صفحات الرأي

النساء العربيات أمام مرحلتين انتقاليتين… وردَّة دينية


دلال البزري

الثورة النسوية التي انطلقت من الغربَين الاوروبي، ثم الاميركي كسرتْ التوازن القديم، القائم منذ آلاف السنين… بين الرجل والمرأة. توازنٌ كان مرتكزاً على السلطة المطلقة للأول، المدعومة بتقسيم حاد للمجالات والأدوار: هو في الخارج، هي في الداخل، هو يعمل ويدير الشؤون العامة، هي تنظف تطبخ وتربي وتلبي حاجته الجنسية…

مع الوقت، انعكست آثار هذه الثورة غير المكتملة على العلاقة بين الجنسين، فرادة أو جماعات: نساء\رجال، امرأة\رجل. فولدت إشكالية، هي من صميم طبيعة المرحلة الإنتقالية التي تمر بها هذه الثورة: كيف تكون هذه العلاقة الجديدة، بعد قرنين على تغير مكان المرأة ومكانتها، وتبدّل وظائفها؟ هي صارت في الخارج، وصار لها مهارات كانت مغلقة عليها، فتغيرت، شكلا ومضمونا. فيما هو كان في الخارج وبقي فيه، ينافسه على أدواره ليس فقط بقية الرجال، إنما جنس جديد اعتاد على رؤيته، في التوازن القديم، خاضعاً، منفصلاً، مغلقاً عليه، يقتصر عيشه ومهاراته على حدود المنزل. مع الوقت، صار للرجال فضول واهتمام بذاك الداخل… بعض مهارات النساء، خصوصا في الهندام وشؤون الأبوة؛ تحثهم عليهما ثقافة جديدة وقوانين في أكثر بلدان الغرب، الاسكندنافية خصوصاً، استيعاباً لطبيعة المرحلة.

النساء الغربيات ما زلن بعيدات عن تحقيق أهداف ثورتهن النسوية. الذي حصل انهن ثرن على سلطة الرجل، وهن الآن بصدد نقلها الى أيديهن، أو الى الأيادي المشتركة الرجالية والنسائية، بحسب طبيعة ميولهن، متطرفة أو معتدلة. وطبيعة ثورتهن تجعل هذه الاهداف بحاجة دائمة الى أخذ وردّ وتعارك ومفاوضة ومساومة وارتكاس وتقدم… الخلاصة، ان الثورة النسوية، ككل الثورات، فريدة من نوعها. أحدثت زلزالاً، آثاره متأخرة وإرتداداته ممتدة في الزمن. لا تسير وفق الخط «التقدمي» الحتمي، انما بتعرجات وتراجعات وتشوهات وخيبات ومصائب. من اهم تجليات هذه الارتدادات، العنف الرمزي والجسدي، المتصاعد، تجاه النساء الغربيات.

في هذه الأثناء، أصاب رذاذ هذه الثورة النساء العربيات، في بداية القرن الماضي، متأخرات عن نظيراتهن الغربيات. نقول «الرذاذ»، لأن أفكار النسوية وقيمها هبطت على أرض بكر، ما صنعت ولا شاركت في الثورات الثلاث، الأوروبية، التي سبقتها؛ الثورات الدينية والصناعية والسياسية، التي سمحت للثورة النسوية بأن تنسج تصوراتها، وتصيغ كلماتها، وتقوم بأبحاثها، وتنظم مجتمعاتها، وأن تنتج أديباتها وأدبياتها، وتحدس بالفوضى التي تخلقها، تأخذ على عاتقها ترتيبها، أو إدارتها أو التنظير لها، أو فقدان السيطرة عليها… وجميعها تجارب محرِّرة، أو في طريقها الى التحرر… كل هذا لم تخبره المرأة العربية؛ تلقت رذاذه في سياقات طارئة، أو فوقية، أو فوضوية، أو مزاجية، أو نخبوية… أو بمجرد تماه، سطحي أو عميق، مع النموذج الحضاري الغربي المتقدم.

