النأي بالنفس عن جبهة النصرة/ علا عباس
أعطت روسيا مهلة أيامٍ للفصائل المقاتلة في الشمال السوري لتكمل “نأيها” بنفسها عن جبهة النصرة، وأجّلت العملية العسكرية التي أعلنت عنها، وكانت ستبدأ في الخامس والعشرين من مايو/ أيار الجاري، لكي تمنح الفرصة لهذه الفصائل، لتقوم بما عليها القيام به، لكي تتجنب قصف الطائرات الروسية. وبعرضها هذا، تكون القوات الروسية قد صارت جزءاً طبيعياً من المنظومة الأمنية السورية، فهي قالت، علناً، إن العملية تستهدف جبهة النصرة المصنفة إرهابيةً، بحسب قرار مجلس الامن، وبحسب التوافق الروسي الأميركي، وأن الفصائل الأخرى المتحالفة مع “النصرة” ليست هدفاً لعمليتها ما لم تعتبر نفسها إرهابية، وهذا يكون باستمرار التحالف بينها وبين “النصرة”، لكن الروس وضعوا لتحقيق ذلك شرطين بسيطين: أن تزود هذه الفصائل القوات الروسية (أي النظام السوري كذلك) بمعلومات كافية عنها، وعن أماكن وجودها، وأن تتوقف تماماً عن القيام بأي عملياتٍ أو قصف باتجاه مناطق النظام.
ولاكتمال فهم هذا العرض، يكفي أن نستذكر أن روسيا فشلت، قبل أيام، في تمرير قرار في مجلس الأمن يضيف فصيلين معارضين سوريين إلى قائمة التنظيمات المصنفة إرهابية، جيش الإسلام وأحرار الشام، وهي كانت سابقاً قد أجرت محاولاتٍ مشابهة لضم فصائل أخرى، تكاد تكون كل من يعارض النظام السوري، باستثناء أولئك المقيمين في موسكو، أو في قاعدة حميميم الجوية في الساحل السوري.
إذاً، يمكن أن نصوغ ملخص العرض بلغة بسيطةٍ تناسب عقولنا: سنقصفكم، يمكن ألا نقصفكم، بشرط أن تنفذوا بأنفسكم أقصى ما يمكن لنا أن نحققه إذا ما قصفناكم. وقد قالت وزارة الدفاع الروسية إنها تلقت عشرات الرسائل من فصائل مقاتلة في الشمال والجنوب، توافق على الشروط الروسية، وتطلب تأجيل العملية الجوية، ريثما تكمل النأي بنفسها عن جبهة النصرة.
وعبارة إكمال النأي بالنفس تحتاج وقفة طويلة، فهي، للوهلة الأولى، تبدو حقيقيةً وممكنة، وقابلة للتمرير، لكن التوقف عنها قليلاً يُفقدها كل معانيها، فمعنى إكمال النأي بالنفس عن جبهة النصرة، تعني أن هناك نأياً بدأ وتبقى إكماله، وهذا، بحد ذاته، موضوعٌ يحتاج لبحث وتمحيص ومراجعة، ويحمل أسئلة كثيرة، من قبيل، من نأي عن من؟، ومتى بدأ؟ وإلى أين وصل؟ وكيف له أن يتم؟ ولكن، قبل ذلك كله، يجب التوافق على معنى عبارة النأي بالنفس بحد ذاتها، وهل هي ممكنة؟ وما هو شكل التحالف الذي كان قائماً حتى يمكن التراجع عنه؟
أساس التحالف بين جبهة النصرة وفصائل مقاتلة اخرى في سورية، لا سيما في ريفي حلب وإدلب، هو تحالف عقائدي، عميق، فيه نقاط التقاء عميقةٍ تتعلق بشكل الدولة المقبولة، وشكل الحكم، وفي العلاقة بين البشر والدولة. هو تحالف يقوم على إيمانٍ مطلق بتحكيم الشرع، ورفض القوانين والدساتير الوضعية، والفصيل الذي تحالف، في لحظةٍ ما، مع جبهة النصرة، لم يتحالف معها لأن ظروف المعركة كانت تقتضي ذلك، بل لأنه يلتقي معها على النقاط الأساسية، ومن لم يقبل ذلك فقد تلاشى تماماً، وذاب مقاتلوه أو من تبقى منهم في فصائل جديدة أو في جبهة النصرة نفسها، كما أن الجبهة نفسها لم تكن لتقبل التحالف مع فصيلٍ يقاتل، لأنه يريد دولةً مدنية مثلاً، أو ينتظر إجراء انتخاباتٍ كتعبير ديمقراطي.
إذاً، القصة فيها جانب مريب، أو تلاعبٌ بالألفاظ من الروس على أقل تقدير، ونحن أمام ثلاثة احتمالات لتفسير ما يجري:
إما أن للروس (والنظام ذلك) عملاء على شكل تنظيمات إسلامية متشدّدة، وليس على شكل أفراد، وقد حان أوان تحييدهم وانتهت مهمتهم، أو أن الروس يريدون تقسيم عمليتهم على دفعتين لأسباب لوجستية، فلجأوا إلى هذه الخدعة التي ستسمح لهم أن يواجهوا “النصرة” وحدها في هذه المرحلة، ثم يتفرغوا لقتال باقي الفصائل، وبذريعةٍ تأتي في وقتها، وتحدث التصعيد المطلوب. والاحتمال الثالث، أنها تخادعهم منذ الآن، وتجرّهم تحت التهديد، ليزودوها بكل المعلومات التي تحتاجها عنهم، لتستخدمها عسكرياً واستخباراتياً للقضاء عليهم فيما بعد، فهي، باتفاقها معهم، تقول إن عليهم بتزويدها بأماكن وجودهم ووجود مقاتليهم ومستودعاتهم ومراكز إمدادهم، لكي تتجنبهم في أثناء قصفها “النصرة”، وهي حين ستمتلك المعلومات، فلها أن تستخدمها في التجنب أو في القصف المركّز.
العربي الجديد