الموقف الإيراني من الأزمة السورية –مجموعة مقالات-
“النووي الإيراني”: مآلات التمديد مجددًا/ د. فاطمة الصمادي
ملخص
تتناول هذه الورقة أسباب وأبعاد التمديد لاتفاق جنيف المؤقت بشأن برنامج إيران النووي، بعد أن انتهت المهلة المحددة في الــ 24 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كموعد نهائي له، وعلى الرغم من أن التمديد حال دون فشل المفاوضات، وعكس رغبة سياسية في إنجاح المفاوضات؛ فإن الشهور الستة القادمة ستكشف تبعات هذا التمديد في قضايا لا تقتصر على الملف النووي، وستطول الاقتصاد الإيراني، وعلاقة المتنافسين على الساحة السياسية الإيرانية؛ خاصة أن روحاني لم ينجح في الحصول على مزيد من التخفيف في موضوع العقوبات، كما تمتد هذه التبعات إلى الساحة الإقليمية والدولية ومواجهة تنظيم الدولة الإسلامية؛ ففي الوقت الذي تحتاج فيه واشنطن للحليف السني في هذه المواجهة، تبدو بحاجة ماسة إلى المساعدة الإيرانية، وقد حملت “تغريدات” مرشد الثورة الإسلامية وتصريحاته الأخيرة مؤشرات عدة إلى وجود خلافات بشأن قضايا غير نووية ألقت بظلالها على المحادثات النووية.
وتخلص الورقة إلى إن ربط الملف النووي بالأزمات الأخرى في المنطقة قد أعاق الوصول إلى اتفاق نهائي بشأن برنامج إيران النووي، وإن إنجاز اتفاق نهائي بشأن برنامج إيران النووي لن يتمَّ من دون حسم الخلاف وتحديد مساحة الدور الإيراني في المنطقة، وتؤكد الورقة أن الفشل في التوصُّل إلى اتفاق نهائي سيحمل تبعات تصل إلى الولايات المتحدة الأميركية وإيران؛ لذلك ستسعيان في الأشهر القادمة إلى إنجاح اتفاق نهائي.
دفعت خلافات المفاوضين إلى إبقاء اتفاق جنيف المؤقت بشأن برنامج إيران النووي مؤقتًا حتى الأول من يوليو/تموز من العام المقبل، وحالت مطالب أميركية قُدِّمت في اللحظة الأخيرة دون اتفاق نهائي وشامل بين إيران والقوى الكبرى.
وينص هذا الاتفاق -الذي مُدَّت بموجبه المفاوضات ستة أشهر- على أن تبقي طهران على تخصيب اليورانيوم بنسبة 5%، وسيتم بموجبه إفراج الغرب عن 700 مليون دولار شهريًّا من أرصدة إيران المجمدة، وبموجب هذا الاتفاق تكون إيران قد نجت من فرض عقوبات جديدة؛ وإن كان يعني استمرار العقوبات التي سبق وفُرضت عليها، وهو ما يحمل مؤشرات سلبية بالنسبة إلى إيران؛ خاصة أنها كانت تدفع بقوة للوصول إلى اتفاق نهائي.
تناقش هذه الورقة الأسباب التي حالت دون توقيع اتفاق نهائي بشأن برنامج إيران النووي، وتبعات ذلك؛ إضافة إلى الحديث عن الشروط المطلوبة لإنجاز الاتفاق النهائي في الفترة المحددة.
نصف نجاح.. نصف فشل
لم تنتهِ المفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني بالتوصل إلى اتفاق نهائي؛ لكن في الوقت ذاته فإن تقدُّمًا ملموسًا قد تحقق؛ لذلك لا يمكن القول بفشل المفاوضات، كما لا يمكن القول بنجاحها؛ أرجعت بعض المصادر فشل التوصل إلى اتفاق نهائي في جنيف إلى الطرف الأميركي؛ الذي طرح في اللحظات الأخيرة من المفاوضات مطالب جديدة لم تُطرح من قبل(1)؛ بل إن تحليلات إيرانية متخصِّصة تحدَّثت عن طرح مناقض بالكامل لما جرى الحديث عنه في جولة محادثات مسقط التي سبقت جنيف؛ هذه الرواية أكَّدها موقع “إيران هسته اى” المتخصص في تغطية أخبار الملف النووي الإيراني، ونقلت عن مصدر خاص بها القول: “لقد أفشل الطرف الأميركي المحادثات في الدقيقة 90، لقد طلب مفاوضوهم الكثير من دون أن يقدموا وعودًا واضحة في المقابل”. وقد ترك الطرف الأميركي طاولة المفاوضات ثم عاد إليها بعد تقديم مشروع جديد؛ تضاربت المعلومات في البداية بشأن الجهة التي قدَّمته، ثم جاء ما يفيد أنه مقدَّم من قِبَل إيران(2)، وبدا واضحًا أن ما حدث في هذه المفاوضات لم يكن بمعزل عن الأوضاع المعقَّدة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، والأدوار التي تلعبها الولايات المتحدة وإيران فيها؛ خاصة في العراق وسوريا.
ووفقًا للتقارير فإن المقترح الإيراني يضع الكرة في الملعب الأميركي، وقد يسبق موعد انتهاء المفاوضات -حول الاتفاق النهائي الشامل بشأن برنامج طهران النووي أواخر يونيو/حزيران المقبل- بأشهر اتفاق سياسي، فيما تترك المدة الباقية لإعداد المسودة وبحث التفاصيل الفنية وقتًا.
العقوبات: سيف فوق العنق الإيرانية
لم يعد في طهران مجال لإنكار الأثر الذي تركته العقوبات على الاقتصاد الإيراني، وتكاد لا تخلو تصريحات لمسؤول إيراني من ربط المفاوضات بالعقوبات، كما أن إزالتها كان الهدف الذي أعلنه الرئيس الإيراني حسن روحاني؛ الذي قدَّم من أجله ما يُسَمِّيه خصومه في الساحة السياسية الإيرانية بـ”التنازلات”، وعلى الرغم من تواضع ما حقَّقه فريقه على هذا الصعيد؛ فإنه ما زال متمسِّكًا بـ”ضرورة الاستمرار في التفاوض، وضرورة الاستجابة لمطلب إيران بإزالة العقوبات؛ حيث إن العالم بات يعرف أن العقوبات لن تجدي مع الشعب الإيراني”(3).
وبالنسبة إلى الطرف الأميركي فقد ظهر الخلاف واضحًا بين البيت الأبيض والكونغرس بشأن مسألة العقوبات؛ فبينما عارض البيت الأبيض الدعوة إلى تشديد العقوبات الدولية المفروضة على إيران، يصرُّ الكونغرس على هذه العقوبات، ودعا بعض أعضائه إلى التصويت على مزيد من العقوبات، كما يرفض استمرار التفاوض مع إيران؛ لكن واشنطن استمرَّت في تعليق جزء من العقوبات.
أما الطرف الأوروبي فقد نص القرار الذي نشرته الجريدة الرسمية للاتحاد الأوروبي(4) على أنه “تمَّ تمديد تجميد التدابير المقيدة التي نصت عليها خطة العمل المشتركة؛ التي أقرتها السداسية وإيران في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 إلى 30 يونيو/حزيران 2015، ويأتي ذلك تبعًا لقرار السداسية وإيران تمديد مهلة خطة العمل المشتركة حتى التاريخ المذكور”.
وتشمل عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد إيران حظر تمويل الصفقات مع طهران، وحظر الاستثمار في الصناعات النفطية الإيرانية، وحظر تأمين ناقلات النفط الإيرانية، وحظر التجارة مع إيران في مجال الأحجار والمعادن الثمينة(5).
وكانت مجموعة 5+1 التي تضمُّ الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا أقرَّت اتفاقًا مع إيران بجنيف في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2013 تضمن خطة عمل مشتركة؛ التزمت خلالها طهران بعدم تخصيب اليورانيوم أعلى من نسبة 5%، وبأن تُخَفِّض بشكل كبير من وتيرة تطوير برنامجها النووي، وأن تسمح لمراقبي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش مواقعها النووية المحورية، وفي المقابل وافق الغرب على تخفيف العقوبات الاقتصادية جزئيًّا، ووصف هذا الاتفاق بأنه خطوة أولى يجب التوصل بعدها إلى اتفاقية شاملة(6). ومن المقرَّر أن يجري الاجتماع التالي للسداسية وإيران في ديسمبر/كانون الأول من هذا العام.
إن فشل المفاوض الإيراني في رفع العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة على طهران -التي كلفت إيران عشرات المليارات من الدولارات- سيكون له تبعاته المباشرة على الاقتصاد الإيراني، ولن يُمَكِّن التمديد لاتفاق جنيف الجمهورية الإسلامية من زيادة صادراتها النفطية في الأسواق العالمية، أو استئناف علاقات مصرفية عادية مع الغرب في الفترة المقبلة(7).
وتُعَدُّ وتيرة رفع العقوبات من أهمِّ العوامل التي عرقلت المحادثات النووية وأدَّت إلى تمديد فترة المفاوضات، وكان فريق روحاني المفاوض مكلَّفًا بالتشدُّد في مسألة المطالبة برفع العقوبات الاقتصادية، والمتعلقة بمجال الطاقة بشكل فوري وكامل؛ وذلك كدليل على حسن النوايا؛ فيما كان الطرف الأميركي مصرًّا على جدولة إزالة العقوبات على مدى زمني يصل إلى عشر سنوات.
وخلال الأشهر الستة القادمة ستحاول طهران الاستفادة من التخفيف النسبي في العقوبات؛ الذي يوفِّر لها يقارب 700 مليون دولار شهريًّا(8).
وكانت إيران تعوِّل كثيرًا على اتفاق مؤثِّر على صعيد إزالة العقوبات، وما يمكن أن يحمله ذلك من انتعاش اقتصادها، وانخراطها في الأسواق المالية والطاقة الدولية من جديد، وجذب الاستثمارات الخارجية المباشرة، وتحرير الأصول المجمدة في الخارج(9).
ويقول آخر تقارير البنك الدولي الاقتصادية حول إيران: إن العقوبات الصارمة المفروضة على صادرات النفط الإيرانية وبعض القطاعات الرئيسة كصناعة السيارات ومعاملات البنوك الدولية والمحلية، قادت بشكل مؤثِّر إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 5.8% في عام 2012-2013، و1.7% في عام 2013-2014؛ أما صادرات النفط فقد انخفضت إلى 1.1 مليون برميل يوميًّا، وهو نصف الكمية التي كانت تُصَدِّرها طهران قبل عقوبات عام 2012؛ التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وكان تخفيف العقوبات في إطار خطة العمل المشتركة في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي قد مكَّن إيران من زيادة صادراتها النفطية تدريجيًّا؛ حيث ارتفع عدد براميل النفط المصدرة إلى الصين من 250 ألفًا يوميًّا إلى 540 ألف برميل؛ ليصل مجموع صادرات النفط الإيراني إلى 1.21 مليون برميل في اليوم في يونيو/حزيران الماضي(10).
ولا يزال الاقتصاد الإيراني يُواجه نسبة تضخُّم عالية، ونسب بطالة مرتفعة بلغت 10.4% حسب مصادر إيرانية رسمية؛ ولكن جهات غير رسمية تُقَدِّر النسبة بما يقارب الـ20%، وفي سياق تنفيذ إصلاحات -بهدف تحسين الآفاق الاقتصادية- التزمت الحكومة بتخفيف مستويات التضخم، وإقناع المجتمع الدولي برفع العقوبات؛ وكان الهدف الأساسي من هذه المبادرات -وعلى رأسها تلك المتعلقة بتخفيف الضغوط الدولية على الاقتصاد الإيراني- دعم الاستهلاك والاستثمار، ورفع القدرة الشرائية للمستهلكين، وتخفيف نسب البطالة، وتنمية الاقتصاد بنسبة 1.5% في 2014-2015 مع معدل تضخم لا يتجاوز 23%.
وتفرض الحاجة الإيرانية في مجال الطاقة إدامة البرنامج النووي، وقد أشارت دراسة لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية أن إيران تحتاج في 2021 إلى تأمين ما يعادل 12.5? من احتياجاتها من الكهرباء من الطاقة النووية؛ وهو ما يجعل إدامة المشروع النووي الإيراني مسألة في غاية الحساسية من الناحية الاقتصادية؛ فضلاً عن جوانبه السياسية، خاصة أن التقارير الإيرانية تُشير إلى أن 60 حقلاً نفطيًّا كبيرًا في إيران باتت قديمة، وطالها التآكل، وهناك 57 حقلاً تحتاج إلى صيانة، وتؤكد تقارير عدة أن 80% من الحقول النفطية الإيرانية دخلت النصف الثاني من عمرها، وأنها تفقد سنويًّا من 8- 13% من قدرتها على توليد النفط، وتحتاج هذه العملية إلى مدى زمني يصل إلى 15 عامًا، وكلفة تصل إلى 40 مليار دولار(11).
النووي وما هو أبعد من النووي
على مدى عامين سعى الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى فتح قناة تفاوضية مباشرة مع المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي؛ وذلك من خلال رسائل نقلها أصدقاء للجانبين، وبدأ أوباما بتطبيق نصائح قدَّمها مستشارون كثر بأن التفاوض الذي سيقود إلى نتيجة يجب أن يتم مع مرشد الثورة صاحب الكلمة الفصل في الملف النووي والملفات الأمنية الأخرى، وتحدَّثت رسالة أوباما الأخيرة عن اهتمامات ومصالح مشتركة في مقدمتها مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)(12). واختلف تقييم المعلِّقين الأميركيين بشأن خطوة أوباما، ووجدها بعض المحللين خطأً يزيد من صلابة الموقف الإيراني، كما أن الكشف عن الرسالة يُضعف -أيضًا- أوباما في مكان آخر؛ حيث يعمق التوترات مع حلفاء أميركا في المنطقة؛ الذين تحتاجهم الولايات المتحدة الأميركية في تعزيز المعارضة السنية لتنظيم الدولة(13).
وإن كانت الإدارة الأميركية تحتاج إلى الحليف السني في مواجهة تنظيم الدولة والقاعدة في العراق وسوريا؛ فإنها تحتاج إلى إيران بالقدر نفسه، يضاف إليه حاجتها في أفغانستان؛ خاصة مع هاجس الخوف من تعاظم عمليات طالبان.
على الطرف الآخر كشفت تغريدات مرشد الثورة الإسلامية على خامنئي على تويتر أن القضايا محل الجدل مع واشنطن أوسع من ملفها النووي، وأن القضايا غير النووية قد ألقت بظلال ثقيلة على المفاوضات النووية.
وقال خامنئي في سلسلة “تغريدات” أطلقها على حسابه الرسمي على تويتر باللغة الإنجليزية: “إن أميركا والدول الأوروبية الاستعمارية حاولت في المجال النووي أن تبذل كل ما في وسعها لتركيع الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ لكنها لم ولن تقدر على ذلك”(14).
وفي تغريدة أخرى شنَّ خامنئي الهجوم على الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، قائلاً: الولايات المتحدة هي الأسوأ خلقًا والمملكة المتحدة هي الأكثر مكرًا، وفشل المحادثات يعني الخسارة للولايات المتحدة الأميركية(15). وأشار في تغريدة أخرى إلى وجود لهجة أميركية مختلفة في الرسائل مقارنة بما تُصَرِّح به الإدارة الأميركية في العلن، واتهمها بأنها تُوَظِّف المحادثات مع إيران في صراعاتها الداخلية(16). واتهمت تغريدة أخرى “المتشددين الإسلاميين الذين حولوا الثورات العربية إلى اقتتال بين المسلمين بدعم من دول الاستكبار”(17).
ومن الملاحظ عودة المفردات القديمة إلى خطاب خامنئي في وصفه للطرف الأميركي والعلاقة معه.
التمديد مأزق روحاني
قبل نهاية المهلة المحددة لاتفاق جنيف المؤقت صدرت تحذيرات لفريق المفاوضين الإيراني من خطورة التمديد للاتفاق المؤقت في اتفاق مؤقت جديد؛ على الرغم من وجود مَنْ يُؤَيِّده؛ خاصة أن مسائل جوهرية جرى حلها؛ مثل: مصير مفاعل فردو، والبحث والتطوير التكنولوجي، ومفاعل آراك. لكن المعارضون -الذين ذهب بعضهم إلى دعوة روحاني إلى الانسحاب من المفاوضات- يرون أن التمديد لاتفاق جنيف المؤقت يحمل مؤشرات خطيرة؛ أهمها:
أن التمديد -في قالب اتفاق مؤقت جديد- يأتي ضمن الاستراتيجية الأميركية الرامية إلى تفكيك تدريجي للبرنامج النووي الإيراني من خلال استهداف بنيته التحتية، وذلك دون إجراء تغيير جوهري ومؤثِّر في نظام العقوبات، وهو ما سيقود على المدى الطويل إلى إنهاء لـ”الحلم النووي” الإيراني، مع بقاء ضغط العقوبات لإجبار إيران على التنازل في ملفات أخرى(18).
أن قبول المفاوض الإيراني باتفاق مؤقت جديد قلِّل من قدرته التفاوضية وقدرته على المناورة من أجل الوصول إلى اتفاق نهائي(19).
وظهرت بوادر أزمة مقبلة بين روحاني وبين البرلمان؛ حاول رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني التقليل منها، وتوجيه رسائل بشأنها؛ بالقول: “إن التطرق لقضايا هامشية حول المفاوضات النووية لا يصبُّ في مصلحة البلد؛ ولابُدَّ من الكف عن ذلك؛ فالموضوع النووي موضوع معقد، ولا يجب أن نقوم بتعقيده أكثر، ولابُدَّ من تعبيد الطريق أمام سير المفاوضات بالحكمة والتدبير”(20). ويُؤَكِّد لاريجاني وجود هذه الخلافات بشأن القضايا المهمة على الصعيدين الوطني والدولي؛ ولكنه حذَّر من تحويلها إلى مكسر عصا(21).