وإذا اخذنا بالقياسين، الكمي والنوعي، فان كل ما يطال المرأة الغربية من عنف، مثلا، هو مضاعف بمرات عند المرأة العربية؛ وكل ما انتجته المرأة الغربية على الصعد المختلفة، بل وما تنتجه نساء العالم الثالث الصاعد، لا يحتاج حتى مقارنة مع الضئيل الذي انتجته المرأة العربية.

وفي العقدين الأخيرين، أو الثلاثة، التي سبقت الربيع العربي، تراجعت وثبة العربيات، وأخذ بعضها مناحي غامضة، ملتبسة، أو تراجعية صراحة. وكان الاستنجاد بكاتبات بداية القرن الماضي ونضالاتهن من أجل نهضة النساء، أو بملكات عربيات حكمن، كبلقيس او أروى أو زنوبيا… مثل البحث عن خشبة لشرعية «قضيتهن»، التي أوجدتها ثورة غيرهن، تتفوق عليها الشرعيات الدينية المختلفة الاشارات. وفي الإجمال، كانت العلاقة بين الجنسين العربيين قد تسمّمت، وفي أكثر مجالات علاقاتهم حيويةً: في الكوبل، الزوج. ظواهر مثل العزوف عن المرأة باقتناء جميع النساء، وقوننة ذلك بالزوجات الأربع (أو «الزوجة الثانية» في حال ضيق ذات اليد…)، وظاهرة استحالة الحب وجحيم الزوجين، والعنف المنزلي المتصاعد ونسب الطلاق المتمادية؛ والتي توجز بـ»نقزة» الرجل من قوة المرأة المتحقّقة أو الكامنة، يقابلها من ناحية المرأة نفور من قوته البائتة، التي لم يعد يحميها الا القانون… كل هذه الديناميكيات تفعل فعلها وتعقّد سمات المرحلة الانتقالية. كنا، وقتها نقول، أي عشية الربيع العربي، ان الأمر طبيعي، طالما ان العرب لم يتهيأوا لرياح الثورة النسوية، البطيئة بطبيعتها، فوق انهم لم ينجزوا بأيديهم الثورات التي مهدت لها في الغرب، أي الصناعية والدينية والسياسية.

وما أن اندلعت الثورة السياسية العربية الراهنة، حتى صار للنساء المعنيات أجنحة؛ انها ثورة سياسية، تسقط الطاغية، وتقوم على المساواة بين المواطنين، و… و… فخُضنَ بها، بجوارحهن، حتى القاعدات من بينهن، تصورن بأن خروج نظيراتهن بهذا الزخم وتلك الاندفاعة، لا بد له وأن يوسّع المجال الخارجي ويتيح لهن تنشق هوائه. الثورة العربية السياسية بدت وكأنها إيذانا لهن بتعبئة الفراغات التي أحدثتها سدود الاستبداد. ولكن حساب البيدر اختلف. اولا، لأن هذه الثورة لا بد لها، هي الأخرى، من مرحلة انتقالية. ويسود في هكذه مرحلة، بالتعريف، فوضى سلطوية، هي الزمان الأكثر ملاءمة لصراع مرّ، تسقط خلاله سلطة قديمة وتصعد أخرى، جديدة. وبالنظر الى المكتسبات الضئيلة التي بلغتها النساء عشية الثورات، خصوصا في مجال مشاركتهن في تنظيم مدينتهن وحياتهن وقوانينهن…. فان لا مكان لهن في هذا الصراع، ولا دور. وعلى افتراض ان العلمانيين او الحداثيين او اليساريين، بدل الإسلاميين، هم أصحاب أكبر الادوار في هذه المرحلة، فلن يكون للنساء دور يذكر ولا مكان، أيضاً، اللهم فقط من أجل «الزينة»، رفعا لعتب غربي أو «إحتراماً» لإتفاقيات دولية…

فما بالنا لو كان أقوى أطراف هذا الصراع هو تيار اسلامي، قبض على المرحلة الانتقالية وهو مدجّج بقراءة غير تاريخية للدين، لا يرى في النساء الا «قوامة» و»درجة». لا يرى مكانا للنساء غير البيت، ولا وظيفة لهن غير تلك الداخلية. طبعا هم لا يقولونها صراحة، بهذه الفجاجة؛ يواربون، يلوون، يناورون، يتقدمون، يتراجعون، يرسلون بالونات اختبار. فالضغط قوي، من النساء انفسهن، ومن الخارج أيضا، الداعي الى تطبيق اتفاقيات المساواة بين المواطنين. لكن اللبس كله لا يخفي القواعد النظرية الأساسية للإسلامية السياسية بخصوص النساء.

إذن النساء العربيات اللواتي مررن بثورتين، هن الآن أمام مرحلتين إنتقاليتين، النسوية والسياسية… وردّة إسلامية. في الأولى، مزيج من معمعات ثورة مستوردة مع تناقضاتها، وضبابها الكثيف، والتعاسة، والأمل والإحباط والحلم، ولعبة الأقنعة، والقديم الجديد، والأجيال الضحية… شهيدات حريتهن او حرية غيرهن، اللواتي قاومن، اللواتي يدفعن ثمنا غاليا، واللواتي فررن أو فشلن أو نجحن أو بلغن أو لم تبلغن…

في الانتقالية الثانية، السياسية، وُضعنَ جانباً، هُمشنَ، اعتدي عليهن… وبما ان هذه المرحلة تتم في ظلال ردّة ثقافية وفكرية تحيل النساء إلى ما نعرفه، فان العنف المتوقع ان يسري على النساء هو في طريقه إلى تسجيل درجات قياسية، غير مسبوقة. بدأ الناطقون به «يطمئنون» بأنهم، لا…! ليسوا كما يُتصور! لن ينالوا من حقوق النساء… وها هم الآن يتواطأون، يزلّون بلسانهم، يتشعوذون… كرمى صورتهم أمام … من؟ الى حين أن «يتمكنوا» تماما من السلطة المطلقة، وبعد ذلك سوف ترون العجائب….

هذه المرحلة الإنتقالية المزدوجة، المعطوفة على ردّة، تنطوي على ثلاثة أنواع من العنف: عنف إختلال التوازن القديم بين الرجال والنساء، وعنف اختلال التوازن السياسي بين المستبد وشعبه، وعنف الرفض العقيدي الاسلامي السياسي للقليل من النقاط المتقدمة التي اتسمت بها المرحلتان الانتقاليتان، بعد ثورة نسوية ثم سياسية. وهذا العنف يرتدي، في المرحلتين الانتقاليتين والردة، ثوب العنف الجنسي. في الاولى، هي قسمة مشتركة بيننا وبين نساء الغرب، مع نسبة أعلى ورادع أقل عندنا. وفي الثانية، العنف الذكوري العادي الذي لا يتصور أصلا بأن نساء يمكن ان تنافسنه على السلطة. في الردة، العنف الأقوى، الذكوري الديني، الذي يستند الى ما لا يُمَسّ، أي المقدس.

لكن لما يكون الجنس هو مركز العنف الأقصى؟ لأن الفعل البطيء للثورة النسوية كان اضطراب صورة الرجل عن نفسه، بعلاقته الحميمة مع المرأة. ولأن الفعل السريع للثورة ايقظ ذكورة كانت راكدة. فيما الردة هي استعادة هوية ذكورية عقيدية، تتمحور حول حق بمعاشرة ما لذّ وطاب من النساء في الإطار «الشرعي» الذي لا غبار عليه (أو حتى خارج هذا الاطار، كما يتبين من موقف الإسلاميين من التحرّش الجنسي والاغتصاب). كأنهم فهموا، من خندقهم، انهم الآن في حالة حرب مع الجنس الآخر، ان الثورة النسوية، بما تطلقه من حرية مفتوحة، هي أيضا ثورة جنسية، تحدّ من هذا الحق المطلق بالنساء…. وقد تكون في طريقها الى تقنينه، أو ربما إلغائه. هم لم يختاروا مجال حربهم هذه على النساء، انما لا يملكون غيره. مدعومين بأن الشريعة الاسلامية لم تعد معتمدة إلا في هذا المجال، يضربون من حيث يقدرون. ثم بعد ذلك تأتي المجالات الأخرى، الواحدة تلو الأخرى، ويكون الخراب العميم.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى