النزاع على ما بعد «داعش» في شرق سورية/ أندرو جي. تابلر
بدأ شد الحبال على من سيحكم شرق سورية بعد «داعش». وفي 18 أيار (مايو)، دمرت أميركا موكباً عسكرياً متحالفاً مع الرئيس السوري بشار الأسد، إثر تجاهله تحذيرات من التقدم نحو التنف، وهي قاعدة عمليات خاصة أميركية وبريطانية على الحدود السورية – الأردنية. والقاعدة هذه يشملها اتفاق مبرم في تشرين الأول (أكتوبر) 2015 بين أميركا وروسيا لخفض احتمالات الصدام بين القوات التي تدعمانها في سورية. والحادثة هذه وقعت بعد أيام على إعلان قاعدة حميميم الروسية أن قواتها الجوية ومستشارين إيرانيين عسكريين سيدعمون سعي قوات الأسد الى التقدم في الشرق، لتطهير الطريق بين دمشق وبغداد والحؤول دون تشكيل منطقة عازلة تدعمها أميركا في شرق سورية. وكل هذه الحوادث حصلت، إثر إعلان واشنطن في التاسع من الشهر الماضي، أنها ستزود الفصائل الكردية في «قوات سورية الديموقراطية» بأسلحة ثقيلة لمساعدتها على السيطرة على عاصمة «داعش»، الرقة.
وهذه الخطوات تعلن أنها ترمي الى محاربة «داعش» فحسب، لكن اللاعبين المختلفين في سورية يعدون لما بعد «داعش»، وعين كل منهم على مكامن ضعف الآخر. واتفاق الحؤول دون الصدام الروسي – الأميركي سيُمتحن قريباً، ويرجح أن تزيد احتمالات الصدام. واليوم، يتعاظم خطر وقوع مواجهة أميركية عسكرية مباشرة ليس مع قوات الأسد فحسب، بل مع داعميه الإيرانيين والروس. والحؤول دون إفلات مثل هذه المواجهة من عقال السيطرة يقتضي اتفاق واشنطن وموسكو على إحداثيات منطقة «تخفيف التصعيد» أو التهدئة في جنوب سورية للتركيز على داعش واحتواء طموح إيران الى جسر بري عبر سورية الى المتوسط. لكن مسار الأمور يشير الى أن مثل هذا الاتفاق مستبعد في القريب العاجل.
وتشير تقارير إعلامية الى أن ضربة 18 أيار الأميركية على قوات موالية للأسد، وقعت إثر رفض هذه القوات وميليشيات شيعية العودة على أعقابها بعد طلقات أميركية تحذيرية. وكانت القاعدة الروسية في حميميم، وجهت في الأيام السابقة، رسائل عدوانية وأعلنت التزام التعاون مع إيران. وذهبت برقية صادرة عن القاعدة هذه، الى أن قرار روسيا وإيران تشجيع القوات الحكومية على التقدم نحو الشرق، يأتي بعد خطوتين أميركيتين بارزتين:1) الضربة الصاروخية على قوات الأسد في نيسان (أبريل) نتيجة «لضربة غاز السارين المزعومة» – وهذه الضربة تنتهك القانون الدولي والاتفاق الروسي – الأميركي في 2013 لنزع ترسانة الأسلحة السورية الكيماوية. و2) قرار واشنطن زيادة دعم القوات الكردية، على رأسها «قوات سورية الديموقراطية» لتحرير الرقة.
والحق يقال أن الضربتين هاتين علامتان على زيادة المشاركة الأميركية في الحرب السورية. والخطة الأميركية لقتال داعش في سورية أُعدت في عهد الإدارة الأميركية السابقة، وتستند الى دعم وحدات «حماية الشعب» الكردية، وهي الذراع المسلح لحزب «الاتحاد الديموقراطي»، الفرع السوري من «العمال الكردستاني» المدرج على لوائح الإرهاب الأميركية، والعدو اللدود لتركيا. ولجبه هذه المعضلة، أنشأت أميركا منظمة «قوات سورية الديموقراطية» وشجعت جماعات غير كردية على المشاركة مع الأكراد في محاربة داعش في شرق سورية ووادي الفرات. وأملت واشنطن بأن يدعم السنّة العرب، وهم غالبية السكان في شرق سورية وفي وادي الفرات على وجه التحديد، القوات هذه. ووادي الفرات هو مركز داعش وقبلها كان معقل «القاعدة»، والسيطرة عليه هي مفتاح هزيمة التنظيم الإرهابي. والأهم من الهزيمة هذه، الحؤول دون عودة التنظيم أقوى مما كان في المستقبل. وعلى المستوى العسكري، أحرزت الخطة نجاحاً. فـ»قوات سورية الديموقراطية» قلصت رقعة سيطرة داعش، وطوّقت الرقة، وحازت إعجاب المستشارين الأميركيين. لكن على المستوى السياسي، هيمنة الأكراد على «قوات سورية الديموقراطية» على حالها، على رغم التحاق بعض المقاتلين العرب بها. لكن معظم هؤلاء هم من المسيحيين العرب أو أقليات أخرى أو من أبناء القبائل الرحل البدوية السنّية التي تنافس القبائل المستقرة في وادي الفرات. وما لم تقنع واشنطن «وحدات حماية الشعب» بالتراجع عن هيمنتها على «قوات سورية الديموقراطية» والمشاركة في السلطة مع القبائل المستقرة، لن يسع الأكراد الإمساك بالرقة ووادي الفرات وقتاً طويلاً.
ويدرك كل من روسيا وإيران أن قدرة «قوات سورية الديموقراطية» على الإمساك بالأرض محدودة، ويرى أن انهيار داعش في شرق سورية هو فرصة سانحة أمام قوات الأسد لاستعادة الأراضي. وفي الأشهر الأخيرة، دعمت طهران وموسكو مساعي الفيلق الخامس، وهو مزيج من ميليشيات موالية للأسد، للتقدم الى الشرق من حلب الى منبج في شمال وسط سورية – لقطع منطقة تركيا العازلة في شمال حلب – ونحو الجنوب والشرق على طول الضفة الغربية من نهر الفرات في اتجاه الرقة. وهذه الخطوة تمنح روسيا عدداً من الخيارات، منها تقديم النظام السوري للسنّة العرب في وادي الفرات على أنه بديل ناجع عن «قوات سورية الديموقراطية»، من جهة، ودعم «وحدات حماية الشعب» في حال عززت واشنطن تعاونها مع تركيا، من جهة أخرى. وهذه الخطوة المزدوجة هي السبيل أمام موسكو الى إفساد الخطط الأميركية في المنطقة.
ولا شك في أن الخطة الروسية – الإيرانية طموحة، لكن يشوبها عيب خطير: نقص عديد قوات الأسد يحول دون استعادة أي منطقة من دون أن تنكشف القوات هذه في مناطق أخرى. ومع تقدم الفيلق الخامس نحو الشرق في الأشهر القليلة الماضية، سرعان ما بدأت الحكومة تخسر في شمال حماه، وصارت تخشى خسارة هذه المدينة (حماه). وعلى رغم أن الأسد توسل مراراً بغاز الكلورين منذ اتفاق 2013، إلا أنه لم يستخدم غاز السارين القاتل (في خان شيخون) إلا بعد خسائره الأخيرة. وأدى استخدام السارين الى ضربة أميركية على قاعدة الشعيرات الجوية التي دمرت نحو خمس السلاح الجوي السوري، ووجهت رسالة مفادها أن واشنطن لن تسمح لنظام الأسد بأن يتوسل بالغاز القاتل للخروج من النزاع بمساعدة روسية وإيرانية.
وإثر إدراكهما أن النظام لا يملك موارد القتال على جبهات كثيرة، اقترحت موسكو وطهران، في مطلع أيار (مايو)، إنشاء مناطق «تخفيف التصعيد» أو مناطق النظام مقابل «ضمان» روسيا وإيران وقف إطلاق النار. وهذا الإجراء يسمح لروسيا وإيران بقبول تقسيم سورية من دون التنازل عن مناطق لدول الجوار، الأردن وتركيا تحديداً. وترى واشنطن أن منطقة شرق غربي سورية، وهي تشمل درعا والمنطقة المتاخمة لمرتفعات الجولان – هي أكثر المناطق المناسبة «لتخفيف التصعيد». ففي هذه المنطقة، المعارضة المسلحة أكثر اعتدالاً والمرابطة الإيرانية هناك صغيرة وقدرتها محدودة لإفساد المتفق عليه. وفرص نجاح اتفاق تخفيف تصعيد تدعمه واشنطن وموسكو في هذه المنطقة، كبيرة. وتأمين منطقة الجنوب لا يحمي الأردن وإسرائيل من «الجهاديين» ونظام الأسد فحسب. فهذه المنطقة قد تكون منطلق العمليات ضد داعش والتحرك نحو الشرق الى وادي الفرات. وفي وسع القوات العربية في الجنوب السوري التي يدعمها الأردن أن تكون بديلاً عن «قوات سورية الديموقراطية» أو مكملة لها.
ويشير إعلان روسيا عن عمليات مشتركة مع إيران لمساعدة الأسد على التقدم نحو الفرات، الى عزم موسكو دعم طهران لإنشاء ممر بري من إيران يعبر العراق وسورية ومناطق سيطرة «حزب الله» في لبنان، ويوفر جسراً برياً للسلاح الثقيل (الإيراني) الى سورية ولبنان. لكن هذه المساعي لا تساهم في ثني دول المنطقة عن دعم المعارضة، بل تؤجج النزاع. وقد تحمل المساعي هذه، الرئيس الأميركي، دونالد ترامب على الرد، فإدارته تسعى الى احتواء الطموحات الإيرانية التوسعية الى خارج دوائر نفوذها التقليدي والى شرق سورية. ولم تتضح بَعد نتيجة تقدم النظام نحو الشرق. وفي الأيام الأخيرة، انتزعت قوات موالية للنظام وميليشيات شيعية ترفع أعلام روسية، أراضي من داعش في البادية، شرق دمشق في جنوب سورية. لكن السيطرة على مناطق أقرب الى الفرات والإمساك بها يقتضيان عديد قوات أكبر، ويمتحنان رغبة الروس والإيرانيين في التصعيد. وحري بواشنطن أن تترك النظام يتمدد نحو وادي الفرات في انتظار أن تتوقف عجلة قواته عن الدوران. وتقتضي هذه الخطوة التزام اتفاق الحؤول دون الصدام – وهذا الاتفاق أميركي – روسي – لحماية التنف في وقت تواصل أميركا تعزيز مواقع المعارضة – وشطر راجح منها من العرب السنّة – في المنطقة. وتشير مصادر سورية وروسية الى أن الأسد يسعى الى السيطرة على دير الزور. ويتسنى لواشنطن في الأثناء تعزيز قوات المعارضة في الجنوب في اتجاه البوكمال على الحدود العراقية.
* باحث، صاحب «في عرين الأسد: إفادة شاهد من واشنطن على المعركة مع سورية»، عن «فورين أفيرز» الأميركية، 3/6/2017، إعداد منال نحاس
الحياة