صفحات العالم

الموقف التركي من الأزمة السورية – مجموعة مقالات-

 

هل يُنتِج التقارب التركي السعودي في سوريا؟/ أنّـا ماريـا لوكـا

أنقرا أرسلت عدة إشارات الى الرياض تدلّ على ترحيبها بأي تقارب في العلاقات

انضمّت حركة “حزم”، وهي مجموعة من الثوار السوريين المعتدلة تدعمها الولايات المتحدة وتحصل على دعم لوجيستي من السعودية، انضمّت الى جبهة المشرق المدعومة من تركيا (الجبهة الشاميه) – الائتلاف الاسلامي الذي يأخذ من حلب مقراً له.

يأتي هذا التحرك بعد أن واجهت حركة “حزم” ضغطاً عسكرياً متزايداً من مجموعات جهادية، مثل جبهة النصرة وأحرار الشام في شمال سوريا خلال حرب إدلب التي بدأت في خريف 2014. “نطلب من أخواننا في كافة الفصائل بأن يحلّوا خلافاتهم مع الحركة من خلال قيادة الجبهة الشامية”، جاء في بيان للائتلاف، حيث تقوم المجموعة بدور الوسيط بين المجموعة العلمانية والمقاتلين الجهاديين.

وكانت الحكومة التركية قامت مؤخراً بالعديد من الخطوات التي تشير الى رغبة في حلحلة العلاقات مع المملكة العربية السعودية، ومن بينها حضور الرئيس التركي رجب طيب اردوغان مراسم دفن الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز.

بعض أعضاء المعارضة السورية يدعمون هذه الخطوات التركية. ويعترف محللون بأن تركيا تكون بالغة الحذر عندما يتعلق الأمر بسياستها الخارجية، رغم أن آخرين لا يرون بأن هذه الجهود تُعتبر تغييراً ضرورياً في العلاقة بين الرياض وأنقرة.

التحوّل في سياسة المملكة العربية السعودية تجاه سوريا عام 2014

عندما حصل تغيّر جذري في سياسة السعودية الخارجية تجاه سوريا في أوائل العام الماضي، تم استبدال الأمير بندر بن سلطان، الذي كان داعماً أساسياً لمجموعات الثوار السورية من خلال إرساله أسلحة ومعدات، بالأمير محمد بن نايف. وهذا الأخير يعمل أكثر وفقاً للقواعد الغربية – ولا سيما الأميركية. فبدأ نايف بملاحقة الجهاديين السعودييين الذين يسافرون الى سوريا وشارك في الضربات الجوية التي نُفذّت على الدولة الاسلامية في العراق.

وتحت عنوان سياستها الخارجية تجاه سوريا، كانت المملكة العربية السعودية من البلدان التي طلبت الادارة الأميركية مساعدتها لتدريب مجموعات ثوار سوريين معتدلة. وعندما نفذت اموال الأمم المتحدة المخصصة للمساعدات العام الماضي، تبرّعت الحكومة السعودية بمبلغ 5 مليون دولار لبرنامج الغذاء العالمي. وقيل إنها زوّدت كتائب “حزم” بصواريخ مضادة للدبابات من طراز تاو.

بالاضافة الى ذلك، بدا التحوّل في السياسة الخارجية واضحاً في علاقة السعودية مع قطر: ففي آذار 2014، سحبت الرياض مبعوثها من الدوحة هي وبلدان أخرى من دول مجلس التعاون الخليجي وهدّدت بمحاصرتها إذا لم تخفّف قطر من دعمها للإخوان المسلمين في مصر وسوريا.

سياسة تركيا الخارجية ذات المعايير المزدوجة

الدعم الذي قدمته أنقرة للإخوان المسلمين في مصر وسوريا هو الذي أبقى علاقتها مع الرياض باردة. فقد وجدت جماعة الإخوان المسلمين السورية ملجأ لها في أنقرة واسطنبول منذ بداية الثورة السورية. حيث دعمت تركيا الإخوان المسلمين وحكم محمد مرسي في مصر، بما لا يرضي المملكة العربية السعودية.

وعندما فرحت السعودية بسقوط مرسي وصعود عبد الفتاح السيسي، كانت تركيا حزينة.

