صفحات الناسعارف حمزة

الموت والضحك وقصص سوريا اليوم/ عارف حمزة

محجوز للثأر!

تعودنا في سوريا أن نجد عبارات مثل “محجوز لصالح المصرف العقاري” أو “محجوز لصالح المالية” أو “محجوز للبلدية”… مكتوبة على أبواب المحلات بلون أحمر فاقع، على شكل فضيحة. وكنتُ مرّات أسأل نفسي: لماذا اختيار اللون الأحمر بالذات في كتابة تلك العبارات؟ ولماذا بخط كبير وبشكل علنيّ هكذا من دون إلصاق حكم قضائيّ بالحجز؟ أحد الخبثاء قال لي بأنّ استخدام اللون الأحمر الفاقع هو للدلالة على أنّ عدم دفع أقساط البنوك، أو أموال الدولة بشكل عام، يُماثل الدعارة نفسها!. بمعنى أن الذي لا يدفع أموال الدولة، ولو كانت هذه الأموال عبارة عن رسم نظافة متراكم للبلدية، يجعل الشخص داعراً مباشرة! بينما رأى أحد آخر بأنه يعود للون لباس المحكومين بالإعدام، وهو اللون الأحمر، وبالتالي فإنّ اختيار البخّاخ الأحمر لإشهار إفلاس أحد ما، ولو لم يكن تاجراً، هو حكم بالإعدام على حياته كاملة، ارتباطاً بالحياة الماليّة، التي ترتفع على عمود الحكمة الشعبيّة التي تقول: إذا كان معك قرش بتساوي قرش.

ومع ذلك فإنّ الكتابة هكذا، من قبل السلطات، على محلّ شخص قد تعسّر لسبب ما في دفع أقساط قرض، قد لا يكون ضخماً ومؤثّراً على الاقتصاد الوطنيّ، يشكّل إهانة هائلة للشخص، ولعائلته كلّها. ولكن بما أنّ البنوك الحكوميّة هي في الأصل مملوكة للبطانة الحاكمة، وتُستثمر فيها الكثير من أموال رجال الأعمال الذين أثْروا فجأة، كقناع للضباط والمسؤولين الكبار في الطائفة والحزب والحكومة، كتبيّيض للأموال المنهوبة والعابرة للفساد المتراكم، فإنّ تلك البنوك استمدّت سلطتها مباشرة من سطوة وسلطة تلك الشخصيّات النافذة، والتي أصبحت فوق القانون، وبالتالي صار بإمكانها أن توقّع “عقود إذعان” مع المتعاملين، من غير المدعومين، وإمكانيّة أن تشهّر بهم هكذا علناً، وبشكل مخالف لأبسط القوانين.

ولكن ما تفاجأتُ به حقّاً، قبل أيام، أن أجد عبارة مثل “محجوز للثأر” مكتوبة على باب مطعم معروف في المدينة. إذ أنّها المرّة الأولى التي أصادف هكذا عبارة مكتوبة على باب محل ما.

مطعم “أبو وصفي” يُعتبر من أفضل المطاعم الشعبيّة، المختصّة في تقديم الأنواع المختلفة من المشاوي، في وسط المدينة. وهو يعود لسبعينات القرن الماضي، وتعاقب عليه الكثيرون من معلّمي الصنعة، الذين كان المطعم بوّابة لهم للاحتراف والعمل في الخارج، بخاصّة في أوروبا والخليج، وتعاقب عليه الكثير من الزبائن سواء من المدينة أو القرى المحيطة، بإدارة مالك واحد ومعلّم واحد، هو أبو وصفي، الجالسُ أبداً خلف طاولته الحديديّة، بسبّحته التي تُطقطق مع بروز أيّ نقطة هدوء مفاجئة، ونادرة، في المكان المحتشد، وبتلفزيونه الأبيض والأسود ببوصاته الأربع عشرة مقابل طاولته، في الأعلى هناك على الجدار المقابل لطاولته، حيث ظلّ يشتكي، طوال أكثر من أربعين عاماً، من عدم قدرته على قراءة الشريط الإخباريّ الذي يظهر منحنياً في أسفل الشاشة، من دون أن يُغيّر ذلك الجهاز الصغير والقديم، ولا مكانه. ومن دون أن يُخفي على أحد بأنّه لا يعرف القراءة أصلاً. ذلك المطعم الذي يٌقابل مبنى البلديّة، والذي يتألف من بهو يحتوي على سبع طاولات من الطراز الشعبيّ القديم. وبدرجاته العشرة نحو المكان المخصّص للعائلات في الأعلى. في الأعلى حيث توجد ثلاث طاولات ترتجف بسبب خطوات النادل “خالد” الثقيلة. الخطوات التي كانت تتسبّب بارتجاج السقف المستعار تحت أقدام الزبائن، والذي تشعر بدنو سقوطه في حضن المكان المخصّص للرجال هناك في الأسفل.

عادة ما كان المطعم يُقفل أبوابه طوال شهر رمضان من كلّ عام. لذلك ربّما لم أنتبه للعبارة التي كتبها أحد ما على بابيه الكبيرين ونحن في أول أسبوع من شهر رمضان لهذا العام. كنتُ أظنّ أنّها عطلته السنويّة وأنا أقطع الشارع، المحمول على غيمة من روائح قديمة، وقصص قديمة، نحو مكتبي القريب من المكان.

القصّة أخبرني بها صاحب ميني ماركت “رشّو” المقابل للمطعم، عندما دخلتُ واستفسرتُ عن السبب. ابن خالة المعلّم أبو وصفي قتل شخصاً ما في قريتهم التي تبعد عن المدينة خمسة عشر كيلومتراً. قال لي. “بالسكين قتله”؟ سألته. “لا، بل بالساطور”. أوضح لي.

ورغم أن صاحب المطعم شخص متقدّم في السنّ، وهو معروف بخلقه الجيد ومعاملته الحسنة، وضحكته التي تلعلع كما صرخة العجل المذبوح، ولا علاقة له بالحادثة مباشرة، إلا أنّه اضطر لإقفال محله قبل أسبوعين من قدوم شهر رمضان، وهجرت عائلاتهم جميع بيوتهم في القرية إلى مدينة أخرى، لحين ذهاب سخونة دم القتيل الذي كان يعيش في القرية نفسها. إنّها العادات يا أستاذ. والثأر مثل السبّحة التي تنفرط، ولا تستطيع العثور على كلّ حبّاتها مهما كانت كبيرة. أضاف صاحب الميني ماركت بحكمة.

“محجوز للثأر” كتبها أحد إخوة القتيل على البابين الكبيرين للمطعم المهجور، ليس كتهديد للقاتل وأهله، فالثأر عندنا لا يحتاج لتهديد، فعدم فتح بيت لتقبّل العزاء سبب كافٍ لنشر تلك الرائحة الواخزة في أوصال شجرة العائلتين بالكامل. بل كتبها هكذا ببخّاخ أسود، كإشارة للون الشريطة الكبيرة السوداء الخاصّة بصور الموتى، كي لا يتورّط أحد ما بشراء المطعم، وبالتالي يكون قد صار شريكاً في تبديد ديّة المقتول، وشريكاً مفترضاً في القتل.

“محجوز للثأر” تطوّر جديد، ولو من الناحية الشكليّة، في عادة الثأر المرذولة، في مكان ما عادت تملك فيه السلطات سوى البخّاخ الأسود لشطب العبارات التي تطالب برحيل الرئيس.

كوميديا حرب الشعارات

هناك حرب أساسيّة كانت تحصل في بدايات الثورة السوريّة، ثمّ تحوّلت إلى حرب جانبيّة، مع بروز الاقتتال العسكريّ؛ فقد كانت الساحات والجدران والصدور والأيدي والكلمات هي أدوات تلك الحرب، التي أنهكت قوّات الأمن في وقفها. والمضحك في الأمر اكتشاف أنّ الحرب العسكريّة، بالنسبة للأنظمة الديكتاتوريّة، ظهرت بأنّها هي الأسهل بكثير من “الحرب السلميّة”، إذا جاز التعبير. إذ من السهل عندها اعتقال الشخص أو تعذيبه أو فصله من الوظيفة أو تهجيره أو قتله في النهاية، ولكن ذلك لا يمكن تطبيقه على الجدران والساحات والألوان، رغم أنه تمّ فعله في الأشهر القليلة الماضية؛ من خلال المدن المنكوبة بالصواريخ!

“البخّاخ” هو الشخص الذي يكتب الشعارات المطالبة برحيل النظام والشعارات التي تسخر منه، ويمتاز بسرعة الكتابة، مع الاحتفاظ بجمال الخط، ويمتاز بسرعة مغادرة المكان والانتقال لأماكن أخرى، وكان هو المطلوب رقم واحد. وتمّ مكافأة الكثير من المخبرين، لأنّهم ساعدوا الأمن على إلقاء القبض على الكثير من البخّاخين.

كان في كلّ مدينة ثائرة بخّاخ خاص بها، مع مجموعة تعمل وتتنقّل معه. وبذلك كان يُسلم الراية اللونيّة لمن يخلفه بمجرّد وقوعه في قبضة الأمن، كي يُكمل المهمّة من جهة، وكي يُوهم الأمن بأنّ الذي تمّ القبض عليه لم يكن المطلوب من قبلهم، فكان هناك بخّاخ حمص وبخّاخ إدلب وبخّاخ درعا وبخّاخ دير الزور… الخ. وكانت مهمّة ذلك البخّاخ ليس كتابة العبارات المؤيّدة للثورة، والسخرية من النظام وتعرية ديكتاتوريّته فحسب؛ بل كان سبباً آخر لقتل الخوف المتوغّل في نفوس السورييّن منذ عشرات السنين، والخروج مع الثوّار ضد ديكتاتوريّة النظام، بعلانية ما كانوا يقومون بها وبشجاعة.

كانت تلك العبارات، التي يفيق الناس لمشاهدتها مكتوبة على جدران مدينتهم، مثيرة لروح السورييّن الغريبة، في عدم الخضوع والخنوع والصمت الأبديّ في وجه الإذلال، ثمّ صارت تثير حرباً متبادلة في الكتابة والمحو بين الطرفين. لدرجة أنّها صارت تثير الفكاهة والضحك فيما بعد. وصارت، من جانب ردّة فعل الأمن، تشبه نقّ النسوان!

ليس الشطب بالدهان الأسود هو ردّ الفعل المناسب الوحيد من قبل الأمن، وهو صار عملهم الأبديّ خلال فترة لا بأس بها؛ فقد يُبقون على ما هو مكتوب ضد النظام ولكن بإضافة كلمة من عندهم تقلب الأمر لصالحه؛ كما في حالة أن يكتب الثوّار كلمة “ارحل”، فيذهب رجال الأمن ويحوّلونها إلى عبارة “لن أرحل” بإضافة حرف “لن” قبلها، ويصبح الأمر هنا وكأنّ “بشّار الأسد” ترك دمشق، في الجنوب الشرقيّ، فجأة وذهب إلى عامودا، في أقصى الشمال الشرقيّ، كي يقول “لن أرحل” على جدران مدرسة متهالكة… وهكذا تمّ تحويل جملة مثل “الشعب يريد إسقاط النظام” إلى الشعب لا يريد إسقاط النظام. وإذا لم يكن هناك فراغ لكتابة “لا” بين الشعب ويريد، فإنّهم يسحبون سهماً بينهما للأعلى ويضعون “لا”. ثمّ يوقّعون تحتها بعبارات مثل : شبّيحة للأبد، أو رجال الموت، أو الأسد للأبد!

من كثرة الكتابة على الجدران، ومن كثرة ردّة الفعل في محوها، نبعت في الجدران أنهار من الدهان الأسود والأزرق والأحمر، بحسب ما يتوافر منها في الأسواق، امتدّ بعضها لعشرات الأمتار، كما كان يحصل لجدران المدارس أو المؤسّسات الحكوميّة. فأصبح الشغل الشاغل لمدراء تلك الهيئات شراء الدهانات من السوق، وتحميل مبالغ شرائها للميزانيّة العامّة كمجهود حربيّ ربّما، وعلينا أن نتصوّر كمّية الاختلاسات التي حصلت، وردم الشعارات المعارضة بالدهانات المؤيّدة للنظام.

رجال الأمن استعملوا ميزة الكتابة على الجدران لإحراج بعض المعروفين في خط المعارضة التي لم تنزح من البلاد بعد حملة الاعتقالات اليوميّة والمتزايدة؛ كما حدث لأحد الصيادلة عندما شاهد عبارة “الأسد أو نحرق البلد” مكتوبة على جدران صيدليّته الخارجيّة. ولكنّه كان شجاعاً فمحاها، رغم النصائح من بعض جيرانه بعدم تحدّي مَن كتبها. فقام رجال الأمن بالانتقام منه، بتشويه سيّارته الحديثة، فاضطر للخروج من البلد بعد تصاعد حرب الكتابات على جدران بيته وصيدليّته. وبسبب الاستدعاءات الأمنيّة المتكرّرة له، وسؤاله عن خيانته الكبرى بمحو اسم قداسته عن جدرانه التافهة!

أحياء كثيرة صارت جدرانها مبنيّة بالبخّاخ الملوّن، والبخّاخ الملوّن المضاد! وبسبب منع المحلات من بيع البخّاخات نهائيّاً، والسماح ببيع الدهانات ولكن بشرط أخذ صورة عن هويّة المشتري وإرسالها، بأقصى سرعة، إلى فرع الأمن العسكريّ! كتب أحد البخّاخين على جدران مدينة دير الزور: ” ما ضل عنّا بخّاخات. ارحل يا ابن الـ…”. فصار المطلوب رقم واحد في دير الزور كلّها. وتمّ وضع مكافأة مالية كبيرة لمن يساعد الأمن في القبض عليه.

على أحد جدران مدينة “السبينة” في دمشق كتب أحد البخّاخين: “لا لبائع الجولان”. فجاءت دورية أمنيّة وشطبت حرف “لا” ووضعت بدلاً عنه حرف “نعم”!، لتصبح العبارة “نعم لبائع الجولان”!، ثمّ غادرت المكان. ويبدو أنّ الدوريّة انتبهت لفداحة ما قامت به، الذي ينزل بمنزلة إفشاء أسرار دولة، أو الخيانة العظمى، فرجعت بسرعة ومعها بلدوزر قام بهدم ذلك الجدار، ومحوه عن الوجود مع العبارة المكتوبة عليه، كي لا يبق أيّ دليل يُعرّض أفراد الدوريّة للمحاكمة العسكريّة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى