“الموت في صيدنايا”: الثورة السورية اندلعت في 2008/ وليد بركسية
لم يتخطّ التشويق، في الوثائقي “الموت في صيدنايا”، عنوانه. فالمعلومات التي يحفظها السوريون عن ظهر قلب، خلت من الأرقام والإحصائيات، وعوّضت بصور نادرة وحصرية حصلت عليها “الجزيرة”.. لكنه ربما يقدم معلومة توثيقية للمهتمين بشأن محاكمة رموز النظام المسؤولين عن التعذيب، في حال اتخذ قرار بالتوجه الى الجنائية الدولة يوماً ما.
وجاء الوثائقي الأخير جزءاً من السلسلة الوثائقية “الصندوق الأسود” الذي تعرضه قناة “الجزيرة الإخبارية”، وتناولت الحلقة بشكل مكثف موضوع التمرد في سجن صيدنايا العسكري العام 2008، وتداعيات ذلك التمرد حينها مع إسقاطات مباشرة ذكية على الأزمة السورية الراهنة. تتجلى مقولة الحلقة الأساسية في أن أولى شرارات الثورة السورية انطلقت العام 2008 حيث يمثل السجن حالة مصغرة للوضع السوري المعاصر. من هنا يكتسب الشريط الوثائقي أهميته إضافة لتوثيقه معلومات هامة على الشاشة الصغيرة للمرة الأولى، قد لا يعرفها المتابع غير السوري.
انطلاقة البرنامج بدأت بشهادات متفرقة لسجناء سابقين من الأطراف الرئيسية الفاعلة في التمرد، لكن غالبية الشهادات والمقابلات أتت مجهولة الهوية لأسباب أمنية مع استثناءات بسيطة، كالمعارض السوري دياب سرية الذي حكمت عليه محكمة أمن الدولة السورية بالسجن في صيدنايا عام 2006 بتهمة إنشاء تنظيم سياسي شبابي معارض، أو العسكري أحمد عبد الزراق الأحمد المتهم العام 1999 بالتخطيط لانقلاب عسكري ضد نظام حافظ الأسد.
معظم المقابلات كشف عن سجناء سياسيين ينتمون للتيارات الإسلامية المختلفة، منهم قادة في حركات إسلامية مقاتلة في سوريا اليوم (هوياتهم سرية). قد لا يكون ذلك خياراً أمام “الصندوق الأسود”. فالسجن، رغم اسمه العسكري، كان مخصصاً لاحتجاز “أعتى الشخصيات” التي تمثل “خطراً” على النظام السوري، وتحول مع الوقت إلى سجن إسلامي كبير. أربعة من أقسامه الخمسة، خصصت بالكامل لسجناء الإسلام السياسي أو الأصولية الجهادية، وتحديداً بعد حرب العراق وتدفق الجهاديين من سوريا نحو العراق، كما يوضح البرنامج.
خلت الحلقة من الأرقام والإحصائيات، واعتذر البرنامج مرات عديدة من المشاهدين بسبب نقص المعلومات في الحلقة بسبب استحالة الحصول عليها أو حتى التحري عنها في ظل الفوضى الأمنية في البلاد. انعكس ذلك على الناحية البصرية للحلقة، التي اقتصرت على المقابلات المشوشة، وعلى الأصوات المسجلة، والرسوم البيانية والصور الأرشيفية القليلة، وبعض التصميمات الغرافيكية والتقريبية للسجن.
عرضت الحلقة أيضاً مجموعة نادرة من الصور ومقاطع الفيديو التي حصلت عليها “الجزيرة” من معتقلين سابقين عاصروا التمرد. تلك الصور والمقاطع التقطت بكاميرات محمولة لضباط السجن بعد احتجازهم كورقة للتفاوض مع النظام السوري حينها. لكن الصور والمقاطع لا تظهر سوى ما يعرفه المشاهد سلفاً، كيف اقتحمت قوات الشرطة العسكرية السجن بعدما فرضت عليه حصاراً طويلاً، خصوصاً وأن الفترات الزمنية وطريقة معاملة النظام تتغير باستمرار مع تغير المسؤولين عن ملف “تمرد السجن” الذي أحيط بالكتمان الرسمي وتسرب إلى الأحاديث الشعبية السورية بطريقة أو بأخرى.
غير أن النقص في المعلومات، تم تعوضيه بأسلوب “الديكودراما” لانتشال الحلقة من التبسيط. تعجّ الحلقة بالكثير من المقاطع التمثيلية التي تعيد تقديم الواقع بشكل حرفي كما جرى. ويركّز هذا الأسلوب على مقاطع “الأكشن” واقتحام السجن ولحظات التمرد الأولى، وفتح الأبواب المغلقة، والتكبير، والتعذيب، لخلق حالة من التوتر العاطفي والتأثير العميق، وهو ما تنجح فيه تلك اللقطات دون مبالغة في الطرح أو إطالة.
وصفت “الجزيرة” تمرد “سجن صيدنايا” بأنه أطول حادثة تمرد في سجن عبر التاريخ. وفي النصف الثاني من الحلقة بعد عرض معظم الأحداث التاريخية، تحول الوثائقي لعرض بعض الإسقاطات على الواقع السوري المعاصر. فالنظام السوري عمد إلى خلق الكثير من التوتر ضمن السجن نفسه، كتبديل مواقع السجناء بشكل يثير حساسيات معينة (وضع سجين إسلامي مع آخر يتعامل مع إسرائيل في زنزانة واحدة)، أو لعبة “الشرطي الطيب والشرطي الشرير” بتناوب مع كل رئيس جديد للسجن. حتى وصل السجن إلى حد الاحتقان مع التصرفات اللاإنسانية التي فرضها النظام عام 2008، كقطع الكهرباء والماء وعمليات التعذيب الجماعية ومنع الزيارات العائلية.
“سجن صيدنايا”، بحسب الفيلم، هو أول منطقة في سوريا تخرج عن سيطرة النظام السوري بالكامل، وحادثة تبرز الصراع بين “التيار الإصلاحي في النظام” وبين “الحرس القديم” في تلك الفترة، كما يظهر بطريقة أو بأخرى طبيعة النظام السوري العنفية في تعامله مع الأزمات الأمنية، أو مع الوعود التي يطلقها خلال عمليات التفاوض ثم ينكث بها، حيث أعاد النظام محاكمة سجنائه بعد التفاوض معهم بتهم مختلفة وصلت الى إعدام البعض، قبل أن يطلق سراح عدد كبير منهم بشكل مفاجئ العام 2011 مع إلغاء محكمة أمن الدولة وقوانين الطوارئ في البلاد. وهو ما يعكس توجهه منذ مطلع الأحداث “لأسلمة الثورة وطرح نفسه كبديل مدني وحيد للإرهاب الأصولي الذي أطلقه”.
المدن