صفحات الناس

النازح السوري/ محمود بري

 

 

بدلاً من قانون انتخاب “عصري” أكثر الرسميون من التشدّق به، وبدلاً من العمل الجاد على حلحلة مشاكل فوضى البيع والشراء وبالتالي أزمة الغلاء المتفلّت (بيروت ثاني أغلى مدينة في الشرق الأوسط، وأغلى من دُبي)، وبدلاً من السعي إلى “حلحلة” أزمات البطالة والسكن من خلال بعض الاهتمام بتدبّر أعمال للخرّيجين ومساكن للباحثين عن سقف، أو بذل الجهد، أيّ جهد كان، لمعالجة الإلتهابات المذهبية التي تهدد البلد بانفجار لا يبقي ولا يذر… بدلاً من كلّ ذلك، وكلّه مطلوب وضروري، فإن دولة ما بعد الطائف تقدّم للمواطن اللبناني الذي لم يتمكن بعد من الهجرة بعيداً، قنبلة موقوتة جديدة ومدمرة إسمها: النازحون السوريون.

لا. النازح ليس هو المشكلة بحد ذاته، لكن البلد السائب يعلّم المواطن والنازح الحرام . في البداية، عالجت الدولة مشكلة النزوح بسياسة “التعامي والتجاهل باعتبار أن النازحين هم بضعة آلاف وسيمكثون في لبنان لبضعة أشهر، لكننا صرنا الآن أمام بضعة ملايين ولسنوات عدة”… والحال أن “لبنان لا يستطيع، وهو البلد الأضعف والأصغر والأكثر كثافة سكانية، ان يتحمل مثل هذا العبء”.. واليوم فإن “استضافة لبنان للنازحين السوريين فاقت قدرته على الاستيعاب في ظل غياب مساعدات فعلية لدعم المجتمع الذي يستقبل هؤلاء النازحين”… فضلاً عن أن “المنظمات الدولية تتعامل مع لبنان على انه مستودع للنازحين”.

هذا الكلام السليط لم يصدر عن عنصري أو متعصّب، بل قاله رجل موزون وأعرف الجميع بهذا الشأن، هو وزير الشؤون الاجتماعية الحالي رشيد درباس. ولكي لا يعتب على معاليه أحد من زملائه، أضاف: “…الأجهزة الأمنية اللبنانية غائبة عمّا يجري، ولا تقدّم إلى المعنيين معطيات كافية حول موضوع اللاجئين، ليشعر المسؤولون بالخطر الحقيقي القادم”.

هذه هي المشكلة إذاً. المخبرون لا يخبرون، والمسؤولون لا يسألون. وبهذا تكتمل أبرز معالم القنبلة الموقوتة التي رمتها الدولة بين يدي مواطنها المغلوب على أمره. وإذا أُضيف إلى ذلك محدودية تفكير السواد الأعظم من الشعب (الشعوب اللبنانية)، وضيق سُبل العيش والحياة أمام العموم، يمكن فهم سرّ الضغوط المعيشية والسكانية والاقتصادية والاجتماعية التي تجري ترجمتها توتراً في سبيله إلى التصاعد بين “النازح والمضيف”، على خلفية المنافسة على كل شيء، من سوق العمل إلى زاوية الطريق، وما يستتبع ذلك من خلخلة للمستوى المتدنّي أصلاً للأمن الغذائي، وزيادة الطلب بشكل كبير على السلع الأساس وهي الماء والكهرباء والطحين… ثم يأتي تزايد الأعمال الإجرامية وتضخّم المخاوف الأمنية (وهنا ليس أسهل على اللبناني من تحميل مسؤولية كل ذلك للآخرين، وهو الذي أطلق على حرب الـ 75 لقب : حرب الآخرين على الأرض اللبنانية ).

وسط هذه الظروف التي لا يعوزها مزيد من التعقيد، تخرج إبنة الرئيس الأسبق كميل شمعون، ترايسي، لتتحدث باسم حزبها (الديمقراطيون الأحرار)، عن “وجوب إيجاد حل لمشكلة النازحين السوريين الذين فاق عددهم المليون ونصف المليون نسمة، والذين يشكلون قنبلة أمنية لا أحد يعرف متى ستنفجر وكم ستكون كلفتها”.

الخطورة هنا ليست في كلام السيدة بحدّ ذاته؛ فهو قديم ويتكرر على غير شفة ولسان، بل بمغزاه المباشر إذ يكرّس شعوراً مستجداً بالخوف يجتاح الأقلية المسيحية. وعلى الرغم من أن جميع من تسميهم اللغة الدستورية “العائلات الروحية” في لبنان، هم أقليات، إلا أن غير المسيحيين منهم وجدوا من “يُكثرهم” في أحد المحيطين الخليجي أو الإيراني، في حين تخلّت “الأم الحنون” عن أبنائها المسيحيين في المشرق، وترك الغرب لنكبتهم في العراق أن توضح لهم “خريطة الطريق” الجاهزة لهم. وهذا كلّه بات يرتدّ، بطريقة أو بأخرى، على النازح السوري إياه. كذلك فالوضع المتأزم حياله أساساً، تفاقم بعد أحداث عرسال، ورفعت بعض المناطق الصوت معبّرة عن خشيتها أن يتكرر عندها ما حصل في مدينة الحجر. الأخبار الخارجة من منطقة البترون مثلاً بهذا الخصوص، تقدّم الدليل على توسع بقعة الزيت السام، وها هي المواكب السيارة التابعة للحركة التصحيحية للقوات اللبنانية، جابت وتجوب مناطق الفرزل وزحلة تحت عنوان “التوعية على الخطر الداهم وشدّ العصب المسيحي في المنطقة”، بينما يرقص مجتمع مرعوب على أهازيج التسلّح والأمن الذاتي وما إلى ذلك. ولئن كانت هذه الحركات تتوجه نظرياً ضدّ “داعش”، لكنها وفي نسخة الترجمة اللبنانية، تتجه عملياً ضد النازح السوري الذي بات “متهماً إلى أن تثبت براءته”.

لا نعرف ولا أحد يعرف بالضبط ما يمكن لهذا كلّه أن يؤدي إليه. لكن من الواضح أن ثمّة مشكلة كبيرة بحاجة ماسة إلى تفكيك عقدها ما أمكن، قبل أن تنفجر بالجميع. ولا تطمين مؤكداً في هذا الخصوص حيث الدولة منشغلة بأمور “أدسم” من نوع المليارات والسمسرات. الأمر الوحيد الذي نحن على يقين منه هو أن رجال الدولة لن يغيّروا سياسة “حطّ بالخرج” التي يعتمدونها. لذا فالمؤكد أن كيس الفحم لن يُخرج غُباراً أبيض.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى