صفحات الثقافة

الموت ولا الاعتقال


أندلس الشيخ

“الموت ولا الاعتقال”، تكاد تكون هذه العبارة المرعبة في ذاتها لازمة نسمعها تتردد على لسان كل مواطن سوري حر يخرج اليوم في تظاهرة مناهضة للنظام، وهو يحمل روحه على كفّه وكله يقين بأن ما يفصله عن الموت ليس سوى طلقة من بندقية أو رصاصة من قناص.

هذا الخوف المفرط الذي يعتري المتظاهرين العزّل أثناء خروجهم إلى الشوارع من الوقوع في أيدي رجال الأمن، وليس من الموت، يدل في الدرجة الأولى على أن القوة السياسية التي سيطرت على سوريا منذ قرابة خمسة عقود لم تحكم هذا البلد بقبضـة من حديد فحسـب، بل بعقلية تنكيلية بشـعة تحرِّم على الإنسان ممارسة أدنى حقوقه الطبيعية في النقد والتعبير. كما يدل أيضاً رعب المحتجين السلميين هذا، على مدى وحشية المخابرات السورية في تعاملها مع كل من يقع في قبضتها من متظاهرين، والذين لسان حالهم يقول: “الموت لحظة والإعتقال موت في كل لحظة”.

حتى أيامنا هذه، تعتبر لاغويانا، الإقليم الفرنسي الواقع ما وراء البحار، رمزاً للسجن والسجناء وإصلاحيات الأحداث في فرنسا. ويعود هذا الأمر إلى القرار الذي كان قد اتخذه نابوليون في منتصف القرن التاسع عشر بإقامة سجون ضخمة على أرض هذا الإقليم وعلى بعض الجزر المقابلة له في المحيط الأطلسي، بغية نفي معارضيه إلى تلك المناطق البعيدة آلاف الأميال عن المتروبول. ولعل البحث الذي أعده الكاتب والحقوقي لوران بوشيه عن سجناء الرأي في عهد بونابرت في كتابه “تاريخ السجناء السياسيين ما بين 1792 – 1848″ هو خير وسيلة تكشف للقارئ عن تلك الاستراتيجيا الإقصائية التي اتبعها نابوليون للتخلص من خصومه السياسيين، بإرسالهم إلى مناطق نائية، على اعتبارهم ليسوا فقط مجرد أشخاص يهددون حكمه وسلطانه المطلقين، بل و”مجرمين سياسيين” يجب محاسبتهم والاقتصاص منهم.

في الحقيقة، إن الأنظمة الديكتاتورية التي ورثت هذا النهج النابوليوني الأنتي ديموقراطي في تاريخنا المعاصر كثيرة ومتعددة، من بينها نظام دولة البعث والحركة التصحيحية في سوريا، الذي يرى في نشاط المعارضة، من ناحية، تهديداً لسيطرته التامة على سلطات الدولة ومؤسساتها، ومن ناحية أخرى “جرماً سياسياً” ينبغي مكافحته وتطهير المجتمع منه. وهذا ما كان قد دأب عليه حافظ الأسد طوال فترة حكمه التي امتدت على نحو ثلاثة عقود، من خلال محاولته تصفية منافسيه ومعارضيه السياسيين، وذلك بالزج بهم في غياهب السجن وظلماته حتى تنطفئ ملامحهم وتتصدأ عظامهم، وما كان صلاح جديد يوماً إلا رقم في متتالية حسابية مفتوحة، وغير منتهية إلى هذه الأيام.

وبما أن سوريا لا تملك جزراً أو مستعمرات في ما وراء البحار ترسل إليهـا سجناء الرأي والمعارضين، فقد عمد نظام البعث إلى نفي هؤلاء إلى قلب الصحراء، حيث جُهِّز لهم صرح من صروح العذاب والقهر الإنساني في القرن العشرين. وكما ارتبط اسم لاغويانا الفرنسية بالسجن وآلامه، اقترن اسم مدينة تدمر بسجنها الصحراوي، الذي أضحى بالنسبة الى السوريين مكاناً جغرافياً ذا رمزية جحيمية جراء الممارسات اللاإنسانية الرهيبة التي ارتكبتها أجهزة النظام السوري الأمنية في حق كل من وطئت قدمه هذا المكان. ولربما أكثر من نحسد، نحن السوريين، لدى زيارتنا مدينة تدمر الأثرية السياح الأجانب لقدرتهم على التمتع بمشاهدة المعالم والآثار الخالدة هناك، بينما يتعذر على واحدنا المرور بعروس الصحراء من دون أن يفكر في قريب ٍله أو جار أو صديق أو صديق لهذا الصديق يقبع في سجن المدينة الذي تحول أسطورة سوداء في امتهان النفس البشرية وإذلالها وتعذيبها وإبادتها.

إن الشهادات التي تصف أحوال السجناء والمعتقلين في سجن تدمر هي شهادات شخصية نسمعها من هذا وذاك. وكم تمنيت لو كان في وسعي مساءلة صديقي ممدوح الذي كان يحفظ عن ظهر قلب السيرة الذاتيـة لتروتسكي وديوان “الناظرون إلى السماء” لناظم حكمت عن ظروف اعتقاله هو وغيره من آلاف السوريين في مهاجع مملكة الرعب التدمرية وزنزاناتها. لكن جنون صديقي حال دون ذلك، بعدما أُعيد إلى أهله ذات خريف من تسعينات القرن المنصرم، وهو مختلّ عقلياً نتيجة جلسات التعذيب السوريالية التي تعرض لها خلال حبسه الذي دام ثلاثة عشـر عاماً.

أما الشهادات الأدبية في هذا الصدد فهي قليلة، إن لم نقل نادرة. لهذا تكتسب، من جهة، شهادة فرج بيرقدار الشعرية في “خيانات اللغة والصمت” أهمية بالغة، بكونها من بين الأعمال الأدبية التي صورت ما يحدث خلف قضبان أحد أفظع مراكز الإعتقال في سوريا، لا بل في العالم على الإطلاق. ومن جهة أخرى، فإن اللغة الشعرية التي كتب بها الشاعر السوري “تغريبته في سجون المخابرات السورية” هي لغة استثنائية حولت نصه النثري قصيدة طويلة ستبقى لها ما من شك مكانتها الجمالية الخاصة في ما يُسمّيه النقاد بأدب السجون.

لدى قراءة الصفحات الأولى من شهادة بيرقدار الشعرية في “خيـانات اللغة والصمت”، قد يتبادر فوراً إلى الذهن ما كان كتبه جان جينيه وهو في السجن إلى مارك باربوزا، أول من نشر قصائد صاحب “المحكوم بالإعدام” ورواياته. ففي إحدى رسائله إلى هذا الأخير يقول جينيه السجين: “أنا على يقين بأن الشعر سيفتح لي باب السجن هذا يوماً مـا”. وهذا ما حدث بالفعل مع مؤلف “أسير عاشق” عندما اكتشف جان كوكتو موهبته الشعرية، حيث قام بحشد الوسط الثقافي الباريسي من أجلال توقيع عريضة تحمل أسماء كبار الكتّاب الفرنسيين لرفعها إلى الإليزيه، بغرض التماس العفو الرئاسي في حق “رامبو الثاني”، كما أطلق كوكتو يوماً اللقب على جينيه. سيناريو “الشعر يفك من الأسر” هذا، تكرر أيضاً مع فرج بيرقدار الذي يرى في الشعر “التمرين الأقصى على الحرية”، وفي العبارة الشعرية المنقذ من “السجن وما يحيط به من جدران وجنازير وأنفـاق”. وهـذا ما أراد أن يشير إليه الكاتب في مقدمة عمله عندما قال: “أكتب الآن، وأنا حر بدرجة ما، وعلى نحوٍ ما، وذلك بفضل حملة دوليـة بدأها عدد من الأصدقاء، ثم اتسعت لتضم العديد من الأسماء الثقافية والسياسية والمنظمات مثل: اللجنة العالمية لمناهضة القمع، نادي القلم العالمي، منظمة العفو الدولية، و”صحافيون بلا حـدود” … إلخ”.

في “خيانات اللغة والصمت” تبدو موسيقى كلمات فرج بيرقدار أبعد ما تكون عن عالم الفالس ودغدغة المشاعر والأحاسيس، وأقرب ما تكون إلى دينامية سترافينسكي وإيقاعاته الصارخة والمتوترة، لا سيما أن الشاعر قرر أن يشد ما استطاع إليه سبيلا أوتار قيثارة أورفليس، ليكتب نشيداً كان قد وعد رفاقه المعتقلين بتأليفه من أجل “تصوير بعض الوجوه أو المحطات في هذه الرحلة العمياء” التي قضوها معاً في سجن تدمـر، والذي يرسم لنا صاحب “حمامة مطلقـة الجناحين” معالمه المعمارية على النحو الآتي: “أسوار عالية من الإسمنت العنيد البارد…/ أبراج للمراقبة…/ حقول ألغام…/ حواجز ونقاط تفتيش…/ تحصينات ووحدات عسكرية عالية التدريب…/ وأخيراً… محيط من أمثولات الرعب الخالص./ يا أسماء الله!/ حتى لو سقطت سوريا بكاملها/ فإن هذا السجن… يستحيل أن يسقط”.

أما عما يحدث داخل جدران هذه القلعة الجهنمية من تعذيب وتنكيـل، فيحاول فرج بيرقدار تصويره لنا بجمله الشعرية التي يمـزج فيها، وبشكل بارع، ما بين الفصيح والدارج، بعدما قدم للقارئ شروحاً مبسطة عن وسائل التعذيب التي يتعرض لها المعتقلون في السجن مثل “الشبح على السلم” و”الفسخ” والدولاب” و”الكرسي الألماني”… إلـخ. إلا أن محدودية اللغة في التعبير تحول دون رسم لوحة السجن من الداخل بشكل مطابق للحقيقة، بالرغم من أن بيرقدار يلجـأ في كتابة نصه إلى إضافة المحاكِيات الصوتية التي تُسمع هنا وهناك في أرجاء الحبس والتي تصدر عن المساجين كـ”الحمحمة”، و”الغرغرة”، و”الصلصلة”، و”القعقعة” أو “الوهوهات”… إلخ. ففي فصل “تدمريات” يرصد بعض جلسات التعذيب الخرافية التي يتعرض لها المعتقلون على أيدي جلاديهم، نختار منها على سبيل المثال هذه الصورة الفظيعة، التي “تثير القشعريرة حتى في الظهر”، على حد تعبير بيرقدار: “عُدة متناثرة لورشة لحام بالأوكسيجين، بينها مطرقة كبيرة “مهدة” يتناولها العسكري… يرفعها عالياً بمشقة وتصميم، ينزل بها على منتصف العمود الفقري لذلك السجين أو لغيره. صرخة السجين تجعل ألوان الجزء العلوي من اللوحة كامدة بحّاء… تريدون الحق؟ لوحة بانورامية مذهلة… لا غيرنيكا، ولا الآلهة ولا الأساطير…”.

هذه الممارسات المتناهية في الكلبيّة التي يتعرض لها المعتقل في السجون السورية، تجعل من كلمة “تعذيب” مجرد تورية لغوية، لأن قصم ظهر الكائن البشري بهذه الوحشية، ليس سوى محاولة لسحق كيانه الإنساني وإبادته، لا أكثر ولا أقل. وهذا ما يشرح أيضاً مقولة “الموت ولا الإعتقال” التي اخترناها كعنوان لهذه العجالة، حيث حاولنا، وبشكل مقتضب، تفسير هلع المتظاهر السوري اليوم من أن يجد نفسه خلف قضبان أحد سجون جمهورية البعث الستالينية، وذلك من خلال التلميح إلى تجربة الشاعر فرج بيرقدار، الذي يعتبر أن “سجن تدمر ليس فقط عاراً على تاريخ سوريا فحسب، بل وعلى تاريخ الإنسانية جمعاء”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى