الموت في البحر/ طـوم رولينـز
القاهرة – “بدأ أحد القوارب بالغرق وكان الناس يتمسّكون بحبلٍ معلّق بأحد جوانب القارب الذي كان لا يزال طافياً. كان عليهم التمسّك بالحبل لعدة ساعات طوال الليل، وشاهدوا نحو 100 شخص يموتون في تلك الليلة. فقط أربعة أشخاص تمكّنوا من البقاء على قيد الحياة حتى الصباح، متعلّقين بالحبل” … هذا ما قاله ماتيو دو بلليس الذي يعمل في منظمة العفو الدولية في مركز التلقّي في مطار لامبدوزا. ويُعتقد بأنّ أكثر من 300 شخص قضوا في البحر- لتكون هذه حالة أخرى للاجئين ومهاجرين يحاولون الوصول الى أوروبا قبل ويموتون قبل وصولهم إليها.
“لا يزال الجميع مصدومين ممّا حدث”، قال بلليس، مضيفاً: “كانت المعلومات تأتينا على مهل، بمعنى أنّنا علمنا من خلال الشهادات التي جمعناها أنّ عدد الضحايا كان في الواقع أكبر ممّا اعتقدنا في البداية”. بالكاد نجا نحو خمسة أشخاص من القوارب الأربعة، التي كان يقلّ كل واحد منها قرابة 150 راكباً مهاجراً، معظمهم من بلدان غرب أفريقيا مثل مالي، والسنغال، وساحل العاج، غادروا من ليبيا عبر مضيق صقلية. ولم ينجُ أحد من القارب الرابع. بالمحصلة، هناك أكثر من 300 شخص ميّت أو مفقود.
الموت في عرض البحر: “معادلة واضحة”
“نحن نبحث عن معادلة واضحة. نرى المزيد من الناس يسافرون وموارد أقل للإنقاذ. هذا حساب بسيط”، قال دو بلليس، وتابع: “لهذا السبب يجب أن نكون مستعدين لرؤية المزيد من الحوادث من هذا النوع للأسف”.
عندما جرى رصف النعوش في لامبدوزا عام 2014، قالت أوروبا: “لن يحدث ذلك مرة أخرى”. لكن هذا الأسبوع، تعرّض الاتحاد الأوروبي لانتقاد متجدد لسياساته في البحر المتوسط بعد الحادثة الأخيرة وذلك في قصة اعتدنا عليها من الإحباط، والمأساة وتقاذف المسؤوليات.
توفي أكثر من 3500 شخص وهم يحاولون الوصول إلى أوروبا العام الماضي عبر المتوسط، في ما يُعتبر أكثر المعابر خطورة بالنسبة للمهاجرين غير الشرعيين في العالم. في أيلول الماضي، قام مهرّبون وعن عمد بإغراق قارب يحمل ما يصل الى 500 شخص، معظمهم فلسطينيون هربوا من غزة، عند ساحل مالطا، فيما اعتُبر أسوأ الحوادث التي سُجلت عام 2014.
في الأصل هناك مخاوف من إمكانية أن يشهد عام 2015 أرقاماً مماثلة، وينتج المزيد والمزيد من المآسي، بعضها مرئي، وبعض غير مرئي. هذا العام، سبق أن أشارت تقديرات الى احتمال موت 400 شخص جراء انقلاب قوارب بين ليبيا وايطاليا، أو مقابل سواحل تركيا.
رداً على المأساة الأخيرة، أعلنت فرديركا موغيريني، نائبة رئيس السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، عن انعقاد مؤتمر استثنائي في الأيام المقبلة لـ”مراجعة سياساتنا”.
في غضون ذلك، قامت جوقة من منظمات حقوق الانسان والمجتمع المدني الدولية- بينها منظمة لعفو الدولية، وأطباء بلا حدود، والأمم المتحدة- بإدانة حالات الموت الأخيرة، والعديد من بينها أشارت الى وجود صلة مباشرة بين السياسة الأوروبية والوفيات المتزايدة التي باتت روتينية في البحر.
