“الموت الوحشي” طقساً يومياً/ عبد اللطيف السعدون
روى مرة، أدواردو غاليانو، المفكر والكاتب اليساري الباراغواييني الذي رحل قبل أيام، واقعة “موت وحشي” عاشها، واختبرها بنفسه: “كنا في عربة كبيرة، تعبر بنا أعالي بارانا (نهر يخترق البرازيل والباراغواي والأرجنتين)، وقد غمرنا الصمت، ونحن ننحشر على نحو متراصٍ على أرضيتها، نثب ونرتد بحسب حركتها. جلست إلى جانبي امرأة، يبدو عليها أنها في غاية البؤس والفاقة، تحمل طفلها بين ذراعيها، وقد اشتعلت الحمّى في جسده، وهو يصرخ، قالت الأم إنها في حاجة إلى طبيب، وقد تجد مرادها في مكان كانت قاصدة له. لا أتذكر كم من الساعات مرت قبل أن نصل، أخيراً إلى المكان المطلوب، وفي حينه، كان الطفل قد كف عن البكاء منذ وقت طويل، حاولت مساعدتها في حمل الطفل، وهي تنزل من العربة، لكنني عندما التقطته من بين يديها اكتشفت أنه كان قد مات”.
يستطرد غاليانو: “القاتل الذي ارتكب هذا الفعل الوحشي ليس هو القابع في السجن، ولا هو الذي يقود هذه العربة العتيقة المتهالكة، بل هو نظام السلطة بكامله”.
عشرات الألوف من النازحين الذين علقوا على جسر بزيبز على الطريق بين الفلوجة وبغداد ينتظرون أن يسمح لهم قائد مليشياوي أحمق بالدخول، شهدوا واقعة، تفوق في وحشيتها وقساوتها، الواقعة التي عاشها غاليانو واختبرها، إذ أقدمت امرأة في الخامسة والعشرين على إلقاء طفلها في مياه الفرات، إثر وفاته بسبب الجوع، بعد أن حملته مسافة أكثر من ثلاثين كيلو متراً، ولساعات طويلة، سيراً على الأقدام، هرباً من جحيم “داعش”، وقصف الطيران الشرير، يقول مراسل لـ”العربي الجديد” إن الأم فقدت السيطرة على أعصابها، وأصيبت بحالة من الهستيريا، عندما اكتشفت موت ابنها، وألقت به في النهر!
القاتل الذي ارتكب هذا الفعل الوحشي ليس هو القائد “المليشياوي” الأحمق الذي منع الدخول إلى بغداد، ولا هو “الداعشي” الذي أجبر هذه المرأة البائسة على النزوح، بل هو نظام السلطة بكامله!
في هذا السياق، وعندما يصبح “الموت الوحشي” طقساً يومياً، وعندما يموت طفل من الجوع أو المرض، ولا تملك أمه أن تضمن له قبراً يضم رفاته، فترميه في مياه النهر، وعندما تتحول البلاد إلى “كانتونات”، تتحكم فيها مليشيات ومافيات حاقدة ومستفزة، وعندما يستمر الحاكمون في تسويق الأوهام على الفقراء والمضطهدين الذين لا يجدون سبيلاً أمامهم سوى التشبث بدمويات ما قبل ألف وخمسمئة عام، وانتظار ظهور “المهدي” الذي سينقذهم من هذا البلاء، ويرفع عنهم رجس الشياطين، وبعدما لم تجد الأمم المتحدة ما تفعله سوى إبداء مشاعر الأسى لهؤلاء الذين “رؤيتهم تفطر القلب”، بحسب منسقة الشؤون الإنسانية، ليز غراندي، لابد من تغيير جذري ينال نظام السلطة بكامله!
لكن المشكلة أن التغيير المطلوب لن يأتي من تلقاء نفسه، وأشكال التغيير التقليدية التي تحدثت عنها “الأيديولوجيات” لم تعد قابلة للرهان، وليست المقاومة المسلحة الخيار العملي اليوم، بعدما اختلطت بمفهوم “الارهاب”، وتوغلت في حروب الطوائف، وأصبح من الصعب الفرز بين الخيطين، الأبيض والأسود، وحكاية “التحول الوطني الديمقراطي” من داخل “العملية السياسية” الطائفية التي هندسها الأميركيون أصبحت في خبر كان، ومل الناس من سماعها، وانكشف مروجوها الذين يعيشون حياتهم بالعرض، فيما يعيش مواطنوهم موتهم العاجل أو المؤجل إلى حين.
“لا يأتي التغيير من أعلى، إنه يأتي من الأسفل، من العمق”
نستعير سؤال لينين قبل أكثر من قرن: ما العمل؟
ليست الصورة مظلمة تماماً. لكن، لا ضوء في آخر النفق، والانتظار ممل وقاتل. مع ذلك، يقول غاليانو إن الأرض واعدة دائماً بأشكال وصيغ جديدة لم نألفها من قبل، ولم تكن في مخيلتنا قط، حيث “التاريخ يتقدم مع خطو أقدامنا، لكنه يمشي أحياناً ببطء شديد، وأحياناً يبدو كما لو كان ساكناً، وعلى أي حال، لا يأتي التغيير من أعلى، إنه يأتي من الأسفل، من العمق، وسوف يجد طريقه عاجلاً أم آجلاً، بالسرعة التي يرتئيها، إنه يجيء على وقع خطوات أقدامنا”. يحيلنا غاليانو إلى أغنية من الأوروغواي: “لن يأتي التغيير من الرأس، إنه يأتي من القدم”. ويحيلنا هذا كله إلى الأمل في أن جيلاً ولد على وقع الحروب والحصارات والهزائم، والموت الوحشي بأشكاله، سوف يتعلم درس غاليانو، وأيضاً سوف يتعلم من حياته، وسوف يحفر بأظافره على الصخر، لكي يجدد في صيغ وأساليب ومناهج العمل النضالي السلمي، ويبتكر أفكاراً ومشاريع تجعلنا نضع خطواتنا على الأرض بثبات، فالسماء لا تمنح بركاتها لنا جزافاً، والبلاء الذي حل فينا لا يزول بدعائنا فقط، إنما بعملنا أيضاً.
العربي الجديد