خلاصات
إن ربط الملف النووي بالأزمات الأخرى في المنطقة قد أعاق الوصول إلى اتفاق نهائي بشأن برنامج إيران النووي، وقد حاول كل طرف توظيف هذه الأزمات للضغط على الطرف الآخر أثناء عملية التفاوض.
إن الاتفاق النهائي لم يكن ليتم من دون الاتفاق على تحديد مساحة الدور الإيراني في المنطقة.
إن الفشل في التوصُّل إلى اتفاق بشأن الملف النووي الإيراني سيكون له تبعاته على الولايات المتحدة الأميركية وإيران؛ ففي الوقت الذي سيترك ذلك تبعات ثقيلة على الاقتصاد الإيراني، فإن غياب المساندة والمساعدة الإيرانية في مواجهة تنظيم الدولة في سوريا والعراق، وكذلك مواجهة طالبان في أفغانستان سيُدخل الجهود الأميركية في مأزق كبير.
إن التمديد -في قالب اتفاق مؤقَّت جديد- يقوي من حجة خصوم روحاني، ويُوَسِّع من دائرة معارضيه؛ خاصة أن معارضي التمديد يرون أنه يأتي ضمن الاستراتيجية الأميركية الرامية إلى تفكيك تدريجي للبرنامج النووي الإيراني من خلال استهداف بنيته التحتية؛ وذلك من دون إجراء تغيير جوهري ومؤثِّر في نظام العقوبات.
إن الحوار مع إيران والتعاون الاستراتيجي معها في التعامل مع (داعش) وغيرها من الجماعات المسلحة، سيفتح المجال للتعاون في ملفات أخرى؛ لذلك فالطرفان سيسعيان في الأشهر القادمة إلى إنجاح اتفاق نووي.
أثبتت الشهور الأخيرة أن حلَّ الخلافات القائمة بين إيران وبين الولايات المتحدة الأميركية ليست مرهونة بالعملية التفاوضية بقدر ما هي بحاجة إلى إرادة سياسية من الزعماء في البلدين.
إن عواقب فشل المفاوضات سيحد بشكل كبير من خيارات التفاوض، ويدفع إلى عودة خيار المواجهة مع إيران من جديد بعد أن تراجع هذا الخيار بصورة كبيرة أمام الخيار التفاوضي.
__________________________________
فاطمة الصمادي – باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات متخصصة في الشأن الإيراني.
الهوامش والمصادر
1- در برخي بندهاي توافق نهايي به نقطه نزديکي با ?+? رسيدهايم/ عملکرد بسيار بد آمريکاييها در مسقط ووين، (اقتربنا في بعض القضايا إلى ما يقرب الاتفاق النهائي/الأداء الأميركي السيئ في مسقط وفيينا)، وكالة أنباء فارس، 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2014:
http://www.farsnews.com/newstext.php?nn=13930908000660#sthash.PURsr0Oo.dpuf
2- ديپلمات ها: أميرکا صبح دوشنبه مذاکرات را به شکست کشاند (دبلوماسيون: أميركا أفشلت المحادثات)، موقع إيران هسته اى، 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2014:
http://www.irannuc.ir/content/2427
3- روحاني: حققنا انتصارًا أهم من المفاوضات النووية.. والأطراف المفاوضة باتت واثقة من عدم جدوى الحظر، سي إن إن العربية، 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2014:
http://arabic.cnn.com/world/2014/11/24/iran-rohani-51-talks
4- Council Decision 2014/829/CFSP of 25 November 2014 amending Decision 2010/413/CFSP concerning restrictive measures against Iran
5- Council Decision 2014/829/CFSP of 25 November 2014 amending Decision 2010/413/CFSP concerning restrictive measures against Iran
6-
7- OJ L 338, 25.11.2014, p. 1–3 (BG, ES, CS, DA, DE, ET, EL, EN, FR, HR, IT, LV, LT, HU, MT, NL, PL, PT, RO, SK, SL, FI, SV):
http://eur-lex.europa.eu/legal- content/EN/TXT/?uri=uriserv:OJ.L_.2014.338.01.0001.01.ENG
8- Council Decision 2014/829/CFSP of 25 November 2014 amending Decision 2010/413/CFSP concerning restrictive measures against Iran
9-
10- OJ L 338, 25.11.2014, p. 1–3 (BG, ES, CS, DA, DE, ET, EL, EN, FR, HR, IT, LV, LT, HU, MT, NL, PL, PT, RO, SK, SL, FI, SV):
http://eur-lex.europa.eu/legal-content/EN/TXT/?uri=uriserv:OJ.L_.2014.338.01.0001.01.ENG
11- نجلاء حبريري، إبقاء العقوبات على إيران يخفض صادراتها النفطية بنسبة 50%، رفع التجميد عن 7 مليارات دولار منذ اتفاق العام الماضي، صحيفة الشرق الأوسط، الثلاثاء – 3 صفر 1436 هـ= 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2014 م:
https://www.aawsat.com/home/article/229561/%D8%A5%D8%A8%D9%82%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%88%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D9%8A%D8%AE%D9%81%D8%B6-%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%86%D8%B3%D8%A8%D8%A9-50
12- نجلاء حبريري، مرجع سابق.
13- نجلاء حبريري، مرجع سابق.
14- نجلاء حبريري، مرجع سابق.
15- چرخ زندگي مردم ايران چقدر به چرخش سانتريفيوژها وابسته است؟ (إلى أي مدى ترتبط عجلة حياة الناس بعجلة أجهزة الطرد المركزي؟)، مشرق، ?? آبان ????:
http://www.mashreghnews.ir/fa/news/353064/%DA%86%D8%B1%D8%AE-%D8%B2%D9%86%D8%AF%DA%AF%DB%8C-%D9%85%D8%B1%D8%AF%D9%85-%D8%A7%DB%8C%D8%B1%D8%A7%D9%86-%DA%86%D9%82%D8%AF%D8%B1-%D8%A8%D9%87-%DA%86%D8%B1%D8%AE%D8%B4-%D8%B3%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B1%DB%8C%D9%81%DB%8C%D9%88%DA%98%D9%87%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D8%A8%D8%B3%D8%AA%D9%87-%D8%A7%D8%B3%D8%AA-%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D9%88%DB%8C%D8%B1
16- Jay Solomon And Carol E. Lee, Obama Wrote Secret Letter to Iran’s Khamenei About Fighting Islamic State, WSJ:
http://online.wsj.com/articles/obama-wrote-secret-letter-to-irans-khamenei-about-fighting-islamic-state-1415295291
17- Suzanne Malone,Letters to the Ayatollah: Why Obama’s Latest Outreach to Iran’s Supreme Leader Was A Mistake, November 7, 2014:
http://www.brookings.edu/blogs/iran-at-saban/posts/2014/11/06-letter-khamenei-ayatollah-iran-obama-nuclear-isis#.VFz02HY8En9.twitter
18- They have made their best to bring #Iran to its knees but they failed and they will continue to fail. 11/25/2014:
They have made their best to bring #Iran to its knees but they failed and they will continue to fail. 11/25/2014 pic.twitter.com/90obaD1WRk
— Khamenei.ir (@khamenei_ir) November 26, 2014
19- US is the most ill-mannered &UK is the most cunning;if talks don’t achieve results it’s the US that faces loss.-, 27 November 2014:
US is the most ill-mannered &UK is the most cunning;if talks don't achieve results it's the US that faces loss.#Iran pic.twitter.com/E4LVh5ycrE
— Khamenei.ir (@khamenei_ir) November 27, 2014
20- US is irrational.They speak different in their #letters than in public. US wants #IranTalks for its domestic problems, 27 November:
21- Ayatollah Khamenei’s 6 reasons to prove Takfirism& #ISIS serve the US & #Israel:https://www.youtube.com/watch?v=R1H5Ik1iPZ0&list=PLP9XKFcmDYv4hmgwVEXplXrfnVeZQk-St … #AmericanIslam
22- مهدي محمدي، چرا تمديد دوباره توافق ژنو به نفع ايران نيست؟، (لماذا لا يصب التمديد لاتفاق جنيف في مصلحة إيران؟)، موقع إيران هسته اى، 3/8/1393:
http://www.irannuc.ir/content/2400
23- مهدي محمدي، چرا تمديد دوباره توافق ژنو به نفع ايران نيست؟، (لماذا لا يصب التمديد لاتفاق جنيف في مصلحة إيران؟)، موقع إيران هسته اى، 3/8/1393:
http://www.irannuc.ir/content/2400
24- لاريجاني: التطرق لقضايا هامشية حول المفاوضات النووية لا يصب في مصلحة البلد، وكالة أنباء فارس، 28 من نوفمبر/تشرين الثاني 2014:
http://arabic.farsnews.com/NewsText.aspx?nn=13930907000043
25- لاريجاني: التطرق لقضايا هامشية حول المفاوضات النووية لا يصب في مصلحة البلد، مرجع سابق.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات
ضربة إيرانية ضد العبادي/ جويس كرم
الضربة الجوية الاستعراضية التي نفذتها إيران في محافظة ديالى العراقية قبل أيام والتي زعمت أنها استهدفت تنظيم “الدولة الاسلامية” هي عمليا استهداف سياسي لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ورسالة الى التحالف الدولي والاقليمي المتزاحم في الأجواء العراقية.
الضربة الإيرانية لا تحقق أي أهداف عسكرية، وتم تنفيذها بطائرة “أف-4″، المصنعة في ستينات القرن الماضي وورثتها القيادة الإيرانية الحالية من أيام الشاه. ولا تعادل “أف-4” بالقدرات العسكرية حتى طائرات الميغ التي تبيعها روسيا للنظام السوري، وهي حتما تختفي أمام طائرات “أف-16” التي يقودها التحالف الدولي.
اذا الهدف من الضربة ليس عسكريا، والدليل انه لم يتم حتى الكشف عن مواقع “داعش” التي استهدفها القصف، بحسب الرواية الإيرانية، علما ان ميليشيات إيران ومقاتليها يتمددون من البصرة الى دمشق، ولديهم القدرة على تنفيذ عمليات نوعية أكثر من طائرة جوية عمرها خمسة عقود، وكانت مشاركتها ضئيلة حتى إبان الحرب العراقية-الإيرانية في عهد صدام حسين.
من هنا يجب فهم الضربة الجوية الاولى لإيران داخل العراق منذ 1988 بأنها رسالة سياسية أولا وأخيرا. ويبدو هدفها الأساسي تحذير العبادي ومعه واشنطن والتحالف الإقليمي. فالعبادي لاقت خطواته الاخيرة بطرد 36 قائدا عسكريا من عهد نوري المالكي وتوقيع اتفاق حول توزيع النفط مع الأكراد، ترحيبا اقليميا ودوليا، إلا من طرف واحد: إيران. فاستراتيجية إيران في العراق، كما في سورية واليمن، مبنية على دعم ميليشيات تحمي المصالح والتوسع الإيراني، وهي غير معنية ببناء جيوش وطنية تساعد في تمتين هيكلية الدولة المركزية.
العبادي لم يكن الخيار الأول لإيران التي تشبثت بالمالكي ثماني سنوات، وفرضت اليوم بقوة ميليشياتها في بغداد وزير الداخلية محمد الغبان، وها هي تحاول قطع الطريق أمام اي مصالحة داخلية واقليمية قد يقوم بها العبادي وحكومته. كما تسعى إيران من خلال الضربة الاستعراضية الإيحاء بأنها في صف الولايات المتحدة عسكريا ولوجستيا في الحرب على “داعش”.
إلا ان واشنطن لا تعول في نجاح هذه الحرب على طائرات من حقبة حرب فييتنام، واستراتيجيات تقوض العبادي وتمنع تشكيل قوة عسكرية من الأنبار تابعة للجيش العراقي وتحارب “داعش”. ويعكس المناخ الاميركي – الإيراني تصعيدا واضحا في اللهجة منذ انهيار محادثات فيينا وتخفيض الرئيس باراك أوباما التوقعات حول إتمام اتفاق نووي شامل، والذي أعقبه محاكمة طهران للصحافي الاميركي جايسون رضايان.
ويعزز المناخ التصعيدي استقبال واشنطن قبل ثلاثة أسابيع وفدا من قبائل الأنبار للبحث في تشكيل قوة عسكرية قد يصل عددها الى 15 ألف مقاتل لمحاربة “داعش” واستيعاب مختلف التيارات العراقية في الجيش. وتسعى واشنطن للمضي في تشكيل هذه القوة بالتنسيق مع الحكومة العراقية والشركاء الإقليميين، وفي حال عطلت إيران دور بغداد، فلن تتردد الادارة الأميركية، مثلما قال رئيس هيئة الأركان الاميركية مارتن ديمبسي للكونغرس، في تشكيلها بمظلة إقليمية.
الرؤية الإيرانية للعراق تصطدم مع أي حكومة وطنية في بغداد ومع تطلعات واشنطن وعودتها القوية الى الساحة العراقية من باب الحملات الجوية منذ آب (أغسطس) الفائت. وعلى غرار طائرات “أف-4″، يأتي التصعيد العسكري لإيران من صفحات عهد منصرم، يعتمد على ترسيخ نهج الميليشيات، واستعراضات جوية تعكس في الواقع عجزا سياسيا على الارض.
الحياة
حرب إيران و”الحشد الشعبي”: “داعش” ضد “داعش”/ عبدالوهاب بدرخان
ليست المسألة مثيرة فحسب لحساسيات الدول العربية المشاركة في «التحالف الدولي ضد الإرهاب»، ولا هي تتعلّق فقط بـ «عدم تنسيق» معلن و»تنسيق» فعلي غير معلن بين الولايات المتحدة وإيران، بل إنها مسألة خداع تتعرض له كل دول «التحالف». والأهم أنها ترتبط في شكل وثيق بإمكان نجاح أو فشل «الحرب على داعش» ليس فقط في جانبها العسكري الراهن بل خصوصاً في شقّها السياسي – الاجتماعي بعيد المدى. فكل الدول متفقة، أو أنها على الأقل تعرف، أن إيران لعبت «ورقة» الإرهاب لتدعيم نفوذها في العراق وسورية وتلعبها الآن لحماية هذا النفوذ. وبالتالي فهي أولت الجو إلى مقاتلات «التحالف» فيما تفلت ميليشياتها على الأرض، وها هي تقحم أيضاً طيرانها. أما «النفوذ» فهو ما رأيناه من تخريب للدولة والمؤسسات والاقتصاد والعمران والثقافة والتعايش بين مكوّنات الشعوب في العراق وسورية ولبنان واليمن و… قطاع غزة (بدور إيراني مكمّل للتخريب الإسرائيلي).
لم يقل الأميركيون لماذا أخفوا علمهم بالتدخل الإيراني المباشر في الحرب. ولم يوضحوا، بعد انكشافه، لماذا كانت لديهم أكثر من إجابة مرتبكة، صحيحة أو كاذبة. ولو لم تظهر طائرة «فانتوم اف-4» الإيرانية على قناة «الجزيرة» وهي تقصف في ديالى، هل كان الأميركيون سيواصلون التغاضي عن التدخل. وبعدما أصبح معروفاً قال ناطق البيت الأبيض: «لم تتغير تقديراتنا في شأن دواعي التعاون مع الإيرانيين. لن نفعل هذا». أما «البنتاغون» فترك لـ «مصادر» تأكيد الواقعة في شكل غير رسمي، قبل أن يعود فيؤكدها. وأما وزير الخارجية جون كيري الذي كان يترأس اجتماعاً لنظرائه من دول «التحالف» في بروكسيل، فقال أولاً: «لن أعلن عن أي شيء، لن أؤكد أو أنفي العمل العسكري الذي تردد أن دولة أخرى نفذته في العراق. هذا يرجع إليهم (الإيرانيين) أو العراقيين إذا كان هذا قد حدث بالفعل». وفيما أفاد حيدر العبادي أن «لا معلومات» لديه، وهو «القائد الأعلى للقوات المسلحة» في العراق، كان مستغرباً أن يتحدث كيري عن «دولة أخرى» أو يقول إن الأمر «يرجع إليهم»، إلى أن أفصح عن حقيقة الموقف الأميركي، معتبراً أنه «إذا كانت إيران تستهدف تنظيم الدولة الإسلامية في أماكن معينة ويقتصر دورها على استهداف تنظيم الدولة الإسلامية وهو أمر مؤثر وسيكون مؤثراً… فإن المحصلة النهائية إيجابية»… وطالما أن الأمر «يرجع اليهم» فهذا يعني أن هذه الحرب ذات مسارين، أميركي وإيراني، وكلاهما يخدم التقارب المتعاظم بين «الشيطانَين» الأكبر والأصغر.
ليس مؤكداً أن المحصّلة النهائية ستكون «إيجابية»، إلا إذا كان كيري مصمماً على جهل ما حصل في العراق وتجاهل الدور الإيراني الذي صنع ظروف نشأة «داعش» وبروزه. بدا كيري أكثر حرصاً على تثبيت «الإيجابية» في علاقته مع نظيره الإيراني خلال المفاوضات النووية أخيراً. وهو ما ردد محمد جواد ظريف صداه متوقعاً «نهاية ناجحة» للمفاوضات، وكذلك الرئيس حسن روحاني متحدثاً عن «الحاجة إلى إيران من أجل أمن المنطقة والعالم». ويمكن إجمال هذا المناخ بأن طهران تشعر للمرة الأولى منذ عقود بأنها حققت «اختراقاً» سياسياً مهماً في الموقف الأميركي المناوئ لها من دون أن تضطر إلى تنازلات جوهرية. لكن هذا التطوّر الذي يريد كيري تصويره على أنه «إيجابي» بالنسبة إلى مجريات الحرب يرمي عملياً إلى ترسيخ الأمر الواقع الإيراني على الأرض، في العراق كما في سورية، بما فيه من مخاطر وألغام، وبما فيه أيضاً من إحباط للعرب المشاركين في محاربة «داعش».
ذاك أن طهران تسعى إلى إظهار هزم هذا التنظيم على أنه «انتصار إيراني» لن يراه أتباعها وخصومها إلا بأنه «انتصار شيعي على السنّة»، وبالتالي فإن إيران تستحقّ أن تُكافَأ عليه بالاعتراف لها بنفوذ دائم يقوم على إخضاع اتباع مذهب آخر سواء كانوا غالبية أو أقلية. فهذا كان ولا يزال منطق النظامين «الداعشيين» الإيراني والسوري في حربهما داخل سورية قبل استدعائهما «داعش» وبعده، بل هذا ما ظهر جلياً في حرب نوري المالكي على المحافظات السنية، وما تبدو إيران وميليشياتها العراقية في صدد استكماله تحت شعار «محاربة داعش»، أو بالأحرى «داعش تحارب داعش». إذ أن «داعشيي» ما يسمّى «جيش الحشد الشعبي» يرتكبون حالياً انتهاكات مشينة في قرى وبلدات سنّية، مشابهة بل مطابقة تماماً لما يرتكبه «داعش» ولما كان يرتكبه «جيش المالكي». وبطبيعة الحال فإن هذا النهج يؤسس أو يثبّت حالاً صراعية مستحيلة لعشائر السنّة بين «داعش» هجين كانوا تعايشوا قسراً وعلى مضض لكنهم حاربوه ويحاربونه بكلفة بشرية عالية، وبين «داعش» إيراني يرفضونه أيضاً وسيكون عليهم أن يحاربوه إلى ما لا نهاية.
هل يجب التذكير بالقواعد التي حددتها واشنطن، بلسان رئيس أركان جيوشها، لتدخلها في العراق ولخوض هذه الحرب، وأهمها: تشكيل حكومة تمثل جميع الأطراف، وإعادة هيكلة الجيش وتأهيله، والتعاون مع سكان المناطق الواقعة تحت سيطرة «داعش» أي العشائر. تغيّرت الحكومة وزار رئيسها طهران ليتعرف عن كثب إلى المسموح والممنوع، وإلى ما يستدعي العجلة أو الإبطاء. وفهم أن العراق صار إيرانياً ويجب أن يبقى كذلك، وأنه مقبول أميركياً بهذه الحال التي مسخته وابتذلته، وإذا أراد العرب (السنّة) الانفتاح على إيرانيته (شيعيته) فأهلاً وسهلاً. لم يعد هناك مجال لعراق يتمتع باستقلالية قرار أو بشيء منها (كما هو الواقع أيضاً في سورية ولبنان واليمن). أما بالنسبة إلى الجيش فيوحي الأميركيون بأنهم سيشرفون على إعادة هيكلته، كما تولوا تأسيسه وتدريبه، لكن هل يضمنون هذه المرّة أن الإيرانيين لن يعيدوا تهميشه وإفساده كما فعلوا بواسطة نوري المالكي، وكيف يضمن الأميركيون لهذا الجيش مكانته ودوره وتغليبه للدولة على الدويلات إذا كان الإيرانيون سبقوهم بتدريب ميليشيات وتسليحها لتكون أكثر قوة وفاعلية من أي جيش حكومي.
لكن الاعتماد على العشائر بنمط من «الصحوات» الجديدة بدا الملف الأكثر دلالة على شدّة التدخل الإيراني وجلافته. وعكست مماطلة حكومة العبادي ممانعة طهران لتسليح السنّة إلا إذا كانوا جزءاً من ميليشياتها، وقد تولّى هادي العامري قائد «فيلق بدر» إيضاح ذلك بقوله: «نعوّل على دعم مقاتلي العشائر السنّة، فبانضمامهم إلى القتال أصبح نصرنا مؤكداً»، غير أن العارفين يقولون أن الرجل توهّم أن يصبح وزيراً للداخلية وهو قائد ميليشيا ويتوهّم أن العشائر صاروا معه رغم أنهم يعتبرونه من «دواعش إيران». لكن العامري فسّر عملياً ما هو متاح للعبادي، فالمماطلة ترمي إلى منح إيران والميليشيات الوقت لـ «استمالة» السنّة وتيئيسهم من الحكومة ومن الأميركيين، فالخطر يدهمهم وليس لهم سوى الخيار الإيراني. لكن العشائر التي يئست فعلاً من العبادي، بادرت إلى مخاطبة الأميركيين مباشرة، سواء من خلال السفير في بغداد أو عبر وفد سنّي زار واشنطن أخيراً. وطالما أن الدفاع عن النفس بات شأناً يخصّهم، والحكومة غير متجاوبة، فقد طالب هؤلاء بأن تسلّحهم الولايات المتحدة مباشرة أسوة بما تفعل مع البشمركة الكردية طالما أن الدولة لا تريد ولا تستطيع الدفاع عنهم. في المقابل أطلق العديد من العشائر نداءات تطالب دولاً عربية بتسليحها، أما عشيرة البو نمر التي قتل «داعش» مئات من أبنائها خلال بضعة أيام فأعلنت أنها باعت أملاكاً لها في بغداد لتشتري أسلحة بما يصل إلى نحو مليون دولار… وإزاء هذا التحرك ظهر فجأة مشروع قانون «الحرس الوطني»، إذ سمح الإيرانيون للعبادي بإخراجه من درجه، والسبب أن «الحرس» صيغة أفضل من الصحوات، لأنها تتيح من جهة وضع أبناء العشائر في ملفات والاستدلال إلى نشطائهم، لكن الأهم من جهة أخرى أنها فرصة لإدخال «الحشد الشعبي» في هذا «الحرس» مع ما يعنيه ذلك من تمويل حكومي لميليشيات لم يعرف شبّانها في حياتهم سوى الولاء لإيران.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة
حصة العرب» في سورية… حصة إيران في العراق/ جورج سمعان
روسيا تسعى إلى تقسيم جديد لأوروبا. هذا ما يحذر منه خصومها المعترضون على اندفاعها في أوكرانيا. تتدخل لتغيير الحدود القائمة واقتطاع ما تستطيع إذا استعصى تقسيم الدول القائمة. تريد إعادة إحياء الحدود بين الدول الأوروبية بهدف إضعاف الاتحاد الأوروبي. هذا ما فعلته في جورجيا ثم في أوكرانيا وتهدد به دول البلطيق. شعارها الدفاع عن الأقليات الروسية التي تعزز انتشارها في كثير من الدول زمن «الاتحاد السوفياتي». ويتهم الغرب اليوم الرئيس فلاديمير بوتين بالسعي إلى إعادة تقاسم بعض أطراف القارة العجوز ما دامت إعادة رسم الحدود بين دولها تبدو مستحيلة مع قيام الاتحاد وتوسعه المستمر. وهو يستعد لميلاد الاتحاد الاقتصادي الأورو- آسيوي مع روسيا البيضاء وكازخستان وأرمينيا مع حلول السنة الجديدة. ولا يخفي آماله بالتوسع في آسيا الوسطى، نحو طاجيكستان وأوزبكستان وقرغيزستان وتركمانستان التي يتقدم إليها الاستثمار الصيني في مجال الطاقة. والهدف قيام تكتل سياسي- اقتصادي يوازن الاتحاد الأوروبي. والخروج من العزلة التي يفرضها الغرب على بلاده.
تقاسمت الدولتان العظميان النفوذ في معظم القارات أيام الحرب الباردة، وحافظت الدول الوطنية على وحداتها أرضاً ومكونات وأنظمة أيضاً في ظل هذا النفوذ أو ذاك. لكن معظم الأنظمة الشمولية في هذا المعسكر أو ذاك انهار في أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا مع انهيار الكتلة الشرقية. وسعت الولايات المتحدة طوال ربع قرن ولا تزال إلى إرساء نظام دولي جديد، بعدما باتت القطب الأقوى الوحيد. ولم تتوان في السنوات الأخيرة عن خوض حروب أنهكتها وأوروبا في البلقان والقرن الأفريقي وأفغانستان والعراق وغيرها. حتى بات «التعب والخيبة والهموم الاقتصادية والنوازع القديمة والمتجددة إلى العزلة ترخي بثقلها على القرارات السياسية» في أميركا والغرب، كما عبر وزير الخارجية الفرنسي السابق هوبير فيدرين في مقالة لجريدة «الموند» قبل أشهر. وهو ما شجع دولاً أخرى وقوى صاعدة على المواجهة والتقدم نحو أداء دور في بناء النظام العالمي. ويعزو وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسينجر موقف هذه الدول والقوى إلى ما يسميه رؤية مختلفة لكل دولة تتأثر بتاريخ هذه الدولة وبأوضاعها اليوم.
لذلك لا تخوض روسيا وحدها المواجهة مع الغرب والولايات المتحدة. الصين هي الأخرى تخوض حرباً باردة في المحيط الهادئ للحفاظ على نفوذها في جنوب شرقي آسيا. ولمنع تمدد الولايات المتحدة التي تتوسل التفاهم والتنسيق والتعاون مع دول المنطقة المنضوية في مجموعة «آسيان» ومع اليابان وأستراليا لاحتواء الصين. وأبعد من ذلك حذرت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون مراراً الدول الأفريقية من عودة الاستعمار إلى القارة السمراء، في إشارة إلى الحضور الصيني استثماراً وتجارة ومساعدات مختلفة. وباقي دول «البريكس»، الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، لا تخفي رغبتها في المساهمة في رسم النظام الدولي الجديد. وما يجري في المشرق العربي لا يختلف عما يجري في أقاليم أخرى. وليس الفراغ الاستراتيجي في المنطقة وحده ما يدفع القوى الإقليمية الكبرى، فضلاً عن الكبار، إلى المواجهة والصراع من أجل ملء هذا الفراغ. صحيح أن الولايات المتحدة عبرت صراحة عن نقل ثقل اهتمامها من الشرق الأوسط إلى المحيط الهادئ مع أنها لا تزال حاضرة بقوة. لكن الصحيح أيضاً أن الرئيس باراك أوباما نهج سياسة «الديبلوماسية المتعددة الأقطاب»، وفتح الباب لسياسة التعاون مع القوى الكبرى لإدارة شؤون العالم. والصحيح أيضاً أن تداعيات الأحداث التي عصفت وتعصف بالعالم العربي عجلت في انهيار النظام العربي.
وفرت هذه العوامل فرصة ثمينة للقوى الإقليمية الكبرى في استعادة ماض تليد، على خطى الرئيس بوتين. فحذت إيران حذوه. وتكاد اليوم تعجل في التقسيم الجديد للشرق الأوسط. أو اقتطاع حصصها هنا وهناك. ولا تخفي كما الروس حميتها في الدفاع عن كتل وقوى شيعية من اليمن إلى سورية والعراق ولبنان. وبات من الصعب تجاهل تمددها في عواصم عربية كثيرة. ومثلها تركيا التي تضيق ذرعاً بما جرى في القرم وما يجري في سورية والعراق، تحاول أن تزج بنفسها في المشرق العربي والشمال الأفريقي لتستعيد على الأقل بعض ما كان للسلطنة. وتكتفي إسرائيل بانشغال العرب والعالم عنها لتواصل سياسة تصفية القضية الفلسطينية فيما أهلها عاجزون عن استعادة اللحمة والحد الأدنى من وحدتهم. أما المملكة العربية السعودية التي أعادت بعث الروح في مجلس التعاون فتتحرك مع شركائها ومصر والأردن وغيرهم للحفاظ على ما بقي من «حصة» العرب في النظام المقبل للإقليم… إذا كانت إعادة اللحمة إلى ما كانت قبل عقدين أو ثلاثة تبدو شبه مستحيلة. ولا شك في أن مشاركتها ودول عربية أخرى في الحرب على «الدولة الإسلامية» ستترجم عاجلاً أو آجلاً مردوداً سياسياً وحصة وازنة في كل من سورية والعراق.
وإذا كانت روسيا وإيران تعبران عن طموحاتهما الإقليمية والدولية بتدخلات ميدانية خارج الإرادة الدولية، فإن الصين وتركيا يعينهما تقديم العامل الاقتصادي والتجاري على الصبر والمهادنة. فلا بكين في وارد مواجهة مع الولايات المتحدة على خلفية ما ترى إليه تدخلاً أميركياً في فضائها الأمني جنوب شرقي آسيا. وتقف في الشرق الأوسط خلف موسكو فتعفيها من صدارة المشهد. ولا أنقرة في وارد مواجهة مع إيران التي تتقدم نحو حدودها في بلاد الشام. بالطبع تختلف ظروف كل بلد من البلدان الأربعة. فالكرملين أغاظه ويغيظه «زحف حلف «الناتو» إلى «حدائقه» الخلفية والأمامية، وتوسع الاتحاد الأوروبي إلى ما يعتبره تاريخياً فضاءه الأمني. وطهران ترفع من سنوات لواء «حلف الممانعة» في وجه المشروع الأميركي الذي ترى إليه تهديداً مباشراً لنظام «الجمهورية الإسلامية». وترغب كما حليفها الروسي في كسر الحصار المضروب عليها بشتى الوسائل. وهذه ليست حال الصين أو تركيا.
على رغم هذه الحروب الباردة هنا وهناك، بات واضحاً أن أحداً من القوى الكبرى لا يرغب في الانجرار إلى المواجهة الشاملة. روسيا لا ترغب في العودة إلى الستار الحديد. ولا الغرب عموماً يريد اللجوء إلى القوة في أوكرانيا. يكتفي بسياسة العزل السياسي، كما حصل للرئيس بوتين في قمة العشرين، وبالحصار الاقتصادي والعقوبات. وتمديد المفاوضات في شأن الملف النووي الإيراني تأكيد لرغبة الأطراف المعنيين في استبعاد الخيار العسكري وتغليب سلاح الديبلوماسية يعززه الحصار الاقتصادي الذي يترك جروحاً مؤلمة… تعمقها أسعار النفط المتهاوية ومعها اقتصادات كثيرة. ولن يكون الشرق العربي استثناء أو بعيداً عن هذا السلاح. لذا يشهد المشرق العربي مروحة من التحركات السياسية والأفكار المطروحة من أجل تعديل موازين القوى. وهذه وحدها تسمح بالبحث في حلول وتسويات.
في هذا الإطار، تحرص تركيا مثلاً على إعلاء بنيان علاقاتها مع إقليم كردستان. وتبرع في اللعب بورقة كوباني على وقع حوارها الداخلي مع حزب العمال الكردستاني. ولا تزال تنأى بنفسها عن عمليات التحالف الدولي، وتصر على إنشاء منطقة آمنة شمال سورية، لعلها توفر لها أرضية صلبة لحضور فاعل في مستقبل هذا البلد الذي طالما اعتبرته أدبيات السلطنة «درة التاج العثماني». ومنه يمكنها أن تمارس نفوذها شرقاً وغرباً وجنوباً، كما كانت الحال حتى عشية انضمامها إلى الحرب في عام 1914. أما الرياض فتستعد لسلوك الطريق إلى بغداد. ولا تقفل الباب أمام أية أفكار لتسوية سياسية في سورية على قاعدة جنيف. ولا ترى نجاحاً لحملة التحالف على «الدولة الإسلامية» إلا بإرسال قوات برية. في حين لم تعد إيران تكتفي بتدخلها الميداني على أرض الرافدين. زجت بطيرانها الحربي. لعلها تخشى أن يقوم سريعاً جيش العشائر السنية على أيدي الأميركيين والعرب. لا تريد شركاء في بغداد، مثلما لا تريد شركاء في سورية، ولا حتى روسيا. بلاد الشام كانت قبلتها وميدان صراعاتها قديماً وحديثاً.
على رغم الخلافات التي تدور بين أركان إدارة الرئيس باراك أوباما، يبدو قيام منطقة أو مناطق آمنة، حتى وإن كانت شريطاً حدودياً صغيراً، اقتراحاً مؤجلاً. ليس لأن الأمر يحتاج إلى قرار من المجتمع الدولي. وليس لأن واشنطن تعترض. بل لأن إيران ستقاوم ذلك، وكانت وجهت أكثر من تحذير إلى تركيا من التدخل. ومثلها روسيا لن تسكت. وحتى أفكار المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا ستظل مجال أخذ ورد وقبول وتردد، ومثلها مساعي موسكو وأفكارها. ومثلها أيضاً الدعوات إلى الزج بقوات برية في الحرب على الإرهاب. عجلة التسويات على المسار الديبلوماسي ستظل بطيئةً، كما كانت الحال ولا تزال في الملف النووي، نظراً إلى تعدد الأطراف واللاعبين وتضارب مصالحهم وعلاقاتهم. وستبقى سورية تنتظر ما سيرسو عليه تقاسم العراق بين القوى الإقليمية الكبرى إذا تعذر التقسيم الرسمي المعلن. وما دام الذين خسروا بلاد الرافدين بعد سقوط صدام حسين يستعيدون حضورهم في بغداد وإن كانت الغلبة لطهران، فإن حضورهم في دمشق سيكون غالباً في المقابل. لا بد أن تعود السلطة إلى «شرعية الأكثرية» كما انتهى الأمر في العراق، إلا إذا تحقق المحظور ووقع التقسيم النهائي، كما يخشى الروس ويتساءلون في سرهم! فهل يكون «تجميد» الحرب كما يدعو دي ميستورا مقدمة لتكريس مثل هذا الحل، وبالتالي تكريس التقاسم القائم في كل الإقليم؟
الحياة
التمديد للأسد وللحرب على «داعش» … بعد النووي/ جورج سمعان
التمديد للمفاوضات النووية هو تمديد لأزمات المنطقة أيضاً. المفاوضون حرصوا باستمرار على تأكيد الفصل بين برنامج إيران وهذه الأزمات. لكن الأحداث في المنطقة كانت ولا تزال تشي بخلاف ذلك. تبدو الخطوات هنا وهناك مترابطة تسير في خطين متوازيين لا يتقدم أحدهما على الآخر. كل شيء مؤجل أو معلق بانتظار الاتفاق بين الجمهورية الإسلامية والدول الخمس الكبرى والمانيا، خصوصاً بينها وبين الولايات المتحدة. لذلك لن ترى أفكار المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا النور قريباً. تجميد القتال في حلب أوغيرها سيظل مجال أخذ ورد وسط اقتناع شبه تام بأنه عصي على التطبيق. والأفكار الروسية لن يكون مصيرها أفضل. فالسعي إلى إحياء عملية جنيف أو الانتقال بالعملية السياسية إلى موسكو لم تلق حتى الآن قبولاً لدى دمشق… فكيف بالمقاتلين في الداخل. أما الغارت الجوية على «الدولة الإسلامية»، خصوصاً في سورية فلم تحقق هي الأخرى شيئاً يذكر على الأرض. وسيظل موقف تركيا على حاله من التحالف الدولي – العربي. وحتى دعوة الرئيس باراك أوباما أعضاء إدارته إلى إعادة النظر في خياراته السورية جاءت حدثاً عابراً… إلى حين.
لا شيء تغير ولا يبدو أن سياسة الرئيس أوباما ستتغير حيال الحرب القائمة على الإرهاب أو حيال مستقبل النظام في سورية. وإلا لما كان وزير دفاعه تشاك هيغل استقال أو أقيل، لا فرق. لذا لا يستبعد أن تراوح حملة التحالف الدولي – العربي على «داعش» و»جبهة النصرة» مكانها إن لم تفشل حالها حال الحرب الطويلة على الإرهاب من أيام الرئيس بوش الإبن. وستبقى العملية السياسية في بغداد تسير ببطء في مواجهة عقبات وصعوبات لا تقل عما يواجه الاتفاق النووي. كل هذه التحركات السياسية منها والعسكرية تبدو كأنها لعب في الوقت الضائع. أو سعي إلى تحسين المواقع بانتظار ما ستستفر عنه المفاوضات في الملف النووي وما سيتركه من تداعيات على المنطقة وفي الداخل الأميركي والإيراني أيضاً. مرحلة ما بعد الاتفاق، إذا أبرم في الشهور المقبلة، لن تقل صعوبة عما بعدها. الجمهوريون إذا لم يطمئنوا إلى طي صفحة البرنامج النووي الإيراني نهائيا يملكون من أدوات الضغط والقدرة على مزيد من العقوبات ما يسمح لخصوم الرئيس حسن روحاني المتشددين بإطاحة الاتفاق والتنصل من أي التزامات. وهم بدأوا بمساءلة وزير الخارجية جواد ظريف. أما فشل المفاوضات نهائياً بعد سبعة أشهر فسيصب مزيداً من النار على الأزمات المشتعلة في الإقليم كله إذا لم يتجاوز المتصارعون قواعد اللعبة إلى حرب واسعة ومفتوحة.
ليس سراً أن الإدارة الأميركية تركز على اولويتين لا ثالث لهما في هذه المرحلة: التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، ومحاولة احتواء «دولة الخلافة» في العراق ومنع تمددها تمهيداً للقضاء عليها إذا أمكن. تريد الحفاظ على مصالحها في هذا البلد النفطي، وتحرص تالياً على عدم اندلاع حرب مذهبية تدفع الجمهورية الإسلامية إلى كل ساحات نفوذها في المنطقة فتقع المواجهة الإقليمية الكبرى المحظورة. وبات واضحاً أن خطواتها في هذين الميدانين مترابطة باحكام. وهو ما يعطي الانطباع بأن حملة التحالف على «داعش» لم تحقق حتى الآن نجاحات كبيرة. وقبل أيام نشرت «واشنطن بوست» مقارنة ذات دلالة: شنت القوات الأميركية في أفغانستان خلال 75 يوماً (من 7 اكتوبر إلى 23 ديسمبر 2001) 6500 غارة وأسقطت 17500 قذيفة. وشنت في العراق وسورية خلال 76 يوماً (من 8 أغسطس إلى 23 اكتوبر الماضيين) 632 غارة وأسقطت 1700 قذيفة!
الأرقام وحدها تشرح. المقارنة تشي بوضوح لماذا لا تزال قوات «داعش» في كوباني على رغم الحملة الجوية لتحالف عريض منذ نحو شهرين. لئلا نتحدث عن سير المعارك في العراق، وكم ستطول معركة تحرير الموصل مثلاً. حتى الآن عاد الأميركيون إلى بغداد. فرضوا إزاحة نوري المالكي. وهم لا يزالون يمارسون دورهم في إعادة إحياء العملية السياسية، وإعادة تصحيح هياكل النظام وإشراك كل المكونات السياسية والطائفية، بما يخفف من ثقل اليد الإيرانية. ويهدىء من مخاوف دول الجوار التي تعترض على طغيان هذه اليد في عدد من العواصم العربية. ولم يكن سراً أن الحرب الأميركية على «داعش» تأخرت بانتظار رحيل زعيم «دولة القانون» وقيام حكومة جامعة. لذا يبدو أن رفع وتيرة الحملة على «دولة الخلافة» رهن بتقدم العملية السياسية في بغداد، ومدى استجابتها مطالب العشائر وأهل السنة عموماً. ولم تجد طهران مفراً من التعاون والتفاهم مع واشنطن لمواجهة «الدولة الإسلامية». لكنها في المقابل أطلقت يد الميليشيات الشيعية الموالية لعلها «تستعيد» ما خسرته أمام تقدم «داعش». وتنظر بحذر إلى إعادة ربط الخيوط بين بغداد وعواصم الجوار.
وليس سراً أيضاً أن الإدارة الأميركية لا تضع في رأس أولوياتها إطاحة الرئيس بشار الأسد في هذه المرحلة. تحييد الغارات الجوية للتحالف قواته النظامية ليس مرده الخوف من ردة فعل إيران والميليشيات الشيعية في العراق فحسب. فقد لا يطول الوقت الذي ستجد طهران نفسها مرغمة على اعتماد «النموذج» العراقي في سورية. أي البحث عن بديل من الرئيس الأسد من أجل الحفاظ على ما يبقى من النظام من أجل الحفاظ على مصالحها في هذا البلد. والغرب ليس بعيداً عن حل كهذا بل يسعى إليه منذ اندلاع الأزمة قبل أربع سنوات. لذلك لم ير ضيراً في الأفكار التي يطرحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا فهي تعفيه من الضغوط من أجل تفعيل حملته على «داعش» والسعي إلى ترحيل الأسد معاً. الكل يعرف أن هذه الأفكار لا ترقى إلى طرح حلول جذرية. بل إن الحقائق على الأرض لا توفر عناصر النجاح حتى لحلول جزئية.
إن تجميد القتال في حلب مثلاً، كما يقترح دي ميستورا، يبدو مستحيلاً ما لم يسبقه تعديل ميزان القوى في شمال البلاد لمصلحة «الجيش الحر» والفصائل المعتدلة. غير ذلك يعني منح قوات النظام فرصة لحسم المعركة في هذه المنطقة لمصلحته. ذلك أن حضوره هناك لا يزال فاعلاً. وهو يقتسم المدينة مع أطياف المعارضة. ولا ينسى الذين عملوا على فك الحصار عن مناطق في حمص وغيرها عبر اتفاقات لوقف النار أن النظام حول هذه الاتفاقات استسلاماً لخصومه الذين لم يكن أمامهم مفر من الرضوخ أمام معاناة المدنيين المحاصرين والمهددين بالموت قتلاً أو جوعاً. إلى ذلك سيجد البمعوث الدولي نفسه أمام حتمية التفاوض مع الفصائل المتشددة من «النصرة» إلى «أنصار الدين» و»أحرار الشام» التي طاولتها غارات التحالف ولوائح الإرهاب! ولن تكون هذه وحدها عائقاً أمام أي اتفاق مع النظام، إذ لا يمكن أي قوة سياسية في الداخل أو الخارج، كالائتلاف مثلاً، أن تنوب في هذا المجال عن قوى الداخل التي تصارع النظام.
من مصلحة النظام أن يرحب بأفكار المبعوث الدولي، أو على الأقل بشقها الخاص بتجميد القتال. سيعزز مواقعه، ويركز على ضرب الفصائل المعارضة. وهذا ما يفعله اليوم. أما الخصوم المتشددون فيتكفل بهم التحالف الدولي – العربي. وهذا ما يفاقم شعور شرائح واسعة من الفصائل العسكرية المعارضة بأن الغارات الجوية للتحالف على «داعش» و»النصرة» تعزز مواقع دمشق التي أفادت من تحييد النظام ومواقعه في ضوء التفاهم الأميركي – الإيراني. وهذا ما يجعل قوى كثيرة على الأرض تبدي على الأقل تعاطفاً مع «النصرة» التي كانت ساهمت في مواجهة «الدولة الإسلامية» في ريف حلب ونسقت في معارك كثيرة مع «الجيش الحر». والآمال ضئيلة بأن تثمر الخطة الأميركية لتدريب عناصر من هذا الجيش وتسليحها. فالوقت الذي تستغرقه هذه الخطة يتيح للنظام أن يوجه ضربات قاصمة إلى مواقع المعتدلين. فضلاً عن القوى الإسلامية التي باتت تنازعهم حضورهم في كثير من المواقع، خصوصاً في شمال البلاد.
لكن ما قد تعده دمشق وطهران مكاسب في المرحلة الآنية سيتحول تحدياً كبيراً. إن غياب أي خطة أميركية لتوجيه ضربات قاصمة إلى «داعش» في سورية، وترك النظام يجهز على ما بقي من فصائل معتدلة تقاتل على جبهتين، سيفضيان إلى تعزيز مواقع الإرهابيين والجهاديين والمتشددين. وسيشكل هذا أكبر خطر على النظام في دمشق الذي سيجد نفسه أمام خطر غير مسبوق، كما حصل في العراق تماماً. وهذا ما قد يدفع إيران إلى البحث عن مخرج. وقد لا تجد مهرباً من اعتماد النموذج العراقي. أي فتح صفحة البحث في مصير الأسد، انقاذاً لما يبقى من النظام ولمصالحها في سورية، وتخفيفاً لأعباء تثقل اقتصادها، وحرصاً على مواصلة الحرب على القوى المتشددة التي تهدد حضورها ودورها في الإقليم.
وبقدر ما تبدي إيران ارتياحاً حتى الآن إلى حوارها مع أميركا وإلى نتائج الحملة الدولية على «الدولة الإسلامية»، تبدو موسكو في مزاج آخر. تدرك أنها ستكون الضحية الأولى لأي اتفاق نووي قد يمهد لعودة الجمهورية الإسلامية إلى موقعها القديم في الخريطة الغربية باباً إلى المياه الدافئة. وتنظر ربما بعين الحسد إلى تمدد هذه الجمهورية في الإقليم ما يعطيها أرجحية في أزماته وملفاته، هي الغائبة عن معظمها. وتخشى تطور مهمات التحالف إلى إسقاط الأسد وتقويض مصالحها في سورية. وهذا ما دفعها إلى إحياء اتصالاتها لعلها تعيد بعث دورها عبر بعث التسوية السياسية في جنيف أو موسكو. ولعلها تحد من خسائرها. لكنها لم تلق تجاوباً من النظام وتعرف سلفاً الموقف الواضح للمعارضة الحقيقية وليست الوهمية التي تريد أيضاً بعثها. وليست روسيا وحدها في هذا المركب. تركيا هي الأخرى يقلقها أي تفاهم بين إيران والغرب مثلما يقلقها الغموض والالتباس المرافقين لحملة التحالف. ولا يمكن أن تستكين وتكتفي بالمراقبة. إنها على الحدود المباشرة لسورية والعراق معاً. من هنا حملة الرئيس رجب طيب أردوغان على السياسة الأميركية وإصراره على وجوب إسقاط نظام الأسد.
إن أي تغيير جذري في سياسة اللاعبين في الإقليم سيظل رهناً بمستقبل المفاوضات النووية الممدة، سواء نجحت أوفشلت. وكل الأفكار تظل مؤجلة: أفكار دي ميستورا لانقاذ حلب، وأفكار موسكو لبعث العملية السياسية في سورية، ومطالب تركيا لوضع مصير نظام الأسد على لائحة أهداف التحالف. والحرب على «داعش» ستحافظ على الوتيرة التي تشهدها كوباني. لذا ستطول هذه الحرب ويطول معها انتظار المنتظرين ربما… إلى أن يقضي أوباما ما بقي عليه في البيت الأبيض!
الحياة
إيران والاستراتيجية الأميركية/ دينيس روس
بعد عقد من مفاوضات صبورة مع إيران بشأن برنامجها النووي المثير للجدل، تبدو احتمالات توصل الولايات المتحدة والقوى العالمية الأخرى إلى اتفاق نهائي غير جيدة. وستمضي عجلة الدبلوماسية قدماً وينبغي أن يتم ضمان تمديد المحادثات. ولكن آن أوان الاعتراف بأن سياسة «الاشتباك» اعتمدت على سلسلة من الافتراضات التي – وإن كانت منطقية- قد ثبت خطأها بشكل كبير. وفي حين تقيّم واشنطن خطواتها المقبلة، سيكون من الحكمة إعادة النظر في التقديرات التي ارتكز عليها أسلوبها في التعامل مع أكثر خصومها مراوغة. وقد اعتمدت إدارتا بوش وأوباما على الضغط المالي في تخفيف حدة طموحات إيران النووية. وجوهر هذه السياسة أن الضغط الاقتصادي المستمر سيغير من حسابات الجمهورية الإسلامية، ويفضي في نهاية المطاف إلى التخلص من أكثر الملامح المزعجة في برنامجها النووي. وقد كانت هذه براجماتية أميركية في أوضح صورها، إذ اعتقدت أن الاقتصاد سيسمو فوق الأيديولوجية والتاريخ في تحديد الأولويات الوطنية. وبالطبع لم تكن تلك السياسة من دون نجاحات، إذ عززت نظام العقوبات الذي أجبر إيران على تغيير أسلوبها في التفاوض. غير أن ما أغفلته أن إيران دولة ثورية قلما تتخذ قرارات اقتصادية مبنية على تقديرات، وفي الحقيقة، يبدو أن فكرة التكامل مع الاقتصاد العالمي تخيف بدرجة كبير حكام إيران المؤدلجين، الذين يرغبون في وجود أعداء خارجيين لتبرير حكمهم المطلق.
ويبدو أن استراتيجيات واشنطن الدبلوماسية تجهل أيضاً تغير ديناميكيات السياسة الإيرانية؛ ذلك أن الانتخابات الرئاسية في عام 2009 وما شابها من توترات كانت نقطة تحول في التاريخ الإيراني، إذ انقلبت إيران من حكومة تضم فصائل متعددة إلى نظام متسلط آخر. وتم إخراج قوى الإصلاح من المشهد السياسي، تاركين من خلفهم ملالي تتشابه عقولهم وآراؤهم. وفي حين أن كثيرين في الغرب لا يزالون يعتقدون أن إيران دولة أحزاب متشاكسة وشخصيات متنافسة، إلا أن الإيرانيين أنفسهم يتحدثون عن وجود «نظام»، ولا يشير ذلك إلى وجود اختلافات بين القوى الفاعلة الرئيسية، ولكن النظام شكّل إجماعاً على القضايا الرئيسة، مثل قمع المنشقين والحفاظ على المسار الأساسي للبرنامج النووي.
وقد كان خطأ التشخيص الأميركي للحالة الإيرانية في أوضح صوره عندما تقلد حسن روحاني الرئاسة عام 2013، حيث كان انتخاب روحاني بمثابة لوم للمرشد الأعلى وأيديولوجيته، وأقنع كثيرون في واشنطن أنفسهم بأنهم إذا استثمروا في روحاني فإنهم يمكن أن يدخلوا عصر الاعتدال في إيران، أملاً في أن يقدم الرئيس الجديد تنازلات نووية مهمة ويتعاون مع الولايات المتحدة من أجل إرساء الاستقرار في المنطقة المضطربة. لكن النقطة المفقودة في ذلك كله كانت كيف أن النظام لمّ شمله في 2009، وعزز سلطته وقوض مساره الديمقراطي. ومن ثم، سعت إدارة أوباما للتلاعب بالأحزاب الإيرانية في لحظة دقيقة عندما لم يعد للفصائل دور فاعل في السياسة الإيرانية. ولن تغير إيران سبيلها بسهولة، وإنْ كان من أمل لتغير الحسابات الإيرانية، فيجب أن يرى قادتها أن الثمن سيكون غالياً ـ وفق حساباتهم. ولابد أن تعتمد أي استراتيجية جبرية على عزل إيران بدرجة أكبر عن الأسواق العالمية والمؤسسات المالية، ومع تراجع أسعار النفط، سيكون الاقتصاد الإيراني أشد ضعفاً تجاه مثل هذه الضغوط. ولكن ذلك لا يمكن أن يكون نهاية المطاف، فيجب أن تواجه إيران ضغوطاً على الصُعد كافة.
إيريك إدلمان ودنيس روس وراي تقيه
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»
الحياة