“تُحقّق هذه المأساة الجديدة أسوأ مخاوفنا حول نهاية عملية البحث والإنقاذ الايطالية في البحر المتوسط، وتظهر النتائج المتوقعة لفشل الاتحاد الأوروبي لتأمين بديل مناسب”، قال جون دالويسن، مدير برنامج أوروبا وآسيا الوسطى في منظمة العفو الدولية، في بيان الأربعاء الماضي.
فرونتيكس: انقاذ الأرواح أولوية اساسية
تم النظر الى “عملية تريتون”، التي أطلقتها وكالة الاتحاد الأوروبي الحدودية “فرونتكس”، كنسخة محدودة من عملية “بحرنا” المهمّة لإنقاذها عشرات آلاف الأرواح منذ انطلاقها في تشرين الأول 2014 رداً على مأساة لامبيدوزا. وانتهت مهمة “بحرنا” في تشرين الأول الماضي، مثيرةً الأسئلة حول كيفية تمكّن الدول الأوروبية من الاستمرار في الإنقاذ بميزانية أقل وأولويات متغيرة. واعترفت “فرونتيكس” بأن طبيعة “عملية تريتون” سوف تركّز “على مراقبة الحدود والسهر عليها”، رغم أنّ إنقاذ الأرواح سوف “يبقى أولوية أساسية”، كما شرح المدير التنفيذي السابق، غيل آريس فرناندز في تشرين الأول الماضي.
ولم يتوفّر أي ممثل عن فرونتكس للتعليق على هذا المقال. واعتبر بعض المحللين أن هذا التحوّل من “بحرنا” الى “عملية تريتون”، يعكس رؤية ضمن بعض حلقات السياسة الأوروبية تعتبر بأنّ عمليات البحث والإنقاذ كانت “عاملاً جاذباً” للاجئين، وطالبي اللجوء السياسي والمهاجرين في المنطقة – بمعنى أنها كانت تشجّع المزيد من الناس على محاولة العبور.
وقد رفضت الحكومة البريطانية دعم أي عمليات بحث وإنقاذ مستقبلية لأنها، وفقاً لإجابة مكتوبة لمجلس اللوردات صدرت عن وزيرة الدولة للشؤون الخارجية البارونة أنيلي، كانت تخلق “عامل جذب غير مقصود” يشجع المزيد من المهاجرين على محاولة عبور البحر “ما يؤدي بالتالي الى حالات موت مأساوية وغير ضرورية”.
من خلال تصميم اللاجئين، وطالبي اللجوء، والمهاجرين الوصول الى أوروبا، حتى في أول أشهر السنة عندما يكون العبور أخطر بكثير، يتبيّن بأن عام 2015 سوف يكون عاماً آخر من غرق المهاجرين والموت في عرض البحر- سواء أكان البحر المتوسط أو سواه. وفي كانون الثاني الماضي وصل المزيد من الناس نسبياً إلى شواطئ إيطاليا مقارنةً بالعام السابق.
وتتوقع المتحدثة باسم منظمة UNCHR كارلوتا سامي بأن يتجلّى هذا التصميم من خلال أعداد الناس الذين سيحاولون العبور هذا العام، وقالت: “نحن اليوم في شهر شباط ونحو 4000 شخص عبروا البحر المتوسط ووصلوا الى ايطاليا. هذا الرقم أعلى من رقم العام الماضي. ونتوقّع بأن يستمر هذا التوجّه”.
أما السبيل الى وقف هذا التوجه فيبقى مسألة نقاش في أوروبا. إذ في حين يدعو البعض الى المزيد من مراقبة الحدود وإلى ضبط شبكات التهريب، يقترح آخرون بأن إنشاء طرقات شرعية الى داخل أوروبا هو الحل الوحيد.