بالاضافة الى ذلك، عندما ألمحت قطر الى أنّ الاخوان المسلمين لم يعد مرحّباً بهم في الدوحة مثل قبل – لا هم ولا قائد حماس خالد مشعل – بحث الاخوان عن أي مساعدة لهم في تركيا.

وقد استقبل قادة تركيا مشعل بحفاوة، ما أثار قلق واشنطن. وحينها قال جين بساكي، المتحدث باسم الخارجية الأميركية: “ما زلنا قلقين من العلاقة بين حماس وتركيا مع مسؤولين أتراك كبار، بعد أن أن علمنا بزيارة مشعل الأخيرة الى هناك. وقد حضّينا حكومة تركيا على الضغط على حماس من أجل خفض التوترات وتجنّب العنف”. وبدورها نظرت الرياض الى زيارة مشعل الى تركيا بالطريقة نفسها.

ولكن عندما تمّ اعلان وفاة الملك السعودي عبدالله، علّق الرئيس التركي أردوغان جولته الى أفريقيا وحضر مراسم الدفن. حتى أنّ تركيا أعلنت الحداد عليه ليوم واحد.

وقال أردوغان إنّه رمى بحضوره مراسم دفن الملك الى إظهار الأهمية التي تمنحها الحكومة التركية للعلاقة بين البلدين. “ثمة قضايا نتفق عليها. وفيما يتعلق بمصر، وسوريا، وفلسطين، ثمة مسائل لا نتفّق عليها. لا نريد لهذه الاختلافات بأن تغيّم على علاقاتنا الثنائية”، كما قال، حاثّاً المحللين على توقّع “صفحة جديدة في العلاقة مع المملكة العربية السعودية”.

وفي هذا السياق، قال مارك بيرني، العالم الزائر في كارنيغي يوروب، لـNOW إنّه من الطبيعي بأن تختار تركيا مواقفها بعناية نظراً الى موقعها الخاص في المنطقة، وأضاف: “من الواضح وجود تبدّل في المتغيرات في الشرق الأوسط ويبدو أنّ قطر تتخّذ اليوم مقاربة أكثر حذراً تجاه الحركات الاسلامية وتتخّذ موقفاً مختلفاً من مصر”.

وتابع بيرني: “مما لا شكّ فيه بأنّ تركيا في موقع خاص نظراً الى عضويتها في الناتو ووضعها كبلد يفاوض الاتحاد الأوروبي. فالناتو هو الذي يمنح تركيا بيئتها الأمنية القوية والاتحاد الأوروبي هو المحرّك لاقتصادها [من صادرات، واستثمارات، وتكنولوجيا]. وتركيا تحصد فوائد كبيرة من علاقاتها مع هذين الكيانين [الاتحاد الأوروبي والناتو] ومن الخطير جداً بأن تعرّض هذه المكاسب للهلاك بسبب خيارات سياستها الخارجية المتعارضة مع هذين العمادين الأساسيين”.

على الجبهة السورية

قال أويتون أورهان، مدير مركز الدراسات الاستراتيجية الشرق أوسطية في تركيا، لـNOW إنّه على أنقرة أن تتأقلم مع الوضع السريع التغيّر على الأرض في سوريا على أن تبقي على موقفها الأساسي تجاهها – أي تغيير النظام في سوريا.

“تُعد تركيا من البلدان التي لم تقم بأي تغييرات كبيرة في سياستها الخارجية تجاه الحرب السورية، رغم أنّ هذه الأخيرة تشكّل خطراً مباشراً عليها. فتركيا هدف مباشر وعلى مرمى حجر. وداعش يسيطر على جزء كبير من الحدود- وبعض الاعتداءات الارهابية حصلت على أرض تركية. والجيش التركي قصف داعش”، أضاف قائلاً، “ولكن لدى تركيا سياسة أشمل. فبالنسبة الى أنقرة، داعش هو النتيجة وليس السبب. نظام الأسد هو السبب. فرأي الأتراك هو أنّ ثمة تغيرات يجب اجراؤها في النظام في دمشق؛ فهذه لست حرباً على داعش. وفي هذا السياق، تركيا على علاقة دائمة مع الائتلاف السوري- فهي تدعم المعارضة السياسية”.

في سوريا، يقول أورهان، إنّ الشيطان يكمن في التفاصيل. “من الناحية السياسية، وبشكل عام قد تكون السعودية وتركيا تقفان في الجهة نفسها، ولكنهما تتنافسان على الأرض. وفي الميدان العسكري، مثلاً كل بلد يدعم مجموعات مختلفة. لا أرى أي تعاون حقيقي على الأرض”.

وقال ناشط سياسي سوري معارض يأخذ من تركيا مقراً له لـNOW إنّ التئام حركة حزم وجبهة المشرق قد لا يعني الكثير على المستوى الدبلوماسي. “الأمر لم يتضح بعد، ولكني أعتقد بأنّ هذا الاندماج قام به الناس الموجودون على الأرض بسبب الوضع القائم”، كما قال. “لقد تعبوا من قتال بعضهم البعض. فقد كان النظام هو المستفيد من ذلك. الأمر لا علاقة له بما تريده تركيا أو ما ترغب به السعودية”.

هذا المقال ترجمة للنص الأصلي بالإنكليزية

(ترجمة زينة أبو فاعو

موقع لبنان ناو

 

 

 

 

 

الخيارات التركية في مواجهة أكراد سوريا/ محمود سمير الرنتيسي

قبل أيام قليلة أعلن الأكراد سيطرتهم على مدينة عين العرب (كوباني) بدعم أساسي من قوات التحالف ومشاركة قوات من البشمركة والمعارضة السورية ووحدات حماية الشعب الكردية بعد قتال استمر قرابة خمسة أشهر مع قوات تنظيم الدولة.

رفع هذا “الانتصار” على تنظيم الدولة في المدينة التي كانت تسكنها أغلبية كردية في شمال شرق سوريا، سقف تطلعات الوحدات الكردية نحو تحويل التقدم العسكري إلى إنجاز سياسي على الأرض، وإقامة كيان مشابه لإقليم كردستان العراق. وكانت هذه الأفكار قد بدأت تتصاعد منذ تراخي قبضة النظام السوري بعد الثورة.

لم ينتظر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كثيرا باعتبار تركيا المتأثر الأساسي أو المتضرر الأكبر حسب وصف بعض التقارير الصحفية، حتى أعاد على الملأ بشكل واضح رفض تركيا إقامة كيان كردي أو حكم ذاتي للأكراد في شمال سوريا على غرار كردستان العراق.

وتخشى تركيا أن يعزز ما حصل النزعات الانفصالية لأكراد تركيا البالغ عددهم حوالي 15 مليون والذين تحركوا بقوة عندما داهم تنظيم الدولة مدينة عين العرب، وقد جاء ذلك بعد جهود مضنية قامت بها الحكومة التركية في عملية السلام مع الأكراد لإنهاء كل عوامل تفجر الصراع.

هنا تتبادر للأذهان صيغة التساؤل التالي وهو لماذا ترفض تركيا حكما ذاتيا للأكراد في شمال سوريا مع أنها قبلت ذلك في شمال العراق وأقامت معهم علاقات دبلوماسية واتفاقات اقتصادية وربما تعاونا أمنيا أيضا ظهر بعض منه في سماح تركيا لقوات من البشمركة بالدخول إلى عين العرب عبر تركيا؟

 

ترى تركيا أن الواقع بين العراق وسوريا مختلف تماما، فإقليم كردستان العراق على خلاف مع حزب العمال الكردستاني الذي خاضت الحكومات التركية المتعاقبة عدة حروب معه منذ عام 1984، في حين يرتبط أكراد سوريا بتعاون مع حزب العمال الكردستاني.

أما الأمر الآخر الذي يرفع درجات الإنذار بشكل أكبر لدى تركيا فهو التدخل الغربي في المنطقة, الذي يعمل على تغيير الأوضاع لصالح الأكراد.

وقد كانت تركيا ترى استحالة أن يقوم الأكراد في سوريا بإنشاء دولة، وذلك لأسباب عدة منها:

1- أن الوضع جغرافيا لا يساعد الأكراد بسبب وجود فواصل جغرافية بين أماكن وجودهم الرئيسية بين محافظة الحسكة (قامشلو وسري كانيه) مع مدن تابعة للرقة (كوباني) ومحافظة حلب (عفرين)، حيث تنقطع المناطق الكردية عن بعضها لمسافة 40 كلم تقريبا. كما أن الشكل الشريطي المفترض للكيان يجعله مفتقدا للعمق بكل أبعاده.

2- وجود جيوب عربية بين هذه المناطق وحتى في داخل هذه المناطق تبلغ نسبة العرب في بعضها 40%.

3- أن أكراد سوريا مشتتون وليست لديهم رؤية سياسية موحدة، وتوجد قوى كردية في داخل الائتلاف السوري ترفض فكرة الانفصال.

4- الوجود العسكري المشترك للجيش الحر والأكراد في بعض المناطق. كما أن الوجود الحالي لتنظيم الدولة الإسلامية في بعض المناطق المحيطة بالأكراد يقلل الفرص الكردية.

5- لا توجد قدرة اقتصادية لدى أكراد سوريا لإدارة أماكنهم, كما أن عملية التصدير ستكون محكومة بالدول المجاورة ومنها تركيا.

6- معظم المياه السطحية تأتي من تركيا، ويعني هذا تحكم تركيا في الأمن المائي للمنطقة.

ولكن التركيز الشديد للغرب على منطقة عين العرب (كوباني) بعد رفض الأتراك المشاركة المباشرة في التحالف أثار انتباه الأتراك, وكذلك قيام الطائرات الأميركية بإلقاء أسلحة للمقاتلين الأكراد الذين تضعهم أنقرة على قائمة الإرهاب، دق نواقيس الخطر لدى تركيا التي سمحت مباشرة لقوات من البشمركة والجيش الحر (لإضفاء البعد العربي السوري) بالدخول للمدينة.

وقد استمر القادة الأتراك في انتقاد التحالف الذي ركز على وجود تنظيم الدولة في كوباني والذي أدى لتهجير 200 ألف نسمة، في وقت لم يقم بمهاجمة الأسد الذي قتل عشرات الآلاف وأدى لتهجير أكثر من مليون ونصف المليون من مدن مثل حلب وجوارها.

وترى تركيا ضرورة الجمع بين مواجهة تنظيم الدولة ونظام الأسد، وإنْ كانت ترجح أولوية مواجهة الأخير وترى أن قيام كيان كردي يخدمه بالدرجة الأولى ويصب باتجاه تقسيم سوريا وهو الشيء الذي لا تريده.

ما زالت تركيا ترى صعوبة قيام كيان للأكراد في شمال سوريا إلا أنها رفعت درجات التحسب لهذا الأمر أكثر من ذي قبل بسبب تراجع تنظيم الدولة في بعض الأماكن ورغبة الأكراد في مزيد من الانتصارات عليه بالتعاون مع التحالف، ووجود جهود حثيثة لتوحيد جهود أكراد سوريا وبتدخل من أكراد العراق.

ولكن إذا تزايدت مؤشرات الخطورة بقيام كيان كردي شمال سوريا فإن تركيا ستعمل على تكريس ما يلي:

1- دعم المعارضة السورية والجيش الحر، كمزيد من معارضة مشروع الإدارة الذاتية للأكراد ومزيد من الاهتمام بمناطق شمال سوريا وتعزيز الوجود العسكري هناك. وقد حصلت بعد جهد على موافقة من الأميركيين على تدريب قوات المعارضة السورية.

2- حث إقليم كردستان العراق على اتخاذ مزيد من المواقف المضادة لحزب العمال الكردستاني.

تعاملت تركيا مع قتال تنظيم الدولة وحزب العمال في عين العرب ضمن منطق “دع الأعداء يتقاتلون” ولكن تزايد نزعات الانفصال الكردي قد يجعلها تتجه للتعامل بمنطق “عدو عدوي صديقي” لكن هذا أيضا له اعتباراته وقيوده، وفي هذا السياق عانت تركيا مؤخرا من حملة تشويهية تتهمها بدعم وتمويل الإرهاب في سوريا والعراق.

4- ستعمل تركيا على التوصل لإنجازات في عملية السلام الداخلية مع الأكراد خاصة أن حزب العدالة مقبل على انتخابات برلمانية في يونيو/حزيران القادم, ولكنها ستعمل من خلال صيغ لا يفهم منها أنها تنازلات الضعيف خشية نتائج عكسية.

تحاول تركيا فرض رؤيتها للحل في سوريا والتي تضرب من خلالها كل العصافير بإقامة منطقة حظر جوي ومنطقة آمنة للاجئين السوريين داخل الشريط السوري، وهو ما من شأنه أن يقضي على فكرة الكيان الكردي، ولكن هذا يواجه برفض غربي، وهو ما قد يشير بوضوح إلى أن الغرب يدعم قيام دولة كردية شمال سوريا من خلال الاعتراف الضمني بالمقاتلين الأكراد الذين يساندونه في قتال تنظيم الدولة، كما يذكر محللون أن إسرائيل ترغب بهذا أيضا.

يبقى الحديث عن تدخل عسكري تركي مباشر ضد النزعات الانفصالية للأكراد مستبعدا في هذه الفترة، لكن المؤكد أن تركيا لن تترك الساحة فارغة وستعمل حاليا على خلط الأوراق أمام أي تحركات كردية.

وأمام هذه التوجسات الكردية يميل عدد من القوى الكردية إلى عدم إثارة حفيظة تركيا من خلال التأكيد على أنهم لا يريدون إقامة كيان كردي، وأنهم جزء من الدولة السورية، وأن الحديث عن الكيان الكردي هو من قبيل الرهاب السياسي، وأن الأولوية هي لقتال ومواجهة دكتاتورية وطغيان نظام الأسد.

وقد وجه عدد من الأكراد الشكر لتركيا لدورها في إيواء اللاجئين القادمين من كوباني وتسهيل دخول البشمركة، لكن أصواتا أخرى تعالت برفض التدخل التركي في مستقبل الأكراد في سوريا باعتبار أنهم وحدهم من يحق لهم تقرير مصيرهم.

لا يغيب عنا هنا أيضا أن نشير إلى دور النظام السوري الذي حاول بعد الثورة استمالة بعض قوى الأكراد في مواجهة تركيا وقوى الثورة مما يجعل الأمر في سوريا وشمالها تحديدا دائرا في طاحونة صراع الإرادات الإقليمية والدولية بين تركيا والغرب والأكراد والنظام السوري ومن يقف خلفه.

لكن الأمر المؤكد في الخطاب التركي أن إقامة كيان كردي شمال سوريا هو خط أحمر، وكلما تزايد الحديث عن هذا الأمر فإن المنطقة مرشحة لمزيد من السخونة والتصعيد.

الجزيرة نت

 

 

 

طوق حلب: المشروع العثماني إلى نهاياته!/ محمد نور الدين

لن تغير المساعدات العسكرية التي أرسلتها تركيا إلى مسلحي المعارضة في شمال حلب من المسار التراجعي لسياسة تركيا في سوريا والمنطقة والتنظيمات الموالية لها مثل «جبهة النصرة» و «داعش».

فالضربة الأولى التي تلقتها تركيا كانت في عين العرب (كوباني) عندما تم تحرير المدينة رغماً عن تركيا و«بشارة» رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان بقرب سقوطها. ولم يقتصر إنجاز المقاتلين الأكراد المصنفين في أنقرة «إرهابيين» على تحرير المدينة، بل تعدوها إلى تحرير عشرات القرى المحيطة بها. وبدلاً من إلغاء الشريط الكردي على الحدود مع تركيا إذا به يتوسع.

وجاءت الضربة الثانية من جانب الجيش السوري مع إعادة السيطرة على العديد من القرى المهمة إستراتيجياً في شمال حلب، وإحكام المزيد من الطوق على إمداد المعارضة المسلحة داخل المدينة. فيما تشعر تركيا أن عين العاصفة لن توفرها عندما تتقلص المساحة الجغرافية التي يسيطر عليها المسلحون والفاصلة بين حلب والحدود السورية.

تكاد تكون حلب خارج الأحلام التركية، والمدينة التي كان يراهن أردوغان على أن تكون مفتاح السيطرة على سوريا، بل يكاد لا يراها مع رئيس حكومته أحمد داود أوغلو خارج الجغرافيا التركية نفسها، صارت هي مفتاح سوريا، وسوريا هي مفتاح المنطقة.

من هنا التحذير المستمر لأردوغان من سقوط حلب بيد «داعش»، فيما هو يدرك أنه يريد تدخلاً في حلب لمنع سقوطها الكامل بيد النظام لا «داعش». ولأن حلب هي المفتاح وحقل الأطماع التاريخية لتركيا، فإن إكمال الطوق حولها ومنع الإمدادات عنها من الشمال التركي، سيشكلان نقطة الاندفاعة المضادة التي ستكون تركيا تحت وطأة تأثيراتها.

بعد معارك عين العرب، ثبت أن عدداً كبيراً من مقاتلي «داعش» قد عبروا الحدود إلى تركيا والتجأوا إليها. ومع تضييق الخناق على مسلحي حلب وشمالها فإن الطريق الوحيدة التي ستكون مفتوحة أمامهم هي تلك المؤدية إلى الداخل التركي.

ومهما طال أمد التحالف بين أنقرة و «الرقة» (عاصمة «داعش» المزعومة)، ففي النهاية سيرتد هذا الإرهاب على الداخل التركي، خصوصاً أن له بيئة حاضنة وآلاف المنتسبين من الأتراك فيه. وسوف يسأل غداً هؤلاء عن المصير الذي سيؤولون إليه برغم الدعم التركي. ولن يطول بهم الوقت ليدركوا أنهم كانوا وقوداً لمشروع للهيمنة قاده أردوغان وانتهى إلى الفشل والدم والخراب والفتن والكراهيات.

لذا، ليس مستغرباً أن يحذر رئيس تحرير صحيفة «يني شفق» المؤيدة لـ «حزب العدالة والتنمية» إبراهيم قره غول من أن تركيا قد تتعرض قريباً إلى هجمات من جانب «داعش»، داعياً إلى الاستعداد واتخاذ الإجراءات الاحتياطية. لكن ما سها عن بال قره غول أنه غيب المسؤول عن رعاية «داعش» واحتضانها واستخدامها ورقة لتعزيز الاضطراب في المنطقة.

مع ذلك، ما دامت الحروب مفتوحة في سوريا والعراق واليمن وليبيا، فليس ما يدعو إلى الاعتقاد أن تركيا ستغير من مواقفها. وبدلاً من أخذ العبر والدروس من كل ما جرى حتى الآن، فإن سياسة استمرار التدخل على قاعدة «أنا الغريق فما خوفي من البلل»، ومن خلال أقصى التنظيمات تطرفاً، لا تزال الأمل المتبقي لسلطة تتراجع إلى الوراء حتى في الداخل.

وليس المثال الليبي سوى نموذج لهذه التدخلات عبر شحنات الأسلحة والمقاتلين الذين تنقلهم الطائرات التركية يومياً إلى ليبيا في محاولات للتعويض اليائس عن سقوط المشروع التركي في ركيزته المصرية وفتح جبهة دموية عبر ذبح المواطنين الأقباط المصريين من قبل «داعش» في ليبيا. ولكن هذا الفعل الشنيع وُوجِهَ، في موقف غير مسبوق، بتنديد رسمي ليبي من قبل الحكومة الحالية التي تنتقد أنقرة علناً ورسمياً للمرة الأولى.

ولعلها المرة الأولى التي يعترف أردوغان بأنه معزول على الصعيد الدولي، ويقول إنه لا يعير أهمية للعزلة على مستوى العلاقة مع الرؤساء في العالم، لأن المهم عنده هو أنه غير معزول لدى الشعب التركي.

يتراجع المتطلع إلى «صفر مشكلات» مع الجيران، ليكتفي بدعم داخلي وهو الذي رفع شعار العثمانية الجديدة وأراد الوصول الى آخر مكان وطأته سنابك خيل السلطان سليمان. لكن الطريف في أردوغان أنه يعيد عزلته بين الرؤساء إلى نظرة الحسد والغيرة التي ينظر بها هؤلاء إليه: أردوغان، أي أن أردوغان يريد أن يُنْظَر إلى عزلته على أنها شخصية، مكابراً في الاعتراف بحقيقة أن العزلة الحقيقية هي للمشروع الذي وأدته أطماع وأوهام ومغامرات غير واقعية.

المغامرات المترنحة لأنقرة في الخارج، تقابلها مرحلة في الداخل لا تسر حزب العدالة والتنمية ولا أصدقاءه. وحتى لا يسبق الوهم الواقع، فإن ذلك لا يعني أبداً أن الحزب في طريقه إلى خسارة الانتخابات النيابية المقبلة ولا للخروج من السلطة. ولكن البقاء في السلطة لم يعد يعني الكثير للاستقرار والسلم الاجتماعي الداخليين.

ليس أبلغ من قول نائب رئيس الحكومة بولنت أرينتش من أن نصف الشعب التركي يكره «حزب العدالة والتنمية»، لندرك أيضاً أن عزلة المشروع هي أيضاً داخلية.

قال أرينتش إن «نصف الشعب التركي يكرهوننا. صحيح أن الخمسين في المئة التي ننالها كافية للبقاء في السلطة، لكنها توصل إلى نقطة لا يمكن حينها حكم البلاد. يجب أن نكون مرنين ومتصالحين مع الآخر».

الغضب على سلطة أردوغان بلغ الأسبوع الماضي ذروة اجتماعية جديدة مع خطف واغتصاب وتقطيع الطالبة الجامعية، أوزغيجان أصلان، في محافظة مرسين في جنوب تركيا، ومن ثم إحراقها بالنار.

القتل حرقاً لا يستجلب إلى الذاكرة سوى إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة على يد «داعش». لكن الجريمة لم تكن فردية، بل هي نتاج لخطاب التمييز ضد المرأة واعتبارها أكثر من مرة أنها أقل من الرجل، تماماً كما يفعل «داعش» في جعل المرأة سلعة تباع وتشترى، و «كائناً» من دون سائر الأجناس، وكل ذلك باسم الاسلام.

انتقدت جمعيات المجتمع المدني والمعارضة أردوغان، وحَمَّلَته المسؤولية عن مقتل الطالبة أصلان، معتبرة أن «داعش» وسلطة «العدالة والتنمية» وجهان لعملة واحدة: الحرق وتحقير المرأة.

لا تستطيع سلطة «العدالة والتنمية» أن تتجاوز أيضاً عقدتها الكردية. العقدة تمظهرت في أقصى سلبياتها في موقعة عين العرب، لكنها في الأصل هي في الداخل. سنتان مرّتا على المفاوضات بين الدولة وعبدالله أوجلان، ومع ذلك ومع اقتراب الاستحقاق الانتخابي في حزيران المقبل، تفتش الحكومة عن ذريعة لتفجير المفاوضات.

الأكراد مستعدون للحل وترك السلاح، لكن الحكومة لم تستطع التعهد بأي شيء. وحتى لا تتحمل المسؤولية، تحاول أن تدق إسفيناً بين أوجلان وقيادة «حزب العمال الكردستاني» في جبال قنديل، بالقول إن قيادة قنديل و«حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، هما مَن يعرقلان جهود أردوغان للسلام.

قيادة قنديل تتهم الحكومة بأنها تتلاعب بعملية الحل. وبين أن تقدم الحكومة على خطوة تاريخية للحل وتعترف بمطالب الشعب الكردي، فإنها على ما يبدو ستختار حتى عودة القتال مع الأكراد على أن تتنازل عن نظرتها العنصرية إليهم.

أحمد داود أوغلو يقول إن قوى إقليمية ودولية لا تريد لعملية الحل أن تستكمل وإنها تريد الفوضى في تركيا، لكنه لم يحاول أن ينزع الذريعة ويبادر إلى التجاوب مع المطالب الكردية ولو على مراحل. ومن الآن وحتى عيد النوروز المقبل بعد شهر، ستكون الأمور أكثر وضوحاً في أي اتجاه ستمضي القضية الكردية في تركيا.

تنشغل تركيا من الآن وحتى الانتخابات النيابية في السابع من حزيران المقبل بمشاكلها الداخلية، حيث يواجه «حزب العدالة والتنمية» ضغوطاً سياسية واجتماعية وأمنية متعددة، وسط عزلة إقليمية ودولية تامة، وهي مرحلة لم يسبق أن مر بها الحزب. وكلها مؤشرات تفضي إلى المأزق الذي يواجهه الحزب (الذي سينجح في الانتخابات النيابية بفضل عامل الصراع الإسلامي ـ العلماني تحديداً)، لكنه سيكون عاجزاً عن إدارة تركيا وعن حل مشاكلها وضمان استقرارها، وعاجزاً في لحظة ما عن درء تسلل الخطر الإرهابي عبر الحدود التي شرعها على امتداد أربع سنوات لكل أنواع شذاذ الآفاق.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى