صفحات سوريةطيب تيزيني

المَصْلحي والإنساني الأخلاقي


طيب تيزيني

تبرز الفصول الأخيرة من النشاط الدولي، الذي احتضنته وأنتجته المنظمة العالمية في اجتماعاتها الأخيرة المتتالية، بمثابتها فصول مأساة تكاد تكون وحيدةَ ذاتها من بين المآسي التي مرت في التاريخ السياسي العسكري. أما الموقف الروسي منها فيمكن النظر إليه من حيث هو نموذج مدوٍ لها. والأمر المُلفت الصاعق هنا يتمثل في أن المأساة المذكورة كلما تدعّمت بمزيد من جرائم قتل الأطفال والنساء والمسنين في هذه المنطقة أو تلك، مثل التي حدثت مؤخراً في الحولة وقبير، كان إصرار الجانب الروسي على احتقار وازدراء ملابساتها الإنسانية والأخلاقية، يزداد ويتضاعف. ومن طرف آخر، كان الجانب الروسي يشدد على أن القَتَلة هم من جموع عصابات منتشرة في سوريا وتتمثل في السّلفيين والمندسّين وأمثالهم، أي في أولئك “المجرمين”، الذين لم تستطع أجهزة الأمن الرسمية اعتقال واحد منهم، وعرْضه على الناس في محاكمة علنية. والطريف في ذلك كله أنه أعلن أن ستمائة من “أفراد العصابات القتلة” كانوا من وراء مجزرة الحولة، ومن ثم، لا علاقة لآخرين من أجهزة السلطة مثلاً بذلك.

والسؤال الذي يفرض نفسه يتمثل فيما إذا كان الموقف الروسي المذكور من الأحداث في سوريا، ساذجاً إلى تلك الدرجة، أو قاسياً مُنافياً لحقوق الإنسان دون أن يُنتبه إلى ذلك! نحن هنا لا نتجاوز المصالح الاستراتيجية التي تحرص عليها روسيا في سوريا، ولكننا نتساءل عما إذا كان التضامن مع ضحايا الحولة وقبير أمراً يُضعف من أهمية هذه المصالح. هنا نريد الإشارة إلى أن فهماً مغلوطاً يبرز حيال مفهوم “المصالح” المعْني هنا. فهذا الأخير، كما يفهمه الروسي بأنه ينتمي أساساً إلى المرجعية الليبرالية المتوحشة، التي تتميز بغياب التوازن بين الخاص والعام، بين المجتمع البشري والفرد. ونحن نعلم أن هذه الحالة تهيمن راهناً على المنظومة العولمية، التي سبق أن عرّفناها من حيث هي نظام يسعى إلى ابتلاع الطبيعة والبشر وهضمهم وإخراجهم سِلعاً. وفي هذا السياق تحديداً، نستطيع أن نفهم الدبلوماسية الروسية، التي تتصدى لما يحدث في سوريا منذ ما يزيد على سنة وثلث السنة، وربما لوقت آخر قادم.

إن التشدد الذي تُبديه الدبلوماسية المذكورة وغيرها في المشهد السوري الراهن، تجد موقعها في التعريف، الذي قدمناه للمنظومة العولمية. فهي تُخفي السؤال الإنساني الأخلاقي على صعيد المشهد المذكور، وتغيّبه في تضاعيف سؤال المصالح التي تخصها. ومن ثم، فإن السؤال الأول يُقصى، ليجد موقعه في البنية المسكوت عنها. أما السؤال الثاني فيهيمن على الخطاب الروسي الدبلوماسي، دون الإفصاح عنه، بعُجره وبجُره. وعلى هذه الطريق، يُقصى سؤال الحرية والكرامة والديمقراطية، بوصفه مرجعيةَ ما تقوم به مجموعات الشباب السوري راهناً. وربما أمكننا، في هذه الحال، الكشف عن عنصر آخر خبئ في الخطاب الدبلوماسي الروسي، هو سؤال الديمقراطية المُغيّب في المجتمع الروسي الراهن، الذي يعجّ -كما يرى كتّاب مراسلون- بالظاهرة المافاوية، التي تأتي هنا بوصفها حالة أو بعض حالة تزينية لكن قوية للمجتمع المذكور.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو التالي: ألهذه الدرجة يؤرّق “الربيع العربي” عدداً راهناً من المجتمعات؟ وفي كل الأحوال، إن ما يُفصح عن نفسه في الدبلوماسية الروسية حيال الأحداث السورية الراهنة، إنما هو ظلم في حق الدماء التي تُهدر ها هنا. إذ بشيء من التوازن، كان يمكن للروس أن يتعاطفوا مع ضحايا العنف في سوريا وأن يتضامنوا بقدر تُشتم فيه رائحة الإنسانية والقيم الأخلاقية، دون أن يفقدوا مصالحهم الاستراتيجية الآن ومستقبلاً. فلقد كتب مرة الروائي الروسي العظيم تولستوي بأنه يشعر بأنه، مع غيره، مسؤول عن دموع تهطل من عيني طفل مظلوم ومقيم في أقصى المعمورة. لقد آن الأوان لتبصُّر البشرية المعاصرة فيما يحدث من آلام، يمكن تجنُّبها في العالم وفي المؤسسات الدولية الكثيرة، مع كثير أو قليل، من الحكمة والإنسانية والعقلانية.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى