بشير البكرصفحات سورية

النزيف السوري/ بشير البكر

صارت مواقع التواصل الاجتماعي مرآة عاكسة صريحة، لما بلغه الوضع السوري من مأساوية وتدهور. ومن يراقب عينات من المناقشات التي تدور بين السوريين، يقف على تفاصيل كثيرة لا تجد وسائل الاعلام الطرق المناسبة لمتابعتها بدقة، أو قراءة ما بين السطور من اشارات. وعن طريق المصادفة تابعت نقاشا حول ظاهرة لجوء السوريين إلى أوروبا، التي تصدرت في الاسبوع الأخير الصفحات الأولى للصحف الأوروبية. جرى النقاش على صفحة أحد الشباب السوريين في الفايسبوك، ودار من حول استفسار عن الوجهة الأقل تعقيدا على مستوى استقبال اللاجئين السوريين، والمفاجأة ان الصفحة تحولت إلى منتدى مفتوح خلال اقل من ساعة، وامتلأت بالآراء والنصائح والشروحات وسرد تجارب شخصية، إلى حد يُفهم منه أن الشباب باتوا على إلمام تام بالعملية، ما يعني أن اللجوء أصبح طريقا لا بديل عنه لدى فئات من السوريين وسط انسداد الأفاق. ولكنه طريق محفوف بشتى أنواع المخاطر، ومغامرة ليست مضمونة، ورغم كثرة الهيئات الانسانية المعنية بمتابعة الشؤون الانسانية للسوريين، فإن الطاغي على السطح لا يعكس سوى الوجه الخارجي لحالة مجتمع النزوح السوري، التي تفاقمت صعوباتها وزادت متاعبها ومتطلباتها في الشهرين الأخيرين، على نحو تلخص جانبا منه اتساع ظاهرة ركوب بواخر المجهول.

هنا يمكن تسجيل ملاحظتين سريعتين، ولكنهما معبرتان جدا. الأولى هي، ان غالبية البواخر التي صارت تبحر بالفارين السوريين تنطلق من مصر. والثانية هي، ان فكرة الهجرة الجماعية عبر هذا الطريق عرفت رواجا ملحوظا بعد الاتفاق الروسي الاميركي، وتراجع احتمال الضربة العسكرية الغربية للنظام السوري. ومن ذلك يمكن استنتاج الكثير، فمصر التي ظنها السوريون أكثر ملاذ آمن بفضل تمدنها وتسامح أهلها وحسهم العروبي، صار ركوب المجهول البحري أرحم من الحياة على أرضها، بسبب ما لقيه السوريون من عنف اعلامي وسياسي في ظل الانقلاب العسكري، وما تلاه من اجراءات تضييق وفرض تأشيرة سفر..إلخ.

ولا يمكن في أي حال، أن نعزو لحالة اليأس والاحباط وانسداد الآفاق وحدها هستيريا اللجوء إلى اوروبا. صحيح أن نظرية اعادة تأهيل بشار الاسد بدأت تلقى رواجا، وتبعد احتمالات كل تسوية قريبة، إلا ان تسهيلات اللجوء التي تقدمها بعض دول اوروبا، تطرح الكثير من الشكوك حول تفريغ سوريا من طاقاتها البشرية الشابة، بعد أن جرى تدمير جزء كبير من بناها التحتية والعمرانية، وتخريب بعض ممتلكاتها الاقتصادية أو تهريبها الى الخارج، كما حصل مع صناعة الغزل والنسيج في حلب.

حيال النزيف الانساني من سوريا، فإن المفارقة التي تستفز كل صاحب وجدان هي المقاربة الدولية للوضع الانساني السوري، التي هي من اختصاص وفي صلب مهام الامم المتحدة. الثابت اليوم هو عدم وجود حساسية دولية ملموسة تجاه مأساة ملايين اللاجئين، وغياب كل توجه من أجل تطمين الناس للثبات في بلدهم، وإغفال أي حديث عن اعادة تأهيل هذا البلد، الذي فاقت درجة تفككه خلال الاسابيع الأخيرة  كل الحسابات، وهناك تقديرات تتداولها أوساط اوروبية رسمية وغير رسمية، مبنية على معلومات ميدانية، تفيد بأن الوضع إذا استمر يتدهور بهذه السرعة، فإن العالم سيجد نفسه قريبا أمام سوريا أسوأ وضعا من الصيغة المتداولة للدولة الفاشلة، وعلى مستوى من الخطورة يفوق أي مكان آخر في العالم، بالنظر إلى السلاح الموجود بيد الاطراف، والمسافة التي تبعد كل منها عن هدف الحل السياسي.

في ظل هذا الوضع المأساوي، صار تدميرالمخزون الكيماوي بطاقة إعادة تأهيل للاسد ونظامه، وبات واضحا أن قضية الكيماوي تحتل الأولويات الدولية، وحتى الاسد نفسه وجد الفرصة سانحة كي يسخر من انقلاب المعايير، ويعتبر ان منح جائزة نوبل للسلام لمنظمة حظر الاسلحة الكيماوية، ليس أمرا عادلا. وقال في تصريحات صحافية، أنه هو الأجدر بالجائزة ! كونه صاحب الضربة التي أحدثت هذا الانقلاب.

 هذا في الوقت الذي تمر الاخبار السورية المريعة ولا تجد من يتلفت اليها. قبل ايام قليلة صدرت فتوى دينية لمن بقي في مخيم اليرموك في دمشق بجواز أكل لحم القطط والكلاب. تكررت خلال الاسبوع الماضي حوادث غرق عشرات السوريين الفارين على متن البواخر نحو السواحل الايطالية. 600 ألف سوري مهددون بالموت جوعا في الغوطة، الامم المتحدة تؤكد وجود مليون طفل مهجر من سوريا. وغير ذلك كل شيء في الحضيض، الاغاثة، المدارس، الصحة، الماء، الكهرباء، وحوالي ستة ملايين لاجئ في الداخل في مواجهة الشتاء.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى