الموسيقى الجديدة في سوريا
مزاج السوق/ سامر محمد إسماعيل
أنماط تفكير موسيقية عديدة اختفت في سوريا بعد مصادرة المعهد العالي للموسيقى بدمشق لكل أنواع الموسيقى الشعبية وأنماطها الفلكلورية؛ فالاحتقار المتوارَث للجمل المحلية وعبادة قوالب السيمفوني والأوركسترا والحجرة؛ جعل من الموسيقى السورية خليطاً تطبيقياً عجيباً قوامه لوثة «الموسيقى العالمية» التي جرّمت كل من لا ينتمي إلى موسيقى قصور فيينا وحدائقها الغنّاء؛ فلا موسيقى خارج مؤلفات بيتهوفن وسيباستيان باخ وفاغنر وتشايكوفسكي، لا موسيقى سوى تلك التي حللها الموسيقي العراقي الراحل صلحي الوادي -»1934-2007»، والتي كانت تصل عقوباته لكل من يتجرّأ من طلابه بعزف مقطع من نوتة شرقية بالفصل النهائي من المعهد، فلقد اعتبر «الوادي» وبعض تلامذته من بعده أن لا موسيقى سوى تلك الموسيقى الكلاسيكية ذات القالب السيمفوني الغربي؛ متجاهلاً وعن عمد أي طموح للعمل على المفردات السورية التي أنتجها العمل من ملحميات وغنائيات ودراميات موسيقية تزخر بها مخيلة البلاد منذ آلاف السنين؛ لتصبح الموسيقى في عرف الجمهور تلك التي يؤديها قائد الأوركسترا المفوّض من السلطة، والتي يعزف لها في تشريفاتها وبحضور وفودها الرسمية؛ ففي بلدٍ مثل سورية يمتلك أقدم تدوين لنوتة موسيقية في العالم ـ «اكتشفت في أوغاريت ـ رأس شمرا على الساحل السوري ـ النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد» ـ لم تعد الموسيقى سوى هذا الصدى المعدني البارد لحفلات الأوبرا التي يحضرها ذوو النفوذ وطبقة محدثي النعمة وبعض الصحافيين وأهالي وزملاء الموسيقيين؛ في بلاد يتفوق فيها النظام الستيني البابلي في صياغة معظم أنساقها الموسيقية الأولى التي عمرها من عمر الكوكب، تم وبطريقةٍ ممنهجة إبادة كل ما من شأنه أن يؤسس لعلاقة فعلية مع الجمهور؛ فاحتقار معظم الموسيقيين الأكاديميين للثقافة الموسيقية الشعبية جعل من الصعوبة بمكان البحث في جذر الموسيقى المشرقية التي تشكل سورية أحد أغزر منابعها؛ وهذا ما انعكس سلباً على ذائقة الجيل الموسيقي الذي جاء مع مطلع الألفية الثالثة؛ فلا هو كان قادراً على استيعاب تراثه وصياغته وابتكاره وفق قالب حديث؛ ولا هو راغب في الأصل بمناقشة ذلك؛ بل بدلاً من هذا انكبّ على استنساخ قوالب جاهزة كالجاز والبوب والميتال والبلوز والروك؛ لتصير هذه الأنماط بمثابة «الفتح الجديد» بالنسبة لفرقٍ آثرت الاشتغال عليها؛ دافعةً شخصيتها نحو اغتراب أكثر قسوة مع الجمهور؛ مفارقة لم تكن غريبة في بلدٍ تم تحويل فنون التشكيل والمسرح والسينما إلى نوع من المختبرات المغلقة على نفسها؛ طبعاً باستثناء بعض التجارب هنا أو هناك التي لم تُكتب لها الحياة بفعل عدم وجود جهة قادرة على تظهير وتمويل مثل هذه المشاريع وطباعة أسطوانات خاصة بها، أو إقامة حفلات كبرى في مسارح المدن لفرقها؛ لتنكفئ هذه التجارب وتضمحل أو تهاجر، ومن بقي منها داخل سورية تم ترويضه تلفزيونياً؛ وذلك عبر توظيف مقترحاته اللحنية في شارات المسلسلات وسواها من الأعمال البصرية التي صارت ظاهرة قائمة بحد ذاتها؛ ففي سورية فقط ينتظر مغنون ومؤلفون موسيقيون موسم الفرجة التلفزيونية كي يقدّموا بضاعتهم في سوق عكاظ المسلسلات؛ فيمرون ملوحين عبر شارة هذا العمل التلفزيوني أو ذاك كموديل أو يافطة لموسيقى تصويرية؛ سرعان ما تُنسى وتبهت مع نهاية الحلقة الثلاثين من المسلسل.
الموسيقى البديلة
إن الحديث عن الموسيقى الجديدة يدفعنا مباشرةً نحو موجة ما اصطُلح على تسميته بـ«الموسيقى البديلة» فهذه تمّ تدجينها عولمياً في سياق محاكاة مشوهة للذات، وتطعيم عشوائي بين مقامات غربية وشرقية من باب التظاهر والاستعراض والإيغال في المأساة الثقافية التي تبرز الموسيقى هنا كأحد مفاعيلها؛ ففي ظل غياب أي بارقة أمل لموسيقيين يعزفون مع الفرقة السيمفونية الوطنية نهاراً ويشتغلون في مرابع السهر ليلاً لكسب قوتهم وقوت عائلاتهم؛ باع العديد من الموسيقيين السوريين آلاتهم، بل منهم من اختار الهجرة إلى الخارج والعمل مع فرق غربية على أن يظل محاصراً في بلاده بين خامسة بيتهوفن وأغاني كازينوهات الرقص الشرقي؛ فيما عمل العديد من الموسيقيين على استنساخ سياحي لمفردات التراث الموسيقي؛ فعبر قائمة لا تنتهي من التزوير للشخصية الموسيقية الوطنية سعى هؤلاء لإنتاج ألبومات تتسيّد فيها موسيقى «الراب الأميركي» على معظم «مؤلفاتهم» ناهيك عن الشلل الفنية التي استفردت بحيازة الاستوديوهات المتاحة لتسجيل هذه الأعمال، ومحاولة ترويجها على أنها نوع من التجريب الفني عالي المستوى، والذي قد يكون في عُرف القائمين على هذا التجريب موسيقى بعيدة عن فهم الجمهور العادي، وغير مستساغة لدى الناس؛ لكن موسيقاهم لم تكن في الحقيقة سوى نوع من التجريب في الجمهور، تماماً كما هو الحال في عروض المسرح التجريبي ومعارض الفن التشكيلي التي تؤمن بمدراس الضربة الأولى للريشة، ولا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد أي أثر يذكر في حركة المجتمعات التي تدّعي التعبير عنها.
المهم هو اللعب على مزاج السوق، ففي الموسيقى مثلما هو في التشكيل والمسرح والسينما تم شطب جمهور مجتمعات الريف والمدن الصغيرة من حساب معظم الفنانين الجدد، والذين يتمتعون غالباً بإمكانيات أكاديمية عالية لكنهم لا يمتلكون الموهبة الخلاقة القادرة على إبداع مؤلفات موسيقية جديدة، لا تعلن قطيعتها مع التراث والجمهور، بل تعمل على إنجاز محترفها الخاص بها من دون التجني على الجمل الطربية واللحنية والمقامية المعقدة في بلادها؛ والتي من شأنها لو تم البحث فيها أن ترفد الحركة الموسيقية في العالم بأهم الفرق الفنية، كما هو الحال مثلاً مع موسيقى «الفادو» الشعبية في البرتغال أو موسيقى «الفلامنكو» الإسبانية، واللتين تعتبران من أبرز أنماط موسيقى الشعوب اليوم التي تقام لفرقها الجوالة حول الأرض حفلات في كبرى مدن العالم؛ بل ويحصد مغنوها وموسيقيوها شهرة لا تضاهى على مستوى الكوكب.
