المُثقَّف والسِّياسِي: صلاح بوسريف
ما لم نُمَيِّز بين المعرفة والأيديولوجيا، أو بين العمل الثقافي والعمل السياسي، لا يمكن أن نضمن استقلالية الثقافة عن السِّياسة، أو تَمَيّزَها عنها، في أقل تقدير.
إذا كانت الأحزاب والنقابات، في فترات سابقة، وخصوصاً في لحظات المواجهات العنيفة بين النظام واليسار، اعتبرتْ الجمعيات والمؤسسات المدنية المختلفة، وبينها المؤسسات الثقافية، أذْرُعاً للنضال، والمواجهة، وهو ما سينخرط فيه المثقفون بدورهم، فاليوم، لم يعد هذا مُمْكِناً، لأسباب عديدة، بينها:
ـ الهيمنة المطلقة التي كانت للسياسي على الثقافي، واستعمال ‘الحزب’ للثقافة كواجهة، في غياب فهم واضح لدور المثقفين في صياغة مشروع ثقافي، هو ما يمكنه أن يُجَدِّدَ، أو يُعيد تفكير المعنى الأيديولوجي، أو الفكري، للسياسيّ، أو لـ ‘الحزب’.
ـ انعدام الحوار، بين السياسي والثقافي، أو شراكة المثقف في اتِّخاذ القرارات، بما يعنيه ذلك من هيمنة كاملة للسياسي، وتهميشه لرأي المثقف الذي كان، في بعض حالات النقاش، يبدو خارجاً عن دوغمائية السياسي، أو الحزب.
ـ عقدة ‘المثقف’ التي كان السياسي يَسْتَشْعِرُها دائماً،. وهو يقرأ، أو يستمع لخطابات، ونقاشات المثقفين، في ما يَهُمّ الشأن السياسي. فالسياسيّ، أو الحزبي، بالأحرى، هو شخص، لا يملك أفُقَ نظرٍ واضح إزاء ما يقوله، أو يفكر فيه، لأنه يكتفي براهن الأمور، ولا يستطيع قراءة ما يجري، في سياقاته التاريخية والمعرفية التي يمكنها أن تُضيء ما يبقى مُعْتِماً في نظر السياسي، ما يؤدي إلى وقوع زَلاَّت، وأخطاء في تحليلاته، وفي فهمه لما يقوله، أو يُدْلي به من تصريحات، وأقوال.
ـ المثقف، بطبيعته، ينظر للمسألة، كيفما كان شأنها، بنوع من الحذر، والتَّرَوِي، وبنوع من القراءة المتأنية، الفاحصة، العارِفَة، وهذا ما لا يقبله السياسي، الذي هو شخص، مِتَسَرِّع، اسْتِعْجالي، يريد أجوبة، ولا يريد أسئلة.
ـ انتهازية السياسي إزاء المثقف، فهو يعتبره قِطْعةَ غيار، يستعملها في لحظات العطب، وحالما تتحرك الآلة، لا يعود لهذا المثقف مكان في حسابات السياسي.
ـ الهيمنة المطلقة، داخل الأحزاب السياسية، والنقابات، لغير المثقفين، على دواليب تسيير القطاعات لمختلفة للحزب، أو النقابة، وفي حالة وجود مثقفين في قطاع من هذه القطاعات، فهم يوجدون بالصفة السياسية، أو النقابية، لا بصفتهم مثقفين، لهم زاوية نظر أخرى، ولهم معطيات أخرى، تحليلية نقدية، ولهم رأي إخر، مختلف، ربما،لا يتوفر للسياسي، أو النقابي. فالحِرَفِيون، والمهنيون، أو ‘التقنيون’، ممن يمكن اعتبارهم، تجاوزاً ‘خبراء’، وهم بمثابة الإطفائيين، هم من يُهَيْمِنون على الحزب والنقابة، ويقصون غيرهم، ممن يبدو فكرهم مخالفاً لفكر الحزب والنقابة، أو يسعى لتصحيح انحرافاتهما، أو ما قد يكون من قبيل الانحرافات، أو الأعطاب التي يمكنها أن تفضي لتخلُّف الحزب أو النقابة.
ـ ثم إن المثقف، هو شخص لا يستقر على فكر ثابت راسخ، أو على عقيدة نهائية، حاسِمَة، أو على نفس الجملة، يُعيد تكرارها، بنفس الترتيب، دون ملل، أو كَلَل. فالمثقف، قَلِق، مِلْحَاحٌ، لَجُوجٌ، انتقاديّ، مُدَقِّق، فكره النقدي يقوم على التفكيك، والحَفْر، والشَّك، وهو كثيرُ الرِّيبَة، ولا يُجيد ثرثرة النقابي والسياسي، وتعبيراته الإنشائية الخَطابية التي نتقصُها كل أدوات ‘الخِطاب’، بما تعنيه الكلمة من معنًى، في سياقها المعرفي. وهذا بين ما يجعل المثقف غير مرغوب فيه، في الحزب والنقابة، وحتى في مؤسسات الدولة التي تقوم على القبول والطَّاعَة، وتثمين القرارات، دون تفكيرها، أو مناقشتها.
هذا بين أهم الأسباب التي تُضاعِف الهُوَّةَ، بين المثقف والسياسي، وتجعل المسافة بينهما هي مسافة غير قابلة للتَّجْسِير، كون السياسي لا يقبل بالاختلاف في الرأي والنظر، أو يعتبر ‘الانضباط’ لقرارات الحزب والنقابة، شرطَ تعاقُدٍ، بين ‘القيادة’ و ‘القاعدة’. والمُتأمِّل في بعض هذه الاستعمالات الحزبية والنقابية، سيدرك معناها العسكري، وهو ما كان سقط فيه غرامشي نفسه حين أكَّد على مثل هذه الاستعمالات، في حديثة عن دور ‘هيئة أركان الحزب’، وفي تسميتها، بالمعني التَّسَلُّطِيّ التَّحَكُّمِيّ، كما كنتُ كتبتُ في مقال ‘العنف السياسي، بين السيف والميزان’.
الجمعية، أو المؤسسة الثقافية، لا تحتاج لتزكية السياسي، أو النقابي، فالمثقف، حين يعمل بصفته هذه، لا بِغَيْرِها، فهو يساعد السياسيّ المتنوِّر، غير الدوغمائي، أو الأرثودكسي المتزمِّت لفكره، وعقيدتخ، ولطريقته في قراءة الأشياء وتحليلها، على النظر في مرآته، بغير العُمْق الصَّقِيل الذي تَعَوَّد أن ينظر به لنفسه، بل بعمقٍ، يفضح تَشقُّقَات الوجه، وتصدُّعاته، أو ما يمكن أن يفعله فيه الزمان من أفاعيل، لم تكن تكفي عين السياسي، المتعودة على رؤية ما تريد أن تراه، لتكشفه، لأنها فاقدة لبعد النظر، وتكتفي بما هو آنِيّ، لَحْظِي، لا غير.
العمل الثقافي، هو قاطرة العمل السياسي، وليس العكس. المثقف، هو من يقود السياسي، وليس العكس. فالسياسي، كثيراً ما يقوده عماء الأيديولوجية، لكن قراءته لتحليل المثقف، ولِما يقترحه من أفكار، يقوده للضوء، ويخرج به من الظلمة التي، هي مُشْتَرَك ‘الأصوليات’ سواء أكانت سياسية، أو دينية.
بدا لي، وأنا أتابع بعض ما يجري في العمل لجمعوي، في أكثر من مكان، أن السياسيَّ، شرع، بعد تراجعاته السابقة، في استقطاب المثقفين، أو بعض المثقفين، وفي استعمال بعض الجمعيات، أو بعض المؤسسات الثقافية، لاستعادة ما فقده من أذْرُعٍ، ليس بتفكير دور الجمعيات، والمثقفين، في استقلاليتهم، بل بالتبعية، وهو ما كان من قبل، وكأن لا شيء تغيَّر بين الأمس واليوم.
فتجييش ‘المناضلين’ وتعبئتهم، لاختراق المؤسسات الثقافية، هو بين ما يمكنه أن يعود بنا إلى الوراء، ويجعل مصداقية العمل الثقافي، و ما يمكن أن يكون للمثقفين من عمل، في استقلال عن الحزب والنقابة، وربما في نقده لهما، تموت، في مقابل ‘المثقف’ الذي سيقبل أن يلعب، مرة أخرى دور قطعة الغيار، أو الكومبارس، في مسرحية قديمة، بنفس الحوار، وبنفس الممثلين، ونفس الإخراج، الشيء الوحيد الذي يكون تغيَّر، هو الديكور، وبعض الأكسسوارات الصغيرة والجُزئية، أو الماكياج، بالأحرى.
كان الروائي الراحل، عبد الرحمن منيف، في أحد أعماله النظرية، حول الثقافة والسياسة. انتقد هذه الهيمنة، وهذا الاحتلال، والتَّحَايُل الذي يستعمله السياسي، لامتصاص المثقف، وتهميشه بالتالي، من خلال ازدراء رأيه وفكره، رغم ما في فكر السياسي من جهل، وخلط، وضيق أفق، في مقابل فكر المثقف، وعُمق نظره.
الثقافة هي أرض تقبل بالحوار، وتقبل بالنقاش والاختلافات، كما تقبل بكل المعارف التي تسمح بتوسيع أفق النظر، في رؤية المثقف، وفي تفكيره، وما يؤسس له من أسئلة، وما يطرحه من قضايا، أو إشكالات، لكنها ليست أرضاً تابعة للسياسي، يدخلها وقت ما شاء، ويخرج منها وقت ما شاء، وكأنها أرض بلا حدود، وبلا طبيعة خاصة. ففصول أرض الثقافة، هي غير فصول أرض السياسة، التي يمكنها أن تتشبَّث بنفس الفصل إذا كان سيُسْعِفُها المطر، في توسيع حجم الكارثة التي، عادةً، ما يستعملها لسياسي، بغض النظر، عما قد تُسَبِّبُه من خسارات في الأرواح، وفي البنيات المختلفة للوطن، لتحقيق مكاسبَ تجعله يحصُد الأصوات التي ستأخذه للسلطة، ومواقع القرار، كما هو حادِثٌ اليوم، في مصر، في ظل حكم ‘الإخوان’، أو في تونس، ‘حزب النهضة’.
حسابات السياسي، والنقابي، هي غير حسابات المثقف، واستقلالية المثقف، والعمل الثقافي، هي قبل أن تكون في صالح المثقف، فهي في صالح السياسي، الذي عليه أن يخرج من صوته المفرد الوحيد، ليستمع للصوت الآخر الذي ينقصه، دائماً، في التحليل، وفي القراءة، وفي النظر، قبل أن يتخذ قراراته، التي قد تكون رَعْنَاء، وتجلب ما لا يمكن تصوره من مشكلات، وهذا ما حدث، عندنا، في المغرب، بالأمس القريب، حين تَمَّ اتِّخاذ قرار ‘التناوب التوافقي’، دون وضع هذا الشرط في حسابات السياسي، الذي عاد بعد إخفاقه ليعترف بأخطائه، وبما واجهه من مشكلات، لم يكن يتوقَّعها، أو لم يُرِد أن يفكَّر فيها، لأنه كان مُنْشَغِلاً بغنـــائم السلطة، وبإغراءاتها، وبما احْتَلَّه من كراسٍ، وهو ما يحدث اليوم للإسلامويين في مصر، وما يعيشه أخوتُهُم في المِلَّة، هنا في المغرب، وهو، في ما نسمعه، ونقرأه، ونراه في ما يجري، في أكثر من بلدٍ عربي، من البلدان التي قامت فيها الثورات ضد الأنظمة العسكرية الاستبدادية، لتجد نفسها في مواجهة أنظمة دينية استبدادية جاهِلَةٍ، وعمياء، أو بتعبير ابن رُشد فإنَّ ‘شَرَّ الظُّلْم ظُلْم رِجال الدِّين’.
لا معنى لِسَعْيِ السياسيّ للهيمنة على الثقافة، واسْتِدْراج المثقفين، بعد تجاهُلِهِم، ورفض أفكارهم، وما كانوا يقدمونه من انتقادات، إزاء إخفاقات السياسي، حين اختار السلطة، وذهب إليها بدون برنامج، وبدون شروط. كما لا يمكن للمثقف أن يكون مُغَفَّلاً إلى هذا الحد الذي يجعل منه عَجَلَةَ احتياط، في سيارة، العطبُ موجود في مُحَرِّكِها. فالسياسي حين وجد نفسه، بدون أدْرُع، تخدم مصالحَه، وتقوي مكانتَه، عاد ليستجدي المثقفين، والجمعيات الثقافية، ولعل ما حدث في انتخابات الهيئة المسيرة لاتحاد كتاب المغرب، بين طَرَفَيْن من نفس الحزب، حول من يكون الرئيس، واحتلال بيت الشِّعر في المغرب، بالانقلاب على مشروعه، وبرنامجه، وما كان أَسَسَ له من أفكار، من قبل نفس الذين انهزموا في انتخابات الاتحاد، ما يكفي لفضح هذا التهافت السياسي، على استقلالية، وخصوصية المثقفين، والعمل الثقافي.
القدس العربي