النرجسية في خطاب السلطة
بشير عيسى *
لأكثر من أربعين عاماً والشعب السوري مفارق للحياة السياسية. الآن وقد استفاق من غيبوبته، تذكر النظام أن له شعباً، كان يظن أنه يتماهى مع قيادته «الممانعة». أربعون عاماً والنظام يقضم المعارضة بمقياس ريختر سياسي، يقيس فيه درجة الوطنية لمعارضيه، فكل من ليس معه، إما متعامل يخدم أجندات خارجية مشبوهة، أو أنه من حيث لا يدري، يساهم في إيهان نفسية الأمة!. هذه الذهنية المتكلسة أصبحت عصية على التفكيك إلى حدٍ ما. من مبدأ أن لاشيء جامد أو نهائي بالمطلق، فالمرونة السياسية التي يبديها النظام في بعض جوانبه، تقوم على مكيافيلية مدروسة، يوظفها في خدمة تحكمه بالدولة والمجتمع من جهة، ومن جهة أخرى ينتهجها في علاقاته الدولية، بما يؤمن بقاءه كلاعب أساسي في المنطقة، مجيداً سياسة اللعب على الحبال، فقط ليبقى في الحكم ما استطاع، وبأية كلفة كانت.
الآن وبعد مضي تسعة أشهر على استمرار التظاهرات، واستبساله في لجمها حتى لو كلفته حرباً تطال المنطقة برمتها، وهو ما يصرّح به ويردده في كل مناسبة، وأظنه جاداً في هذا، حيث بدأت بعض الأصوات تعلو مطالبةً بتحرير الجولان ولواء إسكندرون، الذي سقط من الذاكرة والخارطة السورية منذ زمن!، من هذا الخطاب الطارئ والذي يعكس المأزومية السياسية والوطنية التي وصل إليها، يحاول النظام أن يلعب آخر أوراقه. فيعتبر الحراك الشعبي، جزءاً من المؤامرة التي يتعرض لها، كونه يُمثل ويحمي «قلب العروبة النابض» آخر قلاع الممانعة!.هذه النبرة تنطوي على شوفينية قُطرية، قائمة على وهم نرجسي بالتفوق، وهذا بحد ذاته انتقاص من حجم الآخرين ودورهم.
على ما سبق، يحاول النظام العزف على وتر المشاعر، ملصقاً صورة الإجرام بالحراك السلمي، ليظهر بمظهر الضحية، كما جاء على لسان وليد المعلم: «هالخد تعوَد على اللطم»، وأصبح العرب الذين وقفوا إلى جانبه طيلة عقود «أعراباً» وعملاء! وهنا تحضر إسرائيل وذريعة الكيل بمكيالين، وإن كان هذا صحيحاً، فقد فات النظام أن سياسة الإفساد لا تستوي مع الوطنية مهما علت الشعارات.
القيادة الحكيمة والشجاعة، لم تقبل يوماً بدخول ولو نائب معارض إلى «مجلس الشعب»، فكيف بقانون أحزاب، وضِعَ على الطاولة منذ عقد!. هذا الشعب المهدورة كرامته، لا تكفيه الأغاني الوطنية وحفلة الشتائم على الآخرين، فهو يريد جواباً عن سؤال بديهي: إذا كانت سورية عرضة للمؤامرات، وهي على علمٍ بها، فكيف يمكن للنظام الصمود بوجه مؤامرة دولية، والفساد ينغل بكل مفاصل الدولة؟.
لا شك في أن هناك حساسية وطنية لدى السوريين، وهي ميزة مفطورة عليها كل شعوب الأرض، وليست حكراً عليهم. ولكن ماذا فعل النظام لهم وأي تضحيات قدمها لأجلهم؟ أم أن المطلوب دائماً أن يدفع هذا الشعب المسكين ثمن مغامراته السياسية. أربعون عاماً ودمشق تنافس القاهرة في قمع القوى العلمانية والديموقراطية، في وقت أبقت فيه الأبواب مشرَعة على بناء المساجد والمعاهد الإسلامية، ثم تستغرب القيادة الحكيمة خروج الناس عليها من هذه المساجد!.
لقد استطاع النظام التلاعب بالناموس القيَمي والأخلاقي للوطن السوري، والكل يدرك أن هذه السياسات التي أفسدت المجتمع، لم تجعل أي مؤسسة من مؤسسات الدولة بمنأى عنها، بما فيها المؤسسة العسكرية. هذا التغول السلطوي خلخل المناخ الوطني، بعد شل عمل مؤسسات السلطة التشريعية والقضائية، حيث حضرت ثقافة الرشوة بالتزامن مع ارتفاع وتيرة التهريب والاحتكار والسرقة، فكانت الدولة والمواطن فريستي هذا المناخ، فأُفرغت ثقافة المقاومة من مضمونها المعرفي والسياسي، بعد أن أصبحت عباءة للنظام، لا يجرؤ على خلعها مخافة أن يتعرى. ضمن هذا السياق، بقيت السلطة كجهاز حاكم غاب عنه دور الحَكم، وهو ما أوصل الإصلاح والحياة السياسية إلى طريق مسدود.
اليوم وأكثر مما مضى يقف السوريون في طوابير، من أجل الحصول على أسطوانات الغاز ومادة الديزل. كثير من الناس بدأ يتغير مزاجهم السياسي، فهل يعي المسؤولون ولو متأخرين، أن الخطب النارية التي يشنونها على أشقائهم العرب ومَن خلفهم، لا تدفئ طفلاً ولا تطعم جائعاً!.
وهذه التساؤلات هي أيضاً برسم وكلاء النظام من سياسيين ومثقفين، والذين صموا آذاننا بمقاومة أميركا وإسرائيل. انه كلام لم يعد يُصرف الآن، لأن الناس خرجت تطلب حريتها، ومن لم يكن حراً، ليس بمقدوره تحرير شبرٍ من الأرض. وعلى أمل بأن يكفوا عن هذه اللغة الخشبية في خطابهم الممانع، والتي لا تتفهم الآخر ولا تحترم رأيه، هم مدعوون لأن يتواضعوا قليلاً، فقد سئم الكثيرون انتهازيتهم، وادعاءهم احتكار الحقيقة والوطنية!. فهل من وقفة جريئة تجنبنا هذا الطوفان، فتحفظ مكوناتنا الاجتماعية والثقافية، قبل الانزلاق نحو حرب أهلية؟.
* كاتب سوري
الحياة