المُثَقٌّف وقَلَق ما قبل الثورة وما بعدها
صلاح بوسريف
الحُلُم بالثورة، أو بالتغيير، كان أحد هواجس وانشغالات المثقفين، بمختلف أجيالهم. كانت بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، من اللحظات التاريخية التي شَرَعتْ فيها كتابات هؤلاء في التعبير عن هذا الهاجس، أو هذا الحُلُم، خصوصاً مع تَبَخُّر حُلُم ‘اليسار’ العربي، بعد الاستقلال، وظهور أنظمة حُكْم عربية لم تَرْقَ إلى مستوى الحُلُم، أو اليوتوبيا، التي كان هذا اليسار يتطلَّع إليها، من خلال بناء مجتمع مُتَحَرٍّر من قيود الاستبداد، والحُكْم المُطلق.
الثورات، أو الانقلابات التي حدثت، خرجت في أغلبها من ثَكَناتِ الجيش، وتبني شعارات الوحدة والاشتراكية، كان ضمن أيديولوجية، هذه الثورات، أو الانقلابات، لِكَسْبِ تعاطف المثقفين، ولمسايرة ما كانت تفرضه المرحلة من مَيْلٍ للفكر الاشتراكي التقدُّمي، والرغبة في التَّحَرُّر، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
لم يكن المثقف بمعزل عن هذا الحِراك الذي كان ضمن ما سَعَت إليه هذه الفئة من المجتمع، من تغيير.
فانخراط المثقفين ضمن الحِرَاك الاجتماعي والسياسي، وانتماء عدد منهم للأحزاب السياسية اليسارية، أو ذات الميول اليسارية، هو أحد أشكال التعبير عن الرغبة في التغيير، وفي البحث عن بدائل لِنُظُم الحُكْم التي بَدَا أنها لم تَرْقَ لطموحات هؤلاء، أو لأحلامهم.
ليس من الضروري أن يعمل المثقف على الانخراط المباشر في هذا الحِرَاك، أو إعلان موقفه من خلال كتابةِ بيانات، أو التظاهُر، بشكل مباشر في الشارع العام، رغم أنَّ مثل هذه الأمور، هي إحدى آليات الضغط والنضال من أجل تحقيق المطالب، وكثيراً ما خرج المثقفون للشارع، ووقَّعُوا البيانات الاحتجاجية والمَطْلَبِيَة، مثلما حدث في فرنسا إبَّان الثورة الطلابية في العام 1968، التي شارك فيها كبار المثقفين الفرنسيين، وأساتذة الجامعات، من أمثال جان بول سارتر ومشيل فوكو. فكِتَابات المثقفين والمبدعين والفنانين، هي إحدى أقوى التعبيرات عن رفض ما يجري، ونقد نُظُم الحكم والتفكير. ففي كثير من الأعمال التي شهدت على هذه المرحلة، يمكن تَلَمُّس دور ‘النص’ في فضح الواقع، وفي الكشف عن مختلف الاختلالات التي ساهمت في ما عرفته أنظمة الحُكْم من نكوصٍ، قياساً بالشِّعارات التي حَمَلَتْها، في بداية استلائها على السلطة.
بالعودة إلى المرحلة الناصرية، وإلى ما حدث من ثوراتٍ خلال هذه المرحلة التاريخية، في عدد من البلدان العربية، يمكن إدراك طبيعة التَّوَتُّرات التي نشأت بين المثقفين وبين هذه الأنظمة التي اعتبرها عدد من المثقفين، إن لم يكن أغلبُهم، بداية تحقيق حُلُم التغيير. لم يتوقَّع هؤلاء أنَّ سجون هذه ‘الثورات’، ستصير إقامات دائمةٍ، أو شبه دائمة، لهم، وأنهم سيصيرون العدو رقم واحد لهذه ‘الثورات’، وأنَّ أفكارهم وكتاباتهم، غير مرغوبٍ فيها، وأنها تحمل أفكاراً فيها خطر على ‘أمن الدولة’!، وعلى استقرارها، إن لم تكن مؤامرةً تَتِمُّ بأمر من جهاتٍ خارجية.
ليس من المعقول، اعتبار المثقف خارجَ ما يجري، أو هو في مَنْأًى عن التغيير، أو الثورة. ففي قراءتنا لكتابات هؤلاء، أو لأغلبهم، ممن ظلُّوا حريصين على الحرية في التفكير، وفي إعلان المواقف واتِّخَاذ القرارات، وأعني، تحديداً، أصحاب الفكر الحُر، سنجد هذا التحريض على الثورة وعلى التغيير، لكن ليس بلغة الشعارات التي يحملها المتظاهرون في الشوارع. فلغة الفكر والإبداع، هي بناء يحتاج إلى تفكير بعيد وعميق، وإلى قراءة مُتَأَنِّيَةٍ لِما يجري من أحداث ووقائع. فليس الفكر أو الإبداع، كتابة آنِيَة، تنتهي بانتهاء الحدث، بقدر ما هي رؤية، وأفق، أو هي، بالأحرى، ثورة في كل شيء، أو ثورة راديكالية، لا تسعى فقط، لتغيير نظام الحُكم، لأنَّ المثقف ينظر إلى ما هو أبعد من هذا، لأنَّ عَيْنَه تذهبُ إلى نظام الفكر، أو التفكير الذي إذا لم يَتِمَّ تغييره، فإنَّه، سيُعِيد إنتاج نفس البنية.
فحين يكتب المفكر، أو الشاعر أو الروائي أو المسرحي، وحين يعمل الفنان على التعبير باللَّون أو بالجسد أو بالصورة، فهو يستحضر كل ممكنات اللغة واللون والجسد والصورة، لوضع الواقع في مُفْتَرَق الجِراح، ما يجعل من الكتابة، بآليات التعبير الفلسفي والجمالي، تكون أكثر تأثيراً، وأكثر بقاءً، مما يَحْدُثُ في لغة الشعارات المباشرة، لأنها، في جوهرها، هي ذات وظيفة آنية، وهي تنتهي، أو تتغيَّر، بمجرد تَحَقُّق المطالب، أو تظهر مشكلات أخرى طارئة، لم تكن موجودةً من قبل.
في ما كتبه عبدالله العروي، وفي ما كتبه محمد عابد الجابري، وفي ما كتبه عبد الكبير الخطيبي، وما يكتبه عبدالله الحمودي، وغيرهم من المشتغلين في مختلف حقول المعرفة المختلفة، وفي ما نقرأه في الشعر المغربي المعاصر، بشكل خاص، وأعني بداية من نهاية الخمسينيات إلى اليوم، وفي ما نقرأه في القصة والرواية المغربيين، وفي الأعمال الفكرية والإبداعية العربية، قبل قيام الثورات العربية الجارية اليوم في عدد من البلدان العربية، نجد هذه الفكر الثوري حاضراً، ونجد اسْتِباقاً لهذه الثورات، أو هَجْساً بها، ليس فقط، عند الشيوخ ممن تَمَرَّسْنا على قراءتهم، بل إنَّنا نعثر على هذا الاستباق عند كُتَّابٍ شُبابٍ، لم يكتفوا بالثورة على ما يجري، بل كانوا حريصين على افتراض ما يمكن أن تؤول إليه الأمور، في ما بعد الثورة.
أن نقرأ في روايةٍ لكاتب مصري: ‘نستحقُّ رئيساً طيباً وحبيةَ طيبةً وطعاماً طيباً وشراباً طيباً’، فهذا في تصوري، تعبير خاطفٌ، لكنه مثل شرخ يحدث في واجهة بناء شامخٍ، يكشف هشاشة البناء كاملاً. فليس الرئيس الطيب إلاَّ نظام الحُكْم الذي يُحقق العدالة الاجتماعية، ويصون كرامة المواطن، في أن يكون له عمل وسَكَنٌ، ليكون مواطناً له رغباتُه، التي لا يقهرها البؤس والبطالةُ.
فالعُمْق الذي يتكلم به هذا المقطع، في بساطته ووضوحه، يختزل كل ما من أجله خرج الشباب اليوم إلى الشوارع، دون تكرارٍ، أو إطنابٍ، لأنَّ الكاتب، وهو يُسَمِّي روايتَه ‘بمناسبة الحياة’، يضع يَدَهُ على عطب الحياة الحقيقي، ليس في مصر وحدها، بل في مجموع بلدان العالم العربي، الذي راهن حُكَّامُها، بدعم من الخارج، على الحلول الأمنية للمشاكل، بدل أن ينصاعوا ‘لإرادة الحياة ‘، بتعبير الشابي، أو لصيانة كرامة الشعوب التي لم يُعِروها أدنى انتباهٍ.
يختزل محمد توفيق، قلق المثقف العربي، رغم ما يمكن أن يتحقق من ثوراتٍ أو مكاسب، في أسئلته المتواترة عن مصير الثورة، أو عن مكتسباتها، في مرحلة ما بعد الثورة، حين يطرح بطريقةٍ سقراطية، أسئلته على الشكل الآتي:
‘ وكثيراً ما تساءلتُ هل كانت ثورتُنا ثورةً حقيقيةً؟ هل كانت محاولةً صادقةً لتغيير الواقع، لتغيير أنفسنا؟ أم أنها لم تكن يوماً أكثر من تنفيس؟ ‘.
هذا ما لا تستطيع تذهبُ إليه الشعارات، وما لا يستطيع الذَّهابَ إليه إلاَّ المبدع الذي لا ينظر للواقع في سطحيته، وفي تفاصيله الصغيرة، فهو يرتفع بهذه التفاصيل، وبهذه السطحية، إلى المعاني الثَّاوِيَة خلفها، إلى ما يمكن أن تُخْفيه من إشاراتٍ، ومن دلالاتٍ. فرؤية المثقف، هي اسْتِشْرَافٌ، وهو نوعٌ من الحَدْسِ بما ستؤول إليه الأشياء.
أليس في هذا المقطع، بالذات، نقرأ، ما تعيشه الثورتان التونسية والمصرية، باعتبارهما أُنْجِزَتا، من تَوتُّرٍ وقلقٍ، وما تعيشانه من تحدياتٍ، في مواجهة الواقع الجديد، وما جَرَّتْهُ الثورة معها من مظاهر جديدة ؟ أليس هذا القلق والتوتُّر، هما أحَدَا هواجس الثورات التي تسعى لتغيير كل شيء، وليس فقط، لترميم بعض الشُّروخ، أو التَّكَسُّرات، أو كما في المقطع، أعلاه؛ ‘هل كانت [الثورة] محاولة صادقة لتغيير الواقع، لتغيير أنفسنا؟’. ليس الواقع هو آخر المطاف، فـ ‘النفس’، هي المشكلة الكبيرة التي تشغل المثقف، وهي من مهامه، في الدرجة الأولى، أو إحدى أولويات عمله، في ما يكتبه، أو يعمل على تكريسه من أفكار، تعيد ترتيب الأولويات، كما تعيد بناء العقول، والتأسيس لفكر جديد، أي لإنسانٍ جديد، لا يعرف معنًى للخوف، أو للتنازل عن حقه في ‘الحياة’، أو بمناسبتها.
الذين يذهبون إلى اعتبار الثقافة غير ذات جدوى، بما تمثله من فكر وشعر وأشكال كتابية مختلفة، فهم يجهلون معنى أن يبقى الفكر الإنساني مُتَشَبِّثاً بأفكار سقراط، وأن يبقى المتنبي حاضراً معنا، في زمننا، وأيضاً الشابي، وأعني الشِّعر عموماً، الذي لا يمكن تبخيس وُجُوده في المعنى الرومانسي، دون غيره. فهؤلاء وغيرهم، هم الذين نستعيرهم، لا لينوبوا عَنَّا في تحليل الواقع، أو في قراءته، فهم حاضرون معنا، لأنهم ذهبوا إلى المستقبل، في ما كتبوه، أي قَدِمُوا إلينا، من ماضيهم، وحين قرأناهم، لم نقرأهم كماضٍ ثابتٍ لا يتحرَّك، بل قرأناهُم باعتبارهم مُسْتَقْبلاً، هو المستقبل نفسه الذي نحن اليوم نعمل على وضعه أمامنا، حتى لا نعيد إنتاج نفس الوضع الذي تجري الثورات اليوم لرفضه، ولإسقاط رموزه، أو آليات نُظُمِه.
المثقف، بهذا المعنى، حاضرٌ، وحضوره هو ما يعمل على إنتاجه من أفكار، وما يعمل على خلقه من أفكارٍ، لا يمكن للمجتمع أن يتأسَّس بالمعنى الثوري، أو الجذري، دون وجودها.
فالمثقف، يعيش قلق الثورة والتغيير قبل وبعد الثورة، لأنه يُدْرِك، بفكره وتجربته، وبحدسه، أيضاً، طبيعة الأخطار التي يمكنها أن تُهَدِّدَ استمرار هذه الثورة وهذا التغيير.
لا يمكن، وفق هذا المنظور، أن نعتبر الشِّعر والرواية والمسرح والسينما والرسم، والتعبيرات الجسدية المختلفة، غير ذات جدوى، أو أنها تحدث خارج سياق الثورات. إنها هي روح هذه الثورات، وهي النِّداء الذي لا يفتأ يتردَّد في ما يكتبه هؤلاء، أو يعبرون عنه، وهم في تعبيراتهم الفنية هذه، يذهبون إلى المستقبل، لأنَّ الرهان على الحاضر وحده، هو رهان على ما هو زائل وما يقبل الانطفاء. فلحظة الوهج والاشتعال، هي ما نضعه أمامنا، وما يكون هو أفق الرؤية، أو هو الرؤيا، بما تعنيه من ذهاب إلى ما هو آتٍ، بكل ما يحتمله من توتراتٍ وقلق، وهذا هو هاجس المثقف، باعتباره حارس الثورات، والمنشغل، دائماً، بالتغيير، إيماناً بمعنى
القدس العربي