النخبة السورية والثورة.. إقدام وإحجام وأسئلة
هل ستواجه فور سقوط النظام عقلية قد لا تقل استبدادا عن البعث وآل الأسد؟
أفرزت الانتفاضة السورية معسكرين متضادّين داخل أروقة النخبة المثقفة على اختلاف حقول عملها، الأول مؤيد للثورة منذ انطلاقتها، معللا موقفه بأنها لحظة تاريخية للتغيير المنشود الذي طال انتظاره، ومن الطبيعي أن يكون تموضعه كمثقف في صفوف «الثورة»، يقيمها، ينقدها لتصويب مسارها من موقع المنحاز لها والمتطلع لإحداث تغيير شامل بعد عقود من الجمود السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي. والثاني مناهض لـ«الحراك»، متخوف ومشكك في مآلاته، حيث حسبما يعتقد لن ينتهي إلا بشكل آخر من الاستبداد بصورته الدينية، إن بالانتخاب، كما حصل في معظم الدول العربية التي شهدت انتفاضات أطاحت بديكتاتوريات، أو بالانقلاب لامتلاكهم أسباب القوة ناهيك عن «التوكيل اللاهوتي».
خلق هذا التضاد ما يشبه القطيعة الحادة بين المعسكرين، رغم أنهما لا يمثلان ثنائيات طائفية أو مذهبية أو عرقية متعارضة. فكلا المعسكرين لا يمثل كتلا ثقافية متجانسة، بل ويضم كل منهما عناصر تمثل جميع المكوّنات السابقة، وإن رجحت الكفة لصالح أحد هذه المكونات في كل حالة.
لكن اللافت اليوم أن أيا من هذين المعسكرين لم يتزحزح قيد أنملة عن أفكاره وما ترتب عليها من مواقف، رغم أن الثورة تنهي عامها الثاني والبلاد، ودخلت مرحلة «الكارثة المطلقة» على حد وصف الأمم المتحدة، عامان شهدا تأكل الطابع الشعبي الذي مد الحراك بكل ما يحتاجه، بعد أن استنزف كنتيجة لعسكرة الانتفاضة السلمية التي أُثخنت جراحا بأعتى الأسلحة قبل أن تلجأ لما توفر لها من سلاح لتتصدى به لجبروت الآلة الحربية للنظام.
* مثقفو الكلمة
* كثيرا ما عن لمتابعين ومهتمين في الشأن السوري التساؤل عن دور المثقف في الفضاء العام للثورة، وعن أثر النزعة الفردية التي تحكمهم في ظل نظام لم يكن قائما إلا على العزل وإلغاء دورهم. والأهم ماذا عن حجم التفاعل بين المثقفين والحراك الشعبي الذي امتاز بحيوية وديمومة رغم المد والجزر السياسي والتجاذبات الدولية التي أسهمت بتنامي العنف الطائفي والمذهبي بين مكونات الشعب السوري.
في واقع الأمر لم تكن مشاركة المثقفين السوريين في بداية الحراك الذي شهدته بلادهم محدودة كما هي عليه اليوم، لقد انخرط الكثير منهم في الحراك السلمي الميداني منذ البداية. اعتقل الكاتب جورج صبرا إثر مشاركته في عدد من المظاهرات، بل وفي تنظيمها، خلال الحراك الذي شهدته مدينة قطنا في ريف دمشق، كما اعتقل الكاتب نجاتي طيارة الذي يعد أحد أبرز منظمي الحراك المدني الذي شهدته ساحة الساعة في حمص 18-4-2011، والذي انتهى باعتقال ومقتل العشرات من المتظاهرين، كذلك الكاتب ياسين الحاج صالح والناشطة رزان زيتونة شاركا مرارا في المظاهرات داخل العاصمة دمشق وخارجها وحاولا نقدها وتصويبها كل من موقعه. أما الأكاديمي السوري برهان غليون فكان أحد مؤسسي «المجلس الوطني السوري» وترأسه لأكثر من دورتين، وكذلك ساهم المفكر والأكاديمي الدكتور صادق جلال العظم في تشكيل «الائتلاف الوطني السوري»، ووثّقت الكاتبة سمر يزبك ميدانيا لانتهاكات النظام في عدد كبير من المناطق السورية، لا سيما تلك التي شهدت ولا تزال تجاذبات طائفية، ما يعكس اندماج المثقفين من مختلف الشرائح والمكونات المجتمعية في الحراك الشعبي الذي شهدته البلاد بعد صمت استمر لأكثر من أربعين سنة.
لكن في المقابل هناك شريحة أعلنت وقوفها ضد الانتفاضة تحت عناوين ضرورة التصدي لـ«المؤامرة الخارجية» والحفاظ على وحدة البلد، ضمت السيناريست حسن م. يوسف والباحث نبيل فياض والإعلامي نبيل صالح والأديبة كوليت خوري والكاتب بسام القاضي.
وبين الفريقين استقبل فريق ثالث من المثقفين السوريين الحراك بمواقف فاترة أبرزها كان موقف الأكاديمي محمد جمال باروت الذي تساءل مرارا عن الأصول الاجتماعية للاحتجاجات الشعبية. وشاركه في هذا الفتور موقف الناقد محمد كامل الخطيب الذي أصدر مؤخرا كتاب «مائة عام من العذاب» تحدث فيه عن تحالف اليساريين والفلاحين والجيش وهو ما اختلف حوله كثيرون.
* فنانو الصوت والصورة
* أما على صعيد أهل الفن، فمع انطلاق الاحتجاجات في سوريا ضد نظام بشار الأسد أعلنت أسماء فنية كبيرة عن تأييدها ودعمها لهذا الحراك، كان من أبرزها المغني اليساري سميح شقير، صاحب الأغنية الأشهر في الثورة «يا حيف»، كذلك الفنانة أصالة والمغني وصفي المعصراني والموسيقار السوري الأميركي مالك جندلي الذي اعتدى مناصرو النظام على عائلته بالضرب في مدينة حمص، مسقط رأسه. وبينما كان الفنان فارس الحلو والفنانة فدوى سليمان من أوائل الذين شاركوا في المظاهرات الأولى، استشهد الموسيقي ربيع الغزي برصاص قوات النظام في إحدى المظاهرات داخل العاصمة دمشق.
في المقابل انحازت أصوات أخرى إلى رواية النظام في تصوير الحراك على أنه استكمال لنظرية المؤامرة واستهداف لوحدة سوريا الحصن الأخير في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، كان أبرز هؤلاء الفنان دريد لحام والمخرج نجدة انزور والممثلة سلاف فواخرجي، الذين أطلقوا مواقف علنية مناهضة للاحتجاجات. كذلك أحيا عدد من الفنانين الموالين لنظام الرئيس بشار الأسد حفلات في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا تأييدا له كان آخرها حفلة المغني الشعبي علي الديك في شيكاغو وصاحب الأغنية الأكثر تداولا لدى أوساط الموالاة «يا أوباما كيفك فيا خلصت والله بسوريا» إشارة إلى سقوط «المؤامرة» و«انتصار النظام على الأصوليين» كما يدّعي النظام.
من جهة أخرى، كان لافتا أيضا القدرة الاستثنائية للفنانين السوريين على تصوير موتهم الخاص، وأن يفرضوا قصصهم وصورهم على العالم. أكثر من أربعين فيلما وثائقيا أنتجت خلال العامين الماضيين دارت أحداثها حول طبيعة الحراك المدني السلمي في الثورة السورية، ورصدت الجرائم التي ارتكبتها قوات الأمن الحكومية بحق المتظاهرين. وغير قليل منها أشار إلى التجاوزات التي ارتكبها بعض الثوار في المناطق الحاضنة للثورة. ناهيك عن حضور لأسماء مهمة في عالم الصورة أمثال رسام الكاريكاتير علي فرزات وجوان وبوسترات فارس خاشوق.
* صدام النخبة
* يندرج المثقفون السوريون في بيئات ثقافية متنوعة وتحركهم تطلعات كثيرة ومتناقضة، لذا كان جليا مدى الارتباك الذي أحدثته الثورة لدى النخبة الفكرية تصادما حادا وصل إلى درجة القطيعة بين المفكر صادق جلال العظم والشاعر أدونيس اللذين يعدان من أهم الشخصيات الفكرية في سوريا، حيث اعتبر الدكتور العظم الثورة أهم نقطة تحول في التاريخ السوري الحديث وأعلن عن تأييده المبكر لها وهاجم موقف أدونيس المناهض للحراك السوري واعتبر موقفه من حراك السوريين لا يحمل جديدا بالنسبة له، بل استمرارا لمواقفه السابقة في مرحلته الخمينية التي ناصر خلالها الثورة الإيرانية وامتدحها وكتب فيها قصيدة، رغم أنها خرجت من المساجد وهو ذات السبب الذي يجعله اليوم يرفض تأييدها، كما يأخذ العظم على أدونيس التزامه الصمت في التسعينات على حكم الإعدام التلفزيوني الذي أصدره الخميني بحق المفكر سلمان رشدي دفاعا عن حرية الكاتب وحقه في الحياة.
بينما يعتبر منتقدو الدكتور العظم عن مخالفته لحق أدونيس في مراجعة ما كان يراه صائبا في تلك الحقبة من الزمن.. أحدهم يتساءل: وهل التحول عن القناعات السابقة تهمة! أليس دليل صحة؟ في بلاد عاشت ما يسمى ربيعا ولم تفرز صناديق انتخابها سوى صعود الإسلام السياسي. إلا أن أنصار كاتب «ذهنية التحريم» يرون موقفه صحيحا، وما يزيد من سلامة موقفه معرفته العميقة بواقع الشعب السوري في العقود الأخيرة. هذا الواقع الذي خضع لمحاولات لا حصر لها من الطمس والتزويق والتشويه وصولا إلى اختراع أساطير مؤسسة لنظام الاستبداد طوال نصف قرن بدءا من مارس (آذار) 1963 وحتى يومنا هذا. من جانبه لا يرفض أدونيس التغيير ويقول: أنا مع صرخة الحرية، لكن لا يجوز الانتقال من طغيان إلى طغيان لأن دخول الدين إلى الثورات شكل من أشكال العنف. كيف يمكن بناء أسس دولة بمساعدة نفس الأشخاص الذين استعمروا هذا البلد؟ في حين يرى من يختلفون معه في الرؤية أن موقفه مدعاة لوقوع القارئ والمتابع له في شرك الأسلوب الكامن وراء لعبة لغوية كان ينبغي تغييرها منذ سنين، وبخاصة عند معالجة حدث هائل كالثورة السورية، وذلك لأن أدونيس حسبما يعتقدون «لا ينتقد الثورة من أجل إيصالها إلى ما هو أفضل وأكثر أصالة لكنه وربما من دون قصد يغطي عورات الاستبداد تحت ستار من دخان الكلمات ذات الفحوى الثوري في الظاهر فقط مع الاتفاق معه على كون إقحام المقدس في السياسة هو إفساد لكليهما».
وهناك من يرى أدونيس مناقضا لأدونيس، ففي الوقت الذي يحرص فيه على التنويه بالآخر وأهميته، لكنه دون أن يتعمد يزيل هذا الآخر وحقه في التصرف الحر، متناسيا قولا للفيلسوف الدنماركي كيركجارد: إنك تلغيني حين تصنفني. فالشعب الثائر لدى أدونيس هو قبل كل شيء أصناف، منها السلفي والظلامي والخارج من المساجد، مع أن أدونيس أعلن في أكثر من مناسبة عن إيمانه بضرورة تغيير النظام في سوريا لكن بأدوات تحفظ للدولة مدنيتها التي تصون وحدتها وتماسكها الاجتماعي.
* حتمية المواجهة
* وبعيدا عن هذه التصنيفات النخبوية، لا يبدو أن تأثير المثقفين السوريين بكبير على الشارع المنتفض، وكذا الحال بالنسبة لمثقفي الشارع الآخر، وليس من المبالغة في شيء القول إن المعسكرين فشلا في استقطاب الكتلة الأكبر التي لا تزال على الحياد رغم وصول القتال عقر دارها كما في حلب ودمشق ومؤخرا الرقة، وربما يعود السبب لتركيبة البلاد الفسيفسائية التي تشي بالكثير مما يمكن العثور عليه في ثنايا وخبايا معسكري النخبة السورية، وهي الحقيقة التي يدرك أهميتها النظام السوري منذ عقود، واستغلها أيما استغلال منذ بدء الانتفاضة ضده، محذرا الخارج والداخل من تكسر هذه الفسيفساء وما قد ينجم عنه.
حقيقة تدفع مفكري الثورة للاعتراف من اليوم بأنهم سيواجهون فور سقوط النظام عقلية قد لا تقل استبدادا عن البعث وآل الأسد، بل ويبشرون بثورة ضدها، إنها عقلية الاستبداد الديني التي لطالما حذر منها نخبويو ومثقفو السلطة!
الشرق الأوسط