الناشط السوري عبد العزيز الماشي سعى إلى الحصول على لجوء سياسي في المملكة المتحدة عندما بدأت الثورة ضد نظام بشار الأسد. وهو اليوم يحضّ البلدان الأوروبية على قبول المزيد من اللاجئين السوريين من خلال برامج إعادة الاستقرار، وبينها برامج إعادة استقرار انسانية ولم شمل العائلات.
“السوريون عالقون بين هؤلاء المهرّبين وماكينة موت الأسد”، كما قال ماشي، متحدثاً عبر الهاتف من لندن، وأضاف: “عندما يذهب أحدٌ ما في البحر، يعلم بأنه سيتم استغلاله، يعلم بأنه يخاطر بحياته- ومع ذلك فهو يريد القيام بهذه الرحلة”.
ويرى ماشي بأنّ أوروبا بحاجة الى إنشاء “طرقات شرعية، بدل أن يلجأ اللاجئون، وطالبو اللجوء السياسي، والمهاجرون إلى المجرمين لكي يوصلوهم الى أوروبا عبر قنوات غير آمنة”. ويتوقّع بأن الموسم بالنسبة للمهرّبين يبدأ في نيسان.
وقد تحدّث موقع NOW الى عشرات اللاجئين السوريين في مصر الذي أكدوا عزمهم ركوب القوارب هذا الربيع. وفي ظل الإرهاق الذي تعاني منه الحكومات من أجل دعمهم وتوقّف العديد من برامج الأمم المتحدة المخصصة لمساعدتهم، الأمر الذي يعود وفقاً للبعض الى “تعب المتبرعين” بسبب طول فترة أزمة المعاناة الانسانية في المنطقة، يرى العديد من اللاجئين السوريين وطالبي اللجوء السياسي مستقبلاً محدوداً لهم في بلدان العالم الثالث المجاورة لهم، التي تستضيف أكثر من 90% من اللاجئين السوريين بعد حرب 2011.
أما ثاني أعلى رقم من المهاجرين غير النظاميين عبر البحر المتوسط فكان العام الماضي من اللاجئين القادمين من أريتريا، الهاربين من القمع وتجار بالبشر ونظام السخرة الذي يمكن أن يتحول الى حكم بالسجن مدى الحياة. وتعليقاً على ذلك قالت ميرون استفانوس، الناشطة الأريترية، والمذيعة المناصرة للاّجئين التي تأخذ من السويد مقراً لها، “إننا لا نزال بحاجة الى فعل الكثير لمساعدة كل من يعبرون البحر”، وأضافت: “الناس اليائسون سوف يجدون دائماً طرقاً للهروب من حالتهم المزرية ومحاولة إيجاد طريق نحو الآمان والحماية. قد نشهد عدداَ أقل من الناس ينجحون في العبور هذا العام، ولكن عدد من سيحاولون لن يكون أقل”.
الآن، لا تزال سياسة الهجرة الخاصة بالاتحاد الأوروبي في البحر المتوسط في حالة من المراوحة، مع فشل الدول الأعضاء وبلدان العالم الثالث في الوصول الى توازن ما بين مراقبة الحدود والهواجس الانسانية الطارئة التي تتزايد. إلاّ أن الانطباع المتزايد هو بأن شيئاً ما سوف يتغير قريباً.
“بدون عملية بحث وانقاذ مناسبة… ما سيحصل هو بأننا سوف نشهد غرق المزيد من القوارب وموت المزيد من الناس”، قالت سامي، وختمت: “هذا هو الواقع. وهذا ما سيحصل”.
طوم روللينس هو صحافي يأخذ من القاهرة والاسكندرية مقراً له، ويكتب عن حقوق اللاجئين، والهجرة، والبحر المتوسط. وهو يغرد على تويتر @TomWRollins
(ترجمة زينة أبو فاعور)
موقع لبنان ناو