ربما «تجعلنا الموسيقى تعساء بشكلٍ أفضل»، كما يقول رولان بارت، لكنها قادرة أن تكون من أقوى أدوات التعبير الإنسانية؛ وحياتنا مليئة بها؛ فالموسيقى في أروقة الفنادق والمتاجر الكبرى والمصاعد الكهربائية وعلى المجيب الآلي تفعل فعلاً خفياً في النفس، وتجعل الحياة قابلة للعيش، لكنها هنا في هذا المقطع من العالم لا تتعدى أن تكون تفصيلاً من الضجيج العام؛ حيث يتم استيراد الموسيقى أيضاً مع قطع السيارات والقطارات والأسلحة الفتاكة؛ في حين لا يعمل العالم العربي على تصدير موسيقاه، بل يواظب يومياً على إعدام مخيلته في فضائيات الفيديو كليب، حتى أغاني «البوب» العربية هي أسوأ مثال يصدّره العرب كصورة عن شخصيتهم؛ فيما تعيش مختبرات الموسيقى على اجترار المستورد أو تعمل على تعديله أو إنتاج نسخٍ تعيسةٍ منه على أنها موسيقى جديدة، وهي بالأحرى مجردة من أية بلاغة فنية أو رغبة في التغيير؛ موسيقى تنجح دائماً في صياغة شارات لمواجيز الأخبار على التلفزيونات الرسمية، فتقلد بلادة هذه التلفزيونات وغيبيتها وامتثالها، لكنها تتبرأ دائماً من أي لمحات شعبية؛ كونها بوق السلطان وسياطه الصوتية لإتمام لهجته الإعلامية الخطرة في وعظ الشعب وتعليبه؛ وهي في وجهها الثاني الذي يهدد بالحداثة عبارة عن إنشاءات رخيصة تدأب على الاحتفال بعيد الموسيقى العالمي؛ وتقيم تظاهرات سياحية ريعية من مثل فعالية «موسيقى على الطريق» معتمرةً قبعة الإخفاء التي تجعل من أصحابها قادة للعُصاب السيمفوني؛ والتقليد الكاريكاتوري لكلاسيكيات موسيقى الشعوب؛ فمع أن بيتهوفن ـ مثلاً ـ اشتق معظم حركات سيمفونيته الخامسة من «المانويت» الرقصات النمساوية الشعبية؛ إلا أن معظم الموسيقيين السوريين ما زالوا يُصرّون على مقاطعة فلكلور بلادهم على نحو.. «اللالا الحموية، الردة الدرعاوية، السحجة الرقاوية، الأوف الساحلي، العتابا؛ الدلعونا؛ الزلوف؛ الميجانا»، متذرّعين بأن هذا النوع من الجمل الموسيقية «متخلّف وساذج وبدائي» مع أن هذه الألوان وسواها بمقدورها لو تمّ الاشتغال عليها والبحث في أصولها الآرامية والبيزنطية والسريانية أن تشكّل ثورة موسيقية وغنائية غاية في الفرادة وفي تحقيق استقلال الشخصية الفنية السورية عن غيرها من الأنواع الرائجة عالمياً؛ وفي هذا السياق تحضر تجربة الفنان نوري اسكندر التي لم تلق الدعم اللازم لإظهارها وترويجها؛ أو تجربة الفنان عدنان فتح الله الذي قدم مؤخراً أناشيد «الزلوف» مع فرقته للموسيقى العربية على مسرح الأوبرا.
أمر آخر يبدو ذكره مُلحّاً هنا هو إزاحة الألوان الغنائية والموسيقية الشعبية عن واجهة الموسيقى السورية، وإحالة عملية إنتاجها لشركات فنية ذات ربح محدود تعمل على طباعة نسخ رديئة من أعمال المطربين الشعبيين على أقراص مدمجة؛ لبيعها في محطات الركوب والسفر وعلى قارعة الطرق العامة؛ ففي هذه التسجيلات التي تبدو للبعض استهلاكية وليست ذات قيمة؛ تكمن هوية المجتمعات التي غيبتها الثقافة الرسمية من اهتماماتها؛ أو في أحسن الأحوال تعاملت معها كنوع من التُّرَف والمهازل الشعبية غير ذات قيمة، في حين أن هذه التسجيلات التي تنتشر بكثافة في المرافق ووسائل النقل العامة هي ذخيرة شعب تعامل مع موسيقاه القومية ببراءة ..
(كاتب سوري)
تجارب توهجت وخفتت في المشهد القاسي/ يوسف الجادر
إن الدخول في فضاء مصطلح (الموسيقى الجديدة) الدلالي يحيل الذاكرة الإبداعية في الموسيقى إلى عدة مستويات معرفية أهمها المستوى التاريخي، فالموسيقى الجديدة تشمل أغلب التجارب الموسيقية في لحظة إبداعها، لأنها تشكل البوابة الرئيسية في الخروج عن السائد والتقليدي، وتعيد بالدلالة ذاتها إلى الانطلاقة الجديدة والانعطافة التاريخية على مستوى الإبداع الموسيقي عموماً.
ونجد الكثير من الأمثلة في تاريخ الموسيقى العربية على تلك الجدة والحداثة التي شكلت تلك الانعطافة في الموسيقى، فلاقت تلك التجارب الكثير من الانتقادات من قبل التقليديين والمتمسكين بالقوالب الثابتة في الموسيقى العربية، فسيد درويش تجاوز عصره في الحداثة والتجديد ونقل الموسيقى من الصالونات إلى الناس، وعدّه المتمسكون في القوالب خارجاً عن الأصالة، ومحمد القصبجي ابتكر الطرب التأملي وأصبح ذا فضاءات كثيرة، بينما دمج محمد عبد الوهاب بين عالمي الموسيقى الغربية والشرقية بلغة موسيقية جديدة.
ومن هنا يمكن التطرق للموسيقى الجديدة في سوريا بناءً على عدد من المتابعات والقراءات في التجارب الموسيقية الجديدة، والتي بدأ يظهر ألقها ووهجها بعدما دخلت الموسيقى في سوريا إطارها الأكاديمي والمؤسساتي، وخصوصاً عند استحداث المعهد العالي للموسيقى، والفرقة السيمفونية الوطنية في تسعينيات القرن الماضي على يد المايسترو الراحل صلحي الوادي. إضافة إلى الإطار النقدي الذي بدأ يتشكل بالتوازي مع الإبداع الموسيقي رغم أسبقية المؤلفات النقدية السورية التي كانت تضع المفتاح والركن الأساسي للقراءات النقدية كمؤلفات الموسيقي محمد حنانا في التأليف والترجمة والإعداد، ورؤية الناقد الموسيقي صميم الشريف في التحليل والقراءة والتأريخ، إضافة إلى الكثير من النقاد الذين أثروا المكتبة الموسيقية والنقدية.
ومنذ ذلك الوقت بدأت تظهر ملامح الموسيقى الجديدة في سوريا عبر تجارب فردية أو مشاريع جماعية صيغت ضمن مسميات كثيرة، وأدرك الجيل الموسيقي الجديد في ما أدرك أهمية الموسيقى في خروجها من سطوة المفردة الشعرية لتصبح موسيقى ذات دلالات سمعية جمالية رفعت من ذائقة المستمع بعيداً عن القصيدة والأغنية، وأصبحت الفرقة السيمفونية، وأوركسترا المعهد للموسيقى الشرقية، وجوقات الكورال في المعاهد الموسيقية الإطار الأكبر لإظهار تلك التجارب عبر كتابة الموسيقى وتوزيع المقطوعات الكلاسيكية وتقديمها بروح جديدة وتقنيات إضافية في توزيع الأصوات والجمل الموسيقية.
ودخلت في الأوركسترا آلات موسيقية شرقية كانت مرتبطة بالموسيقى الشعبية أو في أحسن حالاتها معروفة في التخت الشرقي الطربي، لكنها وبجدارة دخلت في الأوركسترا الوطنية على يد الموسيقي وعازف البزق محمد عثمان، الذي ساهم في خلق أجواء في تكنيكات آلة البزق العالية، وإظهارها في الملمح الجديد.
وانطلقت الفرقة السيمفونية الوطنية في سوريا، وبدأت تقدم أعمالها الأوبرالية والموسيقية في أغلب المواقع الأثرية في البلاد عارضة كبريات الأعمال الكلاسيكية والأوبرالية بلغة جديدة، وكان للمايسترو صلحي الوادي الدور الأبرز في نجاح تلك الفرقة، فكان يقود الفرقة بنجاحات كبيرة. وعند افتتاح دار الأوبرا بدمشق عام 2004 أصبح للتجارب الموسيقية الجديدة المناخ الطبيعي الملائم لبناء العالم الموسيقي الأدائي والإبداعي المتكامل، ما جعل التفكير بجدية بخلق فضاء موسيقي جديد يختلف عن السائد والتقليدي.
تجارب
من هذا الفضاء، وخلال ما يقارب العقدين من الزمن بدأ نجم التجارب الفردية الموسيقية والغنائية يتوهج، مرتكزاً على البعد الأكاديمي من ناحية، والأصالة والتراث الموسيقي الشرقي والعربي من ناحية أخرى، وأصبحت تلك التجارب تأخذ مسارات هويات موسيقية مستقلة لها أفكارها وملامحها الخاصة، ومن أكثر التجارب التي أخذت حيزاً من المتابعة والحضور ما قدمه الثنائي باسل رجوب ولينا شماميان، فتمكن رجوب من خلق فضاءات جديدة وخصوصاً في الأغنيات التي أدتها المغنية شماميان، إذ كان لدور الصوت المثقف جماليته الخاصة في إضفاء الروح والصوت الجديدين على أغنيات تراثية كأغنية (هالأسمر اللون وحوّل يا غنام) وغيرها، وصدرت للثنائي رجوب وشماميان عدة أسطوانات منها (أسمر اللون ـ شامات ـ خيط قصب).
ومن التجارب التي يمكن الوقوف عندها أيضاً في هذا العرض تجربة عازفة العود والمغنية وعد بو حسون، فقد تجاوزت الغناء بمفهومه العادي لتحلق في فضاءات الابتهال والوجد وتدخل أجواء فلسفة العرفان والاتحاد ووحدة الوجود الصوفية، فوعد بو حسون لا تغني فقط، بل تصلي للجمال وتكشف بذكاء قوة المفردة الشعرية في قصائد المتصوفة لتزيد من وهجها وألقها وتلبسها لباس الموسيقى والغناء، وتقدم بمساحات صوتية ولحنية عذبة الصورة الشعرية حين تغني قصائد لجلال الدين الرومي، وأبو منصور الحلاج، وأبو يزيد البسطامي وابن عربي وغيرهم من شعراء المتصوفة. وقد صدر لها في المعهد العربي في باريس ألبومها الخاص (عرفت الهوى) سنة 2008.
ومن التجارب التي ظهرت في تلك المرحلة تجربة عازف العود والمغني خالد الجرماني الذي كشف في مقطوعاته الموسيقية لغة جديدة في التصوير الموسيقي عبر عناوين مؤلفاته الموسيقية التي كانت تعرض بين الأغنية والأخرى، وعناوين مثل (لُقيا، حصان وحلم، فرح، ظلال، أثر، أصداء، أجنحة) تكاد تكون هذه العناوين قد كسرت في معناها نمطية الأداء والعزف والتوزيع الموسيقي، وخصوصاً حين انسجمت مقطوعة (أثر) مع الموسيقى التي تميزت باختفاء الإيقاع، أو انعدامه أحياناً أخرى كي تبقى الجملة الموسيقية وحدها تسير في انسيابية لتأخذ المتلقي إلى بواطنه الداخلية (الجوانية).
ومن تلك التجارب أيضاً تجربة الموسيقي وعازف العود معن خليفة، في أسطوانة (مطرز) كتجربة أولى أعطت دوراً كبيراً للجملة الشعرية والأغنية، فمنحت لأصوات كـ(ليندا بيطار وسومر نجار وأسامة كيوان) المساحة الكبيرة للتحليق في فضاء الصوت، لكن «خليفة» لم يتوقف عند التلحين والغناء، بل استمر في كتاباته وألحانه وأسس فرقة (حرارة عالية) ليدخل عوالم الشعر الصوفي ويكتشف دلالاته الجمالية والروحية، ويبني تجربته الموسيقية الجديدة على قصائد (ابن الفارض) و(الشيخ محيي الدين ابن عربي).
لقد وجد الموسيقيون الجدد في الموسيقى التصويرية الباب الأكثر تواصلاً مع إبداعاتهم ومؤلفاتهم الموسيقية، إذ أصبحت الموسيقى التصويرية ركيزة أساسية من ركائز العمل الدرامي عموماً، والتلفزيوني خاصة، وأصبح الموسيقيون يكتبون أعمالهم التي تحاكي العمل الدرامي وتفرعاته وانعطفات الحكاية، إذ أصبحت الموسيقى التصويرية أكثر خلقاً وابتكاراً توازي جمالية الحكاية والحوار، وبالعذوبة نفسها واصل المبدع الموسيقي السوري فرض أجوائه اللحنية على الأعمال الدرامية التلفزيونية بأنواعها المختلفة، سواء كانت كوميدية أو اجتماعية أو تاريخية، وبرع عدد من الموسيقيين الذين أصبح لهم تميز على هذا الصعيد كالموسيقي طاهر مامللي، وسعد الحسيني، وسامر رضوان، وإياد الريماوي، وآخرين.
مهرجانات
وكانت المهرجانات التي كانت تنظمها المؤسسات الرسمية الداعمة (الأمانة السورية للتنمية ـ روافد ـ وزارة الثقافة ومحافظة دمشق) فرصة في عرض إبداعات وتجارب الموسيقيين الشباب الجديدة، كمهرجان الجاز، وعيد الموسيقى، ومهرجان «موسيقى على الطريق» حيث سعت تلك المهرجانات لنشر الموسيقى الجديدة لتصبح في متناول الجميع، فلاقت نجاحاً كبيراً وخصوصاً بين أوساط الشباب لأنها حافظت على الاستمرارية للكثير من التجارب الموسيقية.
إضافة إلى مهرجانات موسيقية تخصصية كمهرجان «مساحات شرقية» الذي حقق في انطلاقته الأولى والثانية التواصل والحوار بين مختلف نماذج الموسيقى الشرقية، فقدم المهرجان التنوع وتعدد الفضاءات الموسيقية التي شملت أغلب التجارب الآسيوية والشرق أوسطية، إضافة إلى فعاليات تنظيرية نقدية لمستشرقين ونقاد موسيقيين عالميين سلطوا الضوء على جوهر الموسيقى الشرقية والشرق أوسطية.
أسس هذا المناخ الجديد في الموسيقى السورية لمرحلة انعطافية كبيرة أحدثت الركيزة الأساسية الكبرى التي سوف تكشف لعدد من التجارب والتي ستشكل لغة جديدة ومبتكرة، توقف وتلجم الموسيقى المبتذلة والهابطة التي تنتشر في الفضائيات.
(ناقد موسيقي سوري)
موسيقى النخبة/ منى حمود
أواسط التسعينيات عرفت سورية حركة موسيقية ناشطة عدّها البعض توازي الموجة الغربية الجديدة؛ والتي أفضت إلى ظهور فرق شبابية في مقدمها كانت فرق من قبيل.. «كلنا سوا، إطار شمع، جين، لينا شاماميان، فتت لعبت، أنس أند فريندز، ماظوط، حرارة عالية، مرمر، طويس، حوار»، وغيرها، حيث طرحت الفرق الجديدة الكلمات بلهجات عامية، وتناولت مواضيع تخص هموم الشباب اليومية، وعبّرت عن الحب بطريقة واقعية، وذلك لخلق نمط يحترم إنسانية المتلقي ومستواه العقلي والفكري.
يمكن الوقوف هنا على أنماط كثيرة من الموسيقى السورية «المعاصرة» أو الحديثة بدءاً من الشعبي والذي يسعى البعض إلى مزجه بـ«الراب» وأنماط من الإنشاد الديني، وإلى المؤلفين والمغنين الذين قدموا مشاريع ذات قيمة اهتمت بمزاوجة بين الديني والأسطوري كالتجربة التي قام بها عابد عازرية الموسيقي والمغني السوري المقيم بباريس؛ وذلك حين دمج عازرية بين أسطورة جلجامش وإنجيل يوحنا التي ألفها وغناها، إضافةً لمشروع مالك الجندلي في ألبومه «أصداء من أوغاريت» الذي كان حصيلة محاولاته لمزج المقامات الشرقية بطريقة أكاديمية مع النظرية الهارمونية للموسيقى الكلاسيكية، حيث قام بتوزيع أقدم تدوين موسيقي في العالم اكتُشف في مدينة أوغاريت على لوحات مسمارية تعود للقرن الرابع قبل الميلاد.
هناك أيضاً تجربة عازف الساكسوفون باسل رجّوب الذي أظهر موهبة على مستوى التوزيع الموسيقي في تجربته مع لينا شاماميان، فعمل لسنوات على مجموعة مقطوعات متأثراً بالجاز والفيوجن والتراثيْن التركي والأرمني، وأصدرها أخيراً في ألبوم بعنوان «خَمير» وفي هذا السياق في استعراض الفرق الشابة تطالعنا فرقة «زودياك» التي اعتمدت على نمط موسيقى «الروك» وأحياناً «الهارد روك»، وفرقة «جين» التي تضم اليوم عدداً من موسيقيي «زودياك» وتعتمد نمط «البروغرسف» وهو النمط الأكثر أكاديمية من بين أنواع الروك، وله قوالب موسيقية معروفة ومدروسة، ويمكن تضمينه العديد من الخيارات في التأليف الموسيقي، ففرقة «كلنا سوا» قدموا الروك البديل؛ معتمدين على نمط موسيقي خاص مبني على عناصر من موسيقى الجاز، الروك، الفنك والموسيقى اللاتينية والموسيقى العربية.
فرقة «إطار شمع» أيضاً قدمت الجاز، وفرقة «طويَس» كذلك قدمت مقطوعات موسيقية تنقسم بين كلاسيكيات مستعادة من التراث الشرقي القديم والحديث، وهناك فرقة «إنسانيتي» قدمت نمط «الهارد روك، فيما قدمت «أنس أند فريندز» موسيقى البوب، في حين تميزت فرقة «حوار» بدمج أنواع متعددة من الموسيقى الشرقية وموسيقى الجاز؛ بالإضافة إلى الأوبرا والموسيقى الكلاسيكية، أما فرقة «جسور» التي طمحت إلى تقديم موسيقى وغناء بلاد الشام وبلاد الرافدين، وهذا المزيج من الأنماط الموسيقية فهو ما أكسب هذه الفرقة هويتها المحلية، بل كل الفرق الموسيقية السورية الشابة؛ وكانت كلما زاد الخلط بين الآلات واللغات والأساليب اقتربت الموسيقى نحو وصف (البديلة) شريطة أن تتراوح أعمار العازفين بين 20 و40 كحدّ أقصى ليندرجوا في جدول الشريحة العمرية الشابة، والغناء المنفرد كالمغنية وعد بو حسون في مشروعها الفني المكوَّن من أساسات ثلاثة هي العزف على العود، والغناء، والتأليف الموسيقي، بينما بزغ الفنان إبراهيم كيفو كمطرب ومؤرخ للحركة الفنية ومؤرشف للتراث الفني في الجزيرة السورية، ليقدم بشار زرقان موسيقاه معتمداً على اتخاذ اتجاه مختلف عن غيره في تلحين النصِّ الصوفي؛ ووضعه في سياق مختلف عن سياقه الشعري إلى حدٍّ ما، فكان برز نتاجه في هذا اللون ألبوم «حالي أنت» وألبوم «الجدراية» عن كتاب محمود درويش المعروف.
أخيراً وصلت الموسيقى الجديدة إلى الموسيقى التصويرية التي باتت ترتبط ارتباطاً عضوياً بما يقدم من أعمال تلفزيونية؛ وقد نجح بعضها في استيحاء التراثي والصوفي، وحتى السيمفوني، فذاع صيت هذه الموسيقى؛ وقُدِّم في حفلات بقيادة كل من مؤلفيها طاهر مامللي ورضوان نصري وسعد الحسيني وإياد الريماوي.
يدافع الموسيقيون الشباب اليوم عن هذه الفرق ويرفضون تسميتها «بالبديلة»، وقد يكون من غير الدقيق تصنيفها على هذا النحو لغياب المعايير، وفي مكان آخر تتراجع الوظيفة التي قال بها بعض الموسيقيين من حيث التعبير عن هموم الشباب في ظل ما تعيشه البلاد منذ ثلاث سنوات ونصف، فأين نجد هذه الفرق اليوم من القضايا الكثيرة والإشكالية التي يعيشها الإنسان السوري من ويلات حرب ونزوح ولجوء وبطالة وفقر وتطوع وغيرها من الراهن، والتي لم يكن للموسيقى بكل أشكالها التي درجت مقدرة على استيعابها واستحضارها فيما قُدم سابقاً؟
إن المتابع ـ في مقطع زمني ـ للموسيقى السورية يمكن له أن يبدأ من السلم الموسيقي التاريخي الذي استعملته الكنيسة السريانية الأنطاكية، وانبثقت منها جميع الألحان الموجودة في العالم، وأن يقف على أناشيد وقصائد غنائية هي من أقدم ما هو معروف في التراث الثقافي الإنساني، والتي تتطابق مع أقدم لوحة موسيقية أكاديّة وجدت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، إلى صور ولوحات لأجواق من الموسيقيين المنحوتة على القدور، فهناك آثار تدل على مدرسة لتعليم الموسيقى في طول البلاد وعرضها، ثم له أن يشهد تراجع صناعة الموسيقى والغناء في العهد الراشدي، في حين أغدق بعض الخلفاء في العصر الأموي الهبات على كبار الموسيقيين، ففي بلاط سيف الدولة الحمداني بحلب ظهر الفارابي الذي كان موسيقياً ضليعاً مجيداً للعزف على العود، وقد ألف كتباً عدة منها: «الموسيقي الكبير»، و«كلام في الموسيقى»، و«في إحصاء العلوم» الذي عرض فيه أيضاً للموسيقى، وإليه ينسب اختراع آلة القانون، ولا يخفى ما كان للاحتلال العثماني لبلاد الشام 1516 من أثر بالغ في صبغ الموسيقى العربية بالطابع التركي، حيث ضاعت معه معالم الموسيقى العربية الأصيلة، وتأثرت بلاد الشام بـ«الفتلة المولوية» التي جاء بها المتصوف جلال الدين الرومي، أما في القرن الثامن عشر فاشتهر بعض المنشدين السوريين من المتصوفة، وفي القرن التاسع عشر قامت الحياة الموسيقية في بلاد الشام على فن «الموشح» الذي بلغ الأوج على أيدي الحلبيين، فازدهر فن الأغنية الشعبية التي كانت استقت مادتها من الحياة اليومية، حتى أضحى هذا اللون، بعد أن جُمع وهُذِّب من تراث الشعب الفولكلوري، حيث يعود الفضل في إدخال آلة الكمان الغربية على التخت الشرقي للفنان أنطوان الشوا وولديه فاضل وسامي، أما في عهد إبراهيم باشا فولدت الموشحات والقدود التي تُنسب لحلب على يدي الشاعر الحمصي أمين الجندي، ومع بدايات القرن العشرين كانت النهضة الموسيقية بفضل الأندية الموسيقية، إذ كان جُل أعضاء هذه الأندية من البرجوازيين المثقفين، فتأسست المعاهد وشُكِّلت الفرق الموسيقية.
نكتشف هنا أن الموسيقى السورية الحديثة، وعلى الرغم من أخذها من كل المصادر التي وردت في تاريخ تطور المجتمع الموسيقي السوري ـ إذا جاز التعبير ـ لم تستطع تحقيق الانتشار والوجود في الوعي الشبابي، بل ربما بقيت نخبوية متوجهة إلى جمهور وشريحة معينة؟ ومن الملاحظ بأنه حتى الآن لم تفلح الفرق الشبابية وحتى بعض الأصوات المنفردة في الانضمام تحت جناح «الفيديو كليب» عدا بعض التجارب المستثناة، علماً بأنها الوسيلة الأهم في تحقيق الانتشار، فالمنتجون يشعرون بأنهم يراهنون على تجارب ما زالت في مقتبل العمر، رغم جهود ومحاولات وزارة الثقافة لدعم هذه الفرق من خلال مشاريع قربتهم وقدمتهم للمجتمع كمهرجان الجاز ومشروع «موسيقى على الطريق» وغيرها من الفعاليات التي بقيت قاصرة عن ترويج هذه الأنواع.
من جهة أخرى فالفنّ المسموح به إعلاميًّا يسوّق ما يُراد له أن يستشري لضمان الاستهلاك والخضوع والتفكّك والميوعة النفسيّة والأخلاقيّة والفكريّة، والذي يهيّئ الوعي لقبول حياة فارغة سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، والاكتفاء بها؛ الحياة والفنّ للترفيه، بدلاً من أن يكون جزءاً بسيطًا منهما، فالفن سبر لأغوار الحياة وتحريض على الفعل وليس للترفيه، وإذا كانت الإيديولوجيات والعقائد قديماً قامت بالتطهير والتحريم والإبادة، أليس ما نراه اليوم «تطهيراً نفسيّاً/ ثقافيّاً» إضافة للتطهير العرقي في الحروب، وتجريد للفن من الفكر ومساواته بالارتزاق؟
قد يكون من الإنصاف التساؤل عن أهمية توثيق الموسيقى الشعبية الفلكلورية التي كوّنت وتكوّن الذاكرة الجمعية للشعب السوري، الموسيقى التي بإمكان أيّ مستمع، مهما كان مستوى تعليمه أو دخله أو طبقته الاجتماعية أو منشئه الجغرافي، أن يرى أوجهاً من حياته وثقافته وهمومه فيها، التي تبدأ بالجمع والانتقاء ثم تتحوّل إلى تأليف وتطوير ونمذجة، لتكون هوية واحدة للسوريين، في محاولة قد تكون شبيهة لما قام به الأخوان رحباني وكذلك نديم محسن وشربل روحانا في لبنان، وغيرها من التجارب القريبة التي يعرفها بعضنا.
(كاتبة سورية)
السفير