خط بنفسه على الشاهدة الكلمات التالية: مسيرتي حلمٌ من الجنون كومضة، كشهاب، زرعت النور في قلب مَن رآها لحظة ثمّ مضت. وتحتها عبارة هنا منزل الفنان محمد خالد بن عمر تاجا.
ياسين بقوش شهيدنا أم شهيدهم
الفنان الذي كان الضلع الرابع للكوميديا السورية في عزّها (غوار وأبو عنتر وحسني وياسينو) حظي بموت تراجيدي. قضى في بداية العام إثر استهداف سيارته بقذيفة آر بي جي. ياسين بقوش من خلال دوره الذي حمل إسمه الحقيقي كان يمثل السذاجة والطيبة والمظلومية والدروشة، يرسم الضحكة على الوجوه ويختزن في القلب دمعة. يتلقى الإهانة ويبتلعها، تقع عليه كل المقالب والأحابيل ويدفع ثمن ألعاب الخبيث وحيله. كان شخصية سورية عاشها الجميع في ظل حكم جائر يستطيع كل قبضاي فيه أن يتمرجل على أي مواطن. لذا كان شهيداً شعبياً في دائرة الطباشير السورية، يشده الثوار من جهة مؤكدين أنه كان مناهضاً لنظام الحكم وتم اغتياله لعلاقته الطيبة بالثوار، ويشده المؤيدون مؤكدين عكس ذلك. السوريون اتفقوا على محبته والحزن عليه واختلفوا على طريقة مقتله. لكن أحدا لا ينكر أنه اعتقل في عام 2012 بعد جدال مع دورية شرطة أمضى بسببه ثلاثة أشهر في سجن عدرا بتهمة.. الاستهزاء بالسلطة!!
نضال سيجري توافقي
‘الفنانون السوريون كانوا أول من اهتزت صورتهم في أذهان الناس بفعل تصريحاتهم المتضاربة، سواء احتسبت مواقفهم على السلطة أو المعارضة’. هذا ما صرح به الفنان الراحل نضال سيجري لـ’بي بي سي’. فعلا كانت خيبة الشعب السوري كبيرة جدا بعد أن أشاح معظم نجوم الصف الأول وجوههم للمطالب المحقة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، الذين كانوا يقدمون أعمالا درامية تطرح مواضيع يبدو أنها تتفهم واقع الشعب ومعاناته مع الفساد الذي ينغل في حياته سرّاً وعلانية. نضال كان تركيبة جامعة بين الفنان المسرحي الأكاديمي والنجم التلفزيوني. أحبه الناس وارتفع رصيد شعبيته بعد مسلسل ضيعة ضايعة.
لكن مواقفه إبان الثورة السورية كانت واضحة ومحددة. اختار الأصعب، البقاء في المسافة الوسط حيث الاعتدال ومحاولة تقريب وجهات النظر. لم يكن مع النظام ولكنه أيضا لم يحسب على المعارضة. وهو مالم ينجح فيه أي فنان آخر. وحده نضال الذي استؤصلت حنجرته بسبب السرطان بقي صوتا محايداً بلا رمادية ونزيها بلا صمت. ومثل معظم أبناء الشعب السوري كان الفيسبوك منبراً لإعلان الرأي: ‘لو صار السلاح في كل الأيدي فأنا لن أحمله ولن أوجهه نحو أي سوري. لا للسلاحô ولا للموتô نعم للتعايش والاختلاف. نريد عقولاً مفتوحة على العقولô نريد أرواحاً تتسع للأرواحô سوريا أمنا العظيمة تتسع للكل وبحاجة للكل’. مواقف نضال السّلمية الصادقة أنقذته من حملات التخوين فحظي بتشييع شعبي وكأنه في لحظة موته وفق بين القلوب، كيف لا وقد كانت آخر كلمة يتفوه بها لشقيقه قبل أن يعود دامعاً إلى غيبوبة الموت: سوريا يافوّاز!!
أحمد فؤاد نجم.. مات
واتمد حبل الدردشة والتعليقات
‘سوريا بالنسبة لي حبّة قلبي من جوّه’ بهذه العبارة افتتح الشاعر الكبير أمسيته التي شارك بها في مهرجان ‘وطن يتفتح في الحرية’، الذي أقيم في قطر عام 2012 دعما للثورة السورية. وعندما تكون سوريا حبّة قلب شاعر فلا بد أن يدعو لتنظيم مظاهرة للمثقفين للتضامن مع شعبها. وعندما تكون سوريا حبّة قلب شاعر فليس نشازا أن نشمل موته في عزائنا بسلسلة الموت السوري غير الرحيم.
تزامن خبر وفاة أحمد فؤاد نجم مع ساعة إعداد هذا المقال، فأصبح مشهد الموت أخف ظلاً بانضمام هذا المشاكس الذي قال عن نفسه في إحدى قصائده: ‘أنا مش ضليع في علوم الانضباط’. لم يسكت يوماً عن إعلان مواقفه المناهضة للديكتاتورية وحكم العسكر، فقد عاصر ملكين وخمسة رؤساء في مصر وتمرمط في القاع وتنقل بين السجون وتلقى شتى أنواع العذاب. ولم يغير موقفه الداعم للشعب وقضايا الغلابة والفقراء. هل فهمتم أيها اليساريون المثقفون المتلونون المتقهقرون… يا بتوع المدارس؟!
كاتبة وإعلامية سورية
@Nasrine_tr
القدس العربي
