النخبة السورية جمعتها الفكرة الشمولية: في تاريخ المعارضة السورية وحاضرها
كمال اللبواني
منذ انقلاب آذار العسكري الذي جاء بمجموعة من الضباط إلى السلطة وأطاح بالنظام الديمقراطي الهش القائم بعد الانفصال عن مصر. ومنذ اندلاع الصراع العسكري بين أجنحته .. ادعت المجموعة المتبقية في السلطة أنها تمثل حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي سبق أن انحل وأوقف نشاطه تماما منذ انشاء الوحدة. وقام المجلس العسكري الحزبي الحاكم بتعطيل الحياة السياسية عامة في كل البلاد (وأعاد تركيب حزب البعث كحزب سلطة على هواه) .. وبقيت في مواجهته فقط ثلاث مجموعات حزبية ضعيفة تحاول إيجاد مكان لها في عالم السلطة، هي الشيوعية معتمدة على الدعم السوفييتي، والقومية معتمدة على الدعم المصري والعراقي من بعده، والدينية معتمدة على الدعم الخليجي والغربي، وغابت تماما الأحزاب الليبرالية والديمقراطية في عصر الانقلابات والأنظمة الشمولية، ولم تكن معارضة هؤلاء (الثلاثة) لنظام الحكم بسبب غياب الديموقرطية أو من أجلها، بل بالعكس كان صراعا من أجل ملكية السلطة الاستبدادية، وقيادة المجتمع بواسطتها نحو الهدف الآيديولوجي أو الميثولوجي المرفوع على الشعارات، التي هي أهم من الحريات والديمقراطية المزعومة ..
لقد كانت النخبة السياسية بفروعها الثلاثة شمولية ديكتاتورية البنية والأيديولوجيا، وكانت تعبر عن تمايزات شريحة واحدة من طبقة واحدة هي شريحة المثقفين من البرجوازية الصغيرة، التي تستمد تميزها وشرعيتها من ثقافتها وتعليمها وتعبر صراعاتها العنيفة فيما بينها ونخبويتها تجاه الجماهير، عن رغبتها العارمة في احتكار السلطة بأي ثمن، وعن ارادتها دفع المجتمع نحو تنفيذ مشروعها الذي ترى ضرورة تطبيقه بكل الوسائل حتى العنيفة منها والقمعية .. ولم تكن تقيم أي اعتبار لحرية الفرد أو لرأيه أو لدوره كفرد إلا إذا كان قائدا ملهما يمثلها ويحقق لها مصالحها ويشبع نزواتها .. ففي النهاية ووراء كل ايديولوجيا هناك مصالح فردية وذاتية يجب أن تتحقق، من دونها لن يكون هناك معنى للعمل تحت لوائها .. ومهما كبر الريش المنفوش حولها لا بد من قراءة أية أيديولوجيا بنوعية العاملين تحتحها ونوعية مصالحهم التي تحركهم فعلا.
ومع أنه في نهاية السبعينيات ظهرت للعلن أصوات تذكر بالديمقراطية المفقودة، لكنها لم تهيمن على الرأي العام السياسي، الذي بقي طابعه شموليا، حتى ما بعد سقوط شاوشسكو والتغيرات في الدول الشرقية نهاية الثمانينيات .. ولم تظهر الحركة الديمقراطية بشكلها الصريح والواضــــح إلا مع ربيع دمشق 2000 ـ 2001 حيث ظهرت أنماط جديدة من التنظـــــيم والحــــراك السياسي ومبادئ ومعايير مختلفة عما سبقها .. وسرعان ما انخرط في الحراك الجديد عناصر وخريجو المرحلة السابقة، بما يحملون من تجربة نضالية وذهنيات ووسائل اعتادوا عليها..
لقد عملت السلطة دائما على تقسيم وتدمير واحتواء المعارضة، أو تصنيع معارضة مزيفة تنازع المعارضة الحقيقية وتشوهها .. واستمر الصراع ضد تدخلات الأمن وأزلامهم السريين الذين جاؤوا من كل حدب وصوب ليندسوا في صفوف الجماعات الصغيرة، التي بقيت تحافظ على شعلة المعارضة الوطنية الديمقراطية مضيئة لدرب الحرية والكرامة والحقوق، الذي سيسير عليه الشعب بعد حين … والكثير من صراعات اليوم هو استمرار لمرحلة طويلة من التنافس الهدام، وعدم الثقة الذي كان وراءه على الأغلب تدخلات الأمن، ومحاولاتهم المستمرة دس عناصر مرتبطة بهم لتشوه العمل .. فهم كانوا يستعملون كل أساليب الترهيب والترغيب لشراء تعاون البعض، وقد نجحوا في تدمير أو تعطيل معظم المنظمات المعارضة، لكن المعارضين المنقطعين عن النظام، رغم الثمن الباهظ الذي دفعوه في السجون، نجحوا أيضا في منع قيام منظمات (معارضة) مزيفة مرتبطة بأفرع المخابرات، أو على الاقل فضحها وكشف سرها وتورطها وبالتالي فشلها .. والكثير ممن يتنطحون لركوب موجة المعارضة اليوم، أو لقيادتها، كانوا في يوم ما من أزلام الأمن وكتبة تقاريره .. أو ممن كانوا يزورون ويحاورون ويحترمون الخطوط الحمراء والخضراء للنظام، وأحيانا يحفرون الحفر لزملائهم .. ف (المعارضة) اليوم بالنسبة لهم هي مجرد فرصة للظهور وصناعة اسم، واختلاق أمجاد وتحقيق منافع، وليست التزاما حقيقيا، ورغبة في العطاء، ومشاركة في التضحية لصالح الآخرين.
كان المطلوب في تلك المرحلة، محاولة تجذير الممارسة الديمقراطية في التنظيمات المدنية والسياسية الجديدة، واعادة استنبات قيمها والحذر من تسلل الشمولية إليها من جديد .. خاصة بعد اغراق الحراك الديمقراطي برموز النضال الشمولي الشيوعي والقومي والديني .. وبعد اعتقال نخبة من نشطاء الربيع وتهديد الآخرين تضاءلت سوية الحراك الديمقراطية .. حتى ظهور وثيقة اعلان دمشق التي كانت حصيلة نتاج الربيع، وخيمة ديمقراطية توحدت المعارضة تحتها، وبرنامجا محليا داخليا للتغيير الديمقراطي تم الإجماع عليه .. لكن اعلان دمشق ذاته وبعد اعتقال الليبراليين من قادته، وقع هو أيضا تحت هيمنة الشموليين من جديد فحولوا الورقة لحزب مصمم على الطريقة الستالينية المعروفة.. ونشبت الخلافات بين التيار القومي والشيوعي. ولما اعتقلت السلطات الليبراليين البارزين فقط من قادة اعلان دمشق، بقي الاتجاه الشيوعي لوحده يقوم بتحويل اعلان دمشق لحزب من جديد، ويرث سمعته واحترامه.. وسرعان ما أقام تحالفه السري مع اسلاميي الخارج، بهدف احتكار قيادة المعارضة وتمثيلها، بعد إقصاء القوميين عنها الذين تقربوا من النظام أكثر فأكثر، في الوقت الذي أمضى به الليبراليون جل وقتهم بالسجن المتكرر .. والذين خرجوا منهم وجدوا أنفسهم مجبرين مبعدين عن العمل السياسي، بعد أن سرقت ورشاتهم، وبعد أن احتلت مقاعدهم واستولي على تاريخهم.
وبعد اندلاع الثورات العربية وقف القوميون والشوعيون والاسلاميون متفرجين عليها ومترددين في المشاركة فيها، بل تابعوا محاولات التفاوض مع النظام من أجل سرقة المكاسب السريعة، في حين أن الليبراليين كانوا في صميم الحراك الشعبي في كل مستوى وصعيد، ومنذ الأيام الأولى احتلوا ساحات الاعلام وكانت رؤاهم وبرامجمهم واضحة ومقنعة وملهمة للجماهير .. وشكلوا الجيش التنظيم والاعلامي المحرك والمزود للشارع بالشعارات والتكتيكات .. وطغت الصفة الليبرالية على الثورة في بدايتها كثورة حرية وكرامة وديمقراطية وحقوق للفرد واحترام للإنسان ذاته من دون أيديولوجيا .. وليست كثورة ايديولوجية ولا دينية ولا طائفية ولا حتى طبقية .. وتحرك التحالف الشمولي القديم لافشال أي عملية لتشكيل قيادة ثورية تعبر عن هذا الحراك، ثم أعلنوا في الخارج عن مجلسهم المدعوم من دول كثيرة والذي تكون أساسا على تحالف الشيوعيين في الداخل والاسلاميين في الخارج في حين، استبعد عنه القوميون الذين شكلوا جناحهم المستقل بالقرب من النظام .. واستمر الليبراليون مجبرين على التوزع بين كلا التيارين، وظلوا مستبعدين عن ساحة الفعل والقرار في كليهما .. وما يزال المطروح عليهم فقط أن يدخلوا إلى تمثيل الثورة من تحت عباءة الشموليين اليساريين والاسلاميين والقوميين .. أو أن يقبلوا بالفتات من الحصص والمنافع والسيادة في قيادة الثورة وتمثيل الشعب. ومنهم من قبل ومنهم من تمرد .. وكذا حال السلفيين الذين هم أيضا استبعدوا من تمثيل الثورة. لكن السلفيين لا يطرحوا أنفسهم كبرامج أو أحزاب سياسية. وهي ميزة عندهم.
نحن لا نرى أن الديمقراطية سوف تأتي من هؤلاء؟ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يمكن لأي حزب سياسي أن يغير أيديولوجيته جذريا ويبقى كما هو، فهذا يعني أنه ليس حزبا سياسيا، بل جماعة متضامنة تستخدم أي غطاء سياسي مناسب لمصالحها كجماعة .. وبالتالي لا يمكن الثقة بوعودها ولا بوثائقها .. ولا بتعهداتها، خاصة إذا ثبتت محاولتها المستميتة لاحتكار الدعم والسلاح .. والتمثيل ..
لقد بقي الحراك الثوري السلمي في الداخل يرفض التلوينات الأيديولوجية وينظم نفسه جغرافيا، ويصر على ضرورة بناء الديمقراطية أولا، ودولة الحق والقانون التي تستوعب الحياة السياسية الحزبية وتنظمها .. وبقيت الآحزاب الشمولية كما كانت، نخبوية بعيدة عن الشارع وعاجزة عن الاصغاء اليه والاهتمام بمطالبه، ومنغمسة في طموحاتها وشخصنتها … وحاولت شراء الشعبية والولاء بواسطة احتكارها للدعم ثم للعمل المسلح .. ولكنها فشلت، كما فشلت كل محاولات التقاسم والمشاركة فيما بينها (أي ما سمي عملية توحيد المعارضة).
لكن المعارضة الحقيقية هي 20 مليون ثائر على الأرض يسطرون أرفع صور البطولة والتضحية، وهم موحدون …. تكفي هجمات الشبيحة لتوحدهم …. ولهم كل الحق بتمثيل أنفسهم، وهم كل يوم في الشارع يتظاهرون ويعبرون ويصوتون ويموتون .. وهم وحدهم من يستحق أن يختار ممثليه في الخارج أو مندوبيه للعمل التنفيذي .. ولا يجوز لنا السكوت على هذه الخديعة القديمة الحديثة، ولا عن سرقة تمثيل الشعب من قبل شخصيات ومجموعات تعيد إنتاج وسائل وقيم الاستبداد الشمولي، وإن ارتدت الرداء الديمقراطي وصعدت على ظهر الثورة ..
لقد تسرع الشعب السوري بتفويضهم، تحت وهم أن الناتو يحتاج لأي مجلس، ولم يراقب ولم يحاسب وبقي ينتظر وينتظر حتى خاب أمله في المعارضة الخارجية، التي ما كان لها أن تجتمع على هذه الطريقة لولا التمويل والدعم. والتي تموت مباشرة اذا انقطع عنها .. فالكثيرون يخافون الحرية، ويخافون الشعب السوري إذا تحرر. لذلك يعملون ليل نهار لكي يبقى تحت هيمنة من يستطيع لجمه وتقييده من الشموليين.
لقد ثار الشعب السوري لكي ينتهي من الاستبداد والتخلف الذي عشش قرونا، ومن أجل حياة حرة كريمة، وليس ليستبدل شخصاً بشخص، ومستبداً بآخر، ولم يثر من أجل فرض عقيدة والغاء أخرى ولا مذهب ولا طائفة، ثار من أجل الحرية والعدالة ودولة الحق والقانون والمحاسبة والنزاهة .. ثار لكي يصنع مستقبلا يليق به كشعب وأمة وحضارة وتاريخ ودين. وعندما تعرض للقتل لجأ إلى الله لكي يعطيه القوة ويتقبل شهداءه .. وهذا لا يغير أهداف الثورة ولا يعطي الشرعية للاسلام السياسي لكي يمثلها، فالذين يمزجون بين الدين والسياسة يريدون استخدام احترام الناس للدين من أجل تحقيق مكاسب سياسية وتحقيق أفضلية انتخابية على غيرهم. لكن شتان بين سلطة الدين التي يمارسها الضمير، وبين سلطة الدولة التي تمارسها الشرطة، وبين دور العقيدة ودور السياسة، فالخلط بينهما لن يحقق الفائدة لأي منهما ..
على الدوام كان المطلوب منا الحرب على جبهتين .. جبهة الأمن وعملائه .. وجبهة الموروث الشمولي وثقافة الاستبداد والفساد. التي زرعها النظام ودرسها وجعلها ثقافة للمجتمع، والجميع يحمل من أمراض هذا المجتمع وعيوبه .. ولا نستطيع الادعاء بعكس ذلك، رغم الثمن الكبير الذي دفعناه ثمنا لتحدينا لنظام القمع والكذب .. فالحرب هي على صعيد الذات أيضا، ومن أجل تحريرها وتطهيرها .. وهنا المعركة الأهم .. خاصة ضد الأنا المتخضمة التي تنمو عادة عند المثقف والقيادي، الذي لا يستمد قيادته من الجماهير .. أضف إلى ذلك عامل عدم وجود ثقافة العمل الجماعي والتكامل والعمل المؤسسي والشفافية .. وكل هذه العيوب سوف تتوضح وبقوة عندما تتشكل معارضة في الخارج بعيدة عن التهديد والقمع، وتحت تأثير سحر الظهور والسلطة والثروة .. كل هذه المغريات فجرت التنافس ورغبات التحطيم والاحتكار بين مجموعات النشطاء (المعارضة)، وانشغل الجميع بالمشاريع الشخصية وقسمة المنافع .. وشعر المراقب بمدى تهافت المعارضة أو من سمت نفسها زورا بذلك. وباءت وأتوقع أن تبوء كل محاولات توحيدها وتفعيلها بالفشل، لسبب بسيط هو أنها ليس لديها جماهير تنتجها وتحاسبها، وقد جاء قرار تسميتها من الخارج وهي تحتاج على الدوام لمباركته وبركته، بينما الشعب غائب عن عملية اختيار ممثلية وعن محاسبتهم .. فكل سياسي ينقطع عن مصدر شرعيته يتحول الى انتهازي وغاصب لارادة الناس ومتاجر في عذاباتهم .. وسوف يفشل في أداء أي دور بناء، في خدمة ثورة شريفة عظيمة كهذه، ترفض أن يقوم من ليس منها بقيادتها. وأنا كلي إيمان بأن هذا الشعب العظيم سيطيح بكل العقبات، وسيكون قادرا على انتاج قيادته وتجديد أدواته وتطويرها ..والمطلوب منا فقط أن ندعمه ونمكنه مما يريد لا أن نقطع عليه الطريق، ونلقي عليه الدروس.
البعض عبثا يحاول اصلاح وتفعيل وتوحيد نشطاء الخارج تحت امرة من يسمع منه ويطيعه (تحت شعار توحيد المعارضة)، ويتجاهل أن المطلوب هو سؤال الداخل .. فالثورة التي قامت على التواصل الافتراضي لا تعجز عن ايجاد الية تسمية يسمي بها مجالس المحافظات من يمثلهم في الخارج، أو أن توضع معايير لعضوية أي مجلس تمثيلي، أو حتى قواعد ديمقراطية لعمله، لكن البعض يريد مجلسا بلا معايير ولا منهج ولا مؤسسات ولا انتخابات ولا شفافية، ولا ينتبه لضرورة الفصل بين التمثيل وبين التنفيذ، حيث نحن بأمس الحاجة لحكومة منفى تنظم وتحتوي كل العمل بأنواعه الانسانية والاعلامية والاغاثية والعسكرية .. وبحاجة إلى من يراقب ويشرف ويحاسب .. كل تلك المعايير يضرب بها عرض الحائط ويطلبون من ( المعارضة ) التوحد على ماذا؟؟ على باطل وخديعة وفشل !!!.. وحصيلة عام أليست كافية للحكم ؟؟.. لا حول ولاقوة الا بالله.
‘ كاتب وناشط من سورية
القدس العربي