النخب العربية في زمن الاستبداد
ابراهيم الكبلي
‘يا أخي نحن العرب عالة على أنفسنا قبل العالم، ساستنا حفنة جهلة انتهازيين، منظوماتنا التعليمية ضعيفة جدا، مستشفياتنا خربة، سجوننا ممتلئة، مثقفونا إن استحقوا الصفة لا وزن لهم، الفساد يأكلنا’
المثقف التونسي عمر الشارني
بطبيعة الحال هذا الكلام يبدو غير ذي جدوى الآن، لأن العالم العربي انبثق من الرماد ولكنه يعبر بإخلاص عن الوضع الثقافي والسياسي والاجتماعي العربي في المرحلة البائدة. فالثورات المشتعلة نيرانها في أكثر من بلد في عربي أدت إلى تسليط الضوء لأول مرة وبشكل جماهيري على كل مظاهر التسيب التي ظلت تنخر المجتمعات العربية لنصف قرن من الزمن. هذه هي المرة الاولى في تاريخ الشعوب العربية التي يتم فيها فتح ملفات الزواج الحرام بين الدين والمال والسياسة بشفافية مطلقة ورغبة صادقة في البحث عن الحقيقة تحقيقا للمصالحة مع الذات.
هذه المطالب المشروعة بضرورة محاكمة رموز الفساد ومساءلة كل السياسيين والمنتفعين من الوضع المرضي الذي ساد لنصف قرن من الزمن في البلاد العربية لا يمكن، إلا أن يكون مصدر ارتياح. هذا إن تحقق بشكل نزيه وشفاف – كما هو عليه الحال حتى الآن في مصر خاصة – سيكون السطر الأول في مخطوط التاريخ الجديد للعدالة في البلاد العربية بعيدا عن عقلية الانتقام والأخذ بالثأر. فإحقاق الحق جزء لا يتجزأ من الثورة ليس على الاستبداد فقط ولكن على كل الرواسب التي قد تبقى عالقة من هذا الماضي الأليم.
تحقيق العدالة والمصالحة مع الذات والتاريخ يحتاج إلى المكاشفة. والمكاشفة مع الذات لن تكون كاملة دون مساءلة دور النخب العربية في مختلف مواقعها عن دورها في الانحطاط الفكري والسياسي والسقوط الحضاري الذي تعرض له الوطن العربي طيلة عقود. فالمصالحة مع الذات لا يمكن أن تتحقق دون مساءلة العقول التي لم تبخل أبدا بوضع مواهبها في خدمة الأنظمة الاستبدادية.
مساءلة دور المثقفين العرب في تثبيت أركان الاستبداد جزء لايتجزأ من هذه المكاشفة التي نرى أنها ضرورية لاستعادة ثقة المجتمع في مثقفيه واستعادة المثقف ثقته في جمهوره. عندما يفقد المثقف احترام الشعب فإن كل المؤسسات والفضاءات الحيوية التي يتحرك فيها من جامعات ومدارس وجمعيات تفقد الاحترام وبالتالي تصاب بالشلل وتتوقف عن لعب دورها في تحرير الفكر من الشعوذة والخوف. ليست الأمية فقط السبب الذي أدى إلى انحطاط الاهتمام بالثقافة في الوطن العربي لفترة طويلة وإنما سلوكات الكثير من المثقفين أيضا. فكيف يمكن لأشخاص فقدت فيهم الثقة أن يقودوا المجتمع ويلعبوا دورهم في تفعيل قوة الثقافة والفكر في تحرير الانسان.
المثقفون من أدباء وباحثين وصحافيين وفنانين وموسقيين وكل المشتغلين في حقل الثقافة والفكر والابداع يتحملون مسؤوليات جسيمة في الارتقاء بالذوق العام فكريا وأخلاقيا وتقديم النموذج الأمثل للاستقامة والنزاهة والصرامة الفكرية والمهنية. المثقفون هم المجس الذي يلتقط نبض المجتمع ويصوغه في قوالب إبداعية وفكرية تثير انتباه صاحب القرار السياسي. المثقفون الحقيقيون يحترقون بالجمر مرتين، مرة بحمل الهم الفكري، والمرة الثانية بتحمل تبعات مواقفهم المزعجة النابعة من مسؤوليتهم الأخلاقية في المجتمع. فالمثقفون هم خميرة المجتمع التي تنضج عجين الثورة وتنفخ روح الإباء في نفوس المواطنين كما أنهم هم النبراس الذي ينير طريق التائهين في ظلمات الخوف.
في كل المجتمعات كان المثقفون صفوة الناس الذين يكونون في الطليعة التي تنادي بقيم العدالة والمساواة ويستنكرون الظلم. ففي خضم القلق الفكري الذي يستبد بالمثقف ويسكن كيانه يمتنع هذا الأخير عن اتخاذ المواقف المشبوهة ويرفض تلطيخ تاريخه الفكري ونضاله المعرفي بالإنزلاق إلى عالم سفلي لا يعترف بالقيم والهموم التي يحملها. التاريخ ـ القديم منه والحديث ـ مليء بلوحات مشرقة لمثقفين ومثقفات ثبتوا على العهد وأدانوا الظلم من فرانتز فانون، كاموس، تشومسكي، ناصر حامد أبو زيد، المهدي المنجرة، ديسموند تيتو،إدوارد سعيد، مريم ماكيبا وناعوم فنكلستاين. المثقف العضوي كما عرفه غرامشي هو المثقف الذي يحمل همومه الفكرية ويشارك في حياة المجتمع ويعمل في سبيل التغيير. السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو عن دور المثقفين العرب في زمن الديكتاتورية البائد وبين دورهم الآن وقد هبت نسائم الحرية على الشرق الأوسط والمغرب الكبير.
المثقفون والنخب العربية كبقية النخب في كل بقاع الأرض منها الصالح ومنها الطالح. فإذا كان القطاع الكبير من المثقفين العرب قد ظل نظيفا واستمر في دفاعه عن قيمه وأفكاره بكل تجرد، بل دفع ثمن هذه النظافة غاليا تهميشا وتسفيها ونبذا بوسائل وتقنيات مختلفة. منهم من سجن ودفع من حريته وقوت يومه ثمنا لإخلاصه لمهمة المثقف المتمثلة في الدفاع عن شرف الكلمة وحرية الفكر، ومنهم من قتل فداء لأفكاره وتطلعاته. إذا كان هذا حال قطاع واسع من رجال الفكر فإن قطاعات أخرى من المثقفين عبرت عن انتهازية لا مثيل لها في تعاملها مع الوضع القائم. فبعض المثقفين لم يتورعوا في الاصطفاف في خندق الاستبداد ليس دفاعا عن مبدأ يؤمنون به أو رؤية في إطار مشروع مجتمعي تلتقي فيه طموحاتهم كمثقفين مع رغبات النظام، ولكن رغبة في الانتفاع المادي من قربهم من الدائرة الضيقة لأصحاب السلطة.
هذا لا يجب أن يفاجئنا فمذ وجدت الثقافة وجد من يبيع قلمه ووجد من يستأجر هذا القلم. فمن أجود ما كتب في الشعر العربي ما كتب في مدح الملوك وذكر مناقبهم. الذي يثير حفيظتنا هو تخلي هؤلاء المثقفين عن دورهم كنخبة تسير المجتمع وتحولهم إلى متسولين يسعون للحصول على إكراميات الرؤساء والملوك ويتسابقون في مقايضة النفاق بشرف الثقافة والفكر. فاليوم أصبح من الضروري مساءلة المثقفين الذين تعاونوا على شعوبهم مع الديكتاتورية وتكلموا بلغتها وروجوا لخطاباتها، بل وكذبوا أمام الملايين على شاشات التلفزيون في تحد واضح لمشاعر الناس وإساءة واضحة إلى المقام الفكري لكل مفكر أو أديب أو حامل قلم نزيه. فمهمة محاسبة هذه الطبقة تقع على المثقفين والمجتمع على حد سواء.
وعموما يمكننا تقسيم المثقفين العرب ـ اعتمادا على طبيعة علاقتهم بالسلطة ـ بكل فئاتهم وانتماءاتهم السياسية والايديولوجية إلى ثلاث فئات كالتالي:
الفئة الإنتهازية: هذه الفئة من المثقفين لم تتورع أبدا في استعمال كل الأساليب لخدمة النظام القمعي. فمنها من تخرج من جامعات أوروبية وأمريكية محترمة وتدرس كتبه ومقالاته في أعرق الجامعات، ولكن طمع السلطة أعمى بصيرتهم وانشغلوا بالثروة عن الثورة وبالسلطة عن سلطة الفكر. هذه الفئة من المثقفين يمثلها بشكل جيد سفير تونس السابق لدى منظمة اليونيسكو، وكذلك مرشح مصر الحالي لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية. فهؤلاء دافعوا إلى آخر رمق عن الديكتاتورية وزينوا حسناتها، بل واستماتوا في الدفاع عنها بالخطاب التقليدي المعروف بأن الديكتاتورية هي المتراس الحائل بين الاسلاميين ووصولهم إلى السلطة في بلد يسكنه القطيع. فسفير تونس السابق لدى اليونيسكو لم يتورع في القول بأن أكبر ديكتاتور عرفه التاريخ العربي المعاصر هو الحصن الحصين للشعب التونسي، بل وفقد أعصابه وعلى الهواء مباشرة وفي مشهد يثير الشفقة على رجل حصل على أرفع الدرجات ويحظى باحترام كبير في العالم الاكاديمي.
لقد كان غريبا رؤية كثير من الصحافيين والكتاب المصريين والتونسيين والليبيين الذين كانوا إلى وقت قريب يقتاتون على فتات النظام ويسبحون بحمده حين يمسون وحين يصبحون، يتحولون من فريق إلى فريق دون حياء. فهذه الفئة الانتهازية من المثقفين ساهمت في استنزاف خيرات البلاد العربية إما بصمتها وهي في مواقع المسؤولية، أو بسبب مشاركتها في هذا الاستنزاف بنفسها. وهناك النوع الأخطر من هذه الفئات وهم علماء الدين الذين وفروا الغطاء الديني لإرساء دعائم الديكتاتورية.
الفئة المهمشة/المنبوذة: في مقابل هذه الفئة الانتهازية هناك فئة من المثقفين تعرضوا للتهميش واضطروا للانزواء في الجامعات، يلقون محاضراتهم وينتجون أعمالهم الابداعية وسكنهم هم الثقافة كما سكنوه. هذه الفئة ظلت وفية للجامعة والطلاب ولمهمة المثقف الملتزم بالإنتاج والإبداع. من هذه الفئة من قضى نحبه وهو يجاهد في الجامعات يكون العقول، ومنهم من ينتظر. منهم من ضاقت به أرجاء البلاد فقال إن أرض الله واسعة ورست به السفن في أمريكا وأوروبا، حيث وجد ملاذا يستمع فيه إلى صوته. ملاذ حيث للأفكار معنى في زمن اللامعنى. فجولة سريعة في أرشيف الجامعات الامريكية والكندية والاسترالية والاوروبية كفيل بأن يبين لنا قدر الاستنزاف الذي تعرضت له الطبقة المثقفة العربية. فأساتذة كبار من عيار أحمد زويل، ناصر حامد أبو زيد، برهان غيلون، نوال السعداوي، أدونيس سعد الدين ابراهيم وغيرهم كثير ممن سدت في وجوههم أبواب أوطانهم واضطروا للرحيل أولا بحثا عن البيئة الملائمة لافكارهم وثانيا تجنبا للإصابة بوباء السلطة الذي لا ينجو من أصيب به من مرض الفساد وثالثا هروبا من جحيم التهميش.
الفئة الرافضة: هذه الفئة يجسدها بشكل جلي كل من جاهد ضد الظلم في كل المنابر المتاحة رغم كل العوائق والحواجز. ظلت تكسر الحصار تلو الحصار وتدوي بصوت حناجرها حين أغلقت دونها أبواب الجامعات واستوديوهات التلفزيون. كل سلاحها أنها آمنت بحتمية النجاح وآمنت أن ضريبة الانتماء إلى النخبة عالية، لكنها في نفس الوقت آمنت بأنها قادرة على لعب دورها لأن قدرها هو البقاء والزوال قدر غيرها من الانتهازيين. هذه الفئة المعارضة التي لم تستطع الأنظمة لا شراء ودها ولا ضمان صمتها، خضعت لكل أساليب الضغط ولم تزدها إلا قوة إيمان بأنها على حق. هذه الفئة يجسدها بشكل جلي عبد الحليم قنديل ، سعد الدين إبراهيم، صنع الله إبراهيم وحمدي قنديل من مصر، احمد السنوسي من المغرب والمرحوم عبد الرحمان منيف من السعودية والمنصف المرزوقي من تونس. هذه بطبيعة الحال عينة من المثقفين العرب لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون شاملة لكل أولئك الذين اكتووا بنار الجمر بسبب رفضهم الانخراط في مشاريع الطغيان وظلوا قابضين على الجمر إلى آخر رمق.
أثبتت هذه الفئة لنفسها وللعالم أن المستقبل كل المستقبل للذين يظلون أوفياء للعهد الذي قطعوه على أنفسهم عندما دخلوا محراب الثقافة.
ختاما نقول إن زمن الالتباس قد ولى. فالدرس البليغ الذي تعلمه الجميع هو أن أزمتنا لخمسين عاما ما كانت لتدوم لولا مساهمة النخب العربية بقسط وافر من مجهودها في تغذية الديكتاتورية. بعض النخب ـ من كل الاتجاهات والمشارب الفكرية والسياسية ـ وفرت الإطار الفكري الضروري لتستمر الديكتاتورية ـ وبما تستتبعه من انحطاط على كل المستويات – سياسيا وفكريا واجتماعيا. لكن في المقابل ناضلت قطاعات كبيرة من النخب العربية حتى أسقطت عروش الطغاة واضطلعت بمسؤوليتها التاريخية في قيادة الجماهير. لا نريد استعراض أسماء المثقفين والمثقفات، من شرق الوطن العربي وغربه، الذين ضيعوا رصيدهم الفكري بانتهازيتهم. هدفنا استخلاص العبر والدروس من هذا الماضي الأليم للنخب العربية، قصد تجنب إعادة إنتاج نفس السلوكات الانتهازية التي أدت إلى إقصاء النزهاء ونفيهم، وفرضت على كثيرين الصمت عن الجرائم البشعة التي ارتكبت في حق أوطان بكاملها.
القدس العربي