النشاط الثقافي السوري الراهن: غوغائية داخل / خارج/ علاء الدين العالم
غدا حال الفنون السوريّة كحال أصحابها السوريين، منثورةً في بقاع الأرض، تدأب على الوصول إلى الآخر لتروي له ما جرى ويجري، بعضها يُقدَّم في دمشق، وبعضها في أوروبا، وبعض منها على الحافّة، في بيروت. همُّها البوح فنياً بما يعتمل في النفس السورية الهائمة في هذا التيه، وغايتها التعبير عن التراجيديا السورية والانفجار الذي لم يُخمَد إلى اليوم. مجموعة من هذه الأعمال قُدّمت نهاية العام المنصرم في مهرجان “مينا” الثقافي المستقل في بيروت، حيث قدم “محطات لقاء وعبور فنية” للعديد من الفعاليات الثقافية السورية.
مينا… لقاء الفنانين السوريين
قدمت “مينا” مجموعة من الأعمال الفنية في عشر فضاءات ثقافية في بيروت، وسعت كما يؤكد المسرحي عبد الله الكفري، المدير التنفيذي لمؤسسة اتجاهات ــ ثقافة مستقلة، إلى “منح منصة للفنانين والكتاب السوريين الشباب للتواصل مع الجمهور العربي والسوري الموجود في لبنان، ما يفتح نافذة للفن السوري المنتشر في العالم بتقديم نفسه في المنطقة، كذلك التأكيد على جدية الأعمال الفنية السورية اليوم، وقدرتها على الإيغال في عمق السؤال السوري”. تنوعت فعاليات المهرجان بين عروض مسرحية، وتجهيزات فنية، وإصدارات كتب وألبومات موسيقية، بالإضافة إلى القراءات الأدبية واللقاءات الثقافية، ونال المهرجان بعامة اهتمام الجمهور في لبنان واحتفت به أكثر من منصة إعلامية. كل الفعاليات الثقافية المقدَّمة في المهرجان كانت من إنتاج مؤسسة اتجاهات ــ ثقافة مستقلة، وهي مؤسسة سورية مستقلة تأسست عام 2012، وكان انطلاق مينا إحياء للذكرى الخامسة لتأسيس اتجاهات. طغى حضور الفنانين والكتاب السوريين المقيمين في أوروبا على الفعالية، كما حضر بعض من الفنانين والأدباء المقيمين في سورية منهم الناقد والمترجم د.جمال شحيّد، والموسيقي آري جان سرحان الذي أطلق ألبومه الأول “جيان” وتعني حياة باللغة الكردية.
فتح الاحتفاء بـ”مينا” وبالمواد المقدمة السؤال عن ميزة الفعل الثقافي السوري في لبنان. ما يميز بيروت أنها تشكل الخط الفاصل بين الداخل السوري والخارج والشتات، فرغم الوضع السياسي المزري في التعامل مع السوريين، والصعوبات الجمة الموضوعة على دخولهم الأراضي اللبنانية (وهذا ما يدفع البعض إلى قطع الحدود خلسة ودفع حياتهم ثمناً لذلك)، لكن بالرغم من ذلك تبقى بيروت هي محطة اللقاء والعبور للسوريين، والفعل الثقافي فيها يتردد صداه في دمشق وأوروبا معاً، من هنا كان العرض الفني الحي فيها بالنسبة للسوريين الآتين من أوروبا هو أقرب محاولة للتواصل مع الجمهور السوري والعربي، ومن جهة أخرى كانت لدى المقيمين في سورية النافذة الأقرب على العالم الخارجي. لذلك يأخذ الفعل الثقافي السوري في لبنان هذا المنحى، ما يساهم في تفتيت ثنائية الداخل /الخارج السورية.
ثنائية داخل/ خارج …. مقتل الفن السوري
لا أبغي بالحديث عن تفتيت ثنائية داخل/ خارج كسر الموقع الجغرافي للسوريين، فذاك مستحيل في ظل أكبر هجرات العصر الحالي، وانتثار السوريين في العالم أجمع، فمن هم في الداخل بالفعل في الداخل، ومن هم في الخارج كذلك أيضاً. ما أقصده هو تفتيت الخطاب التكريسي لهذه الثنائية، سواء كان صادراً من (الداخل) أو من (الخارج)، هذا الخطاب الذي حالما يخرج من منبر ثقافي يكون أخطر وأسوأ لأنه يقسّم الفن السوري إلى فن داخل سورية وفن خارجها، وليس فناً سورياً واحداً بغض النظر عن مكان عرضه وتقديمه. وأبعد من ذلك، فإن هذه الثنائية تسوّي الفن بالسياسية، فالأخيرة كرست هذه الثنائية ودعت إلى تدعيمها (جرى ذلك من الداخل والخارج) منذ خروج الرهط الأول من السوريين تحت اندلاع النار السورية، وبعدها تعالت الأصوات التي فصلت بين من هم في (الداخل) ومن هم في (الخارج)، وبدأت بالظهور تعميمات شوفينية من قبيل: من خرج من سورية خائن وجبان ولولا ذلك لعاد إليها، أو من يقيم في سورية يحابي النظام ويؤيده ولذلك هو يجلس في حضن المنظومة الحاكمة ولولا ذلك لخرج منذ زمن. إن مثل هذا الفصل الغوغائي يكبر خطره حينما يصل إلى الفن والثقافة، لأنهما البوابات الوحيدة للسلم الأهلي السوري فيما بعد، وبذلك تخرج خطابات (جماعة الداخل وجماعة الخارج) من حيزها المباشر المرتبط بمكان وجود السوري، إلى حيز أوسع حينما يتضمنها أي عمل فني أو أدبي يدعي صاحبه رحابة الصدر وسعة الأفق.
ربما كان الفلسطينيون أكثر من عانى من ثنائية داخل/خارج التي تولدت عن اللجوء في النكبة والنزوح في النكسة، ولم يتمكن المسخ السياسي المسمى “اتفاقية أوسلو” من كسر هذه الثنائية مثلما ادعى، وتحقيق حق العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين، على العكس تماماً، ساهم في تكريسها وفي جعلها ثنائية أساسية في سردية الشعب الفلسطيني، بينما تمكن الفنانون والمثقفون الفلسطينيون من تجاوز هذه الثنائية إلى حد ما، وذلك ما يقع على عاتق الفن والعمل الثقافي السوري، وهو تفتيت الثنائيات التي تنتجها الحروب والهجرات ويستثمرها الساسة وبائعو الدم، ومثل هذا الفعل التنويري لا يمكن أن يقدمه عمل فني (في الداخل والخارج) يتم تبعاً لبروبغندا سياسية، فمثل هذه الأعمال يكنسها الحقل الثقافي مع الزمن، إنما قصدت هنا الأعمال الجدية والخلاقة التي يقدمها السوريون اليوم رغم مرارات الحرب (داخلاً) واللجوء (خارجاً).
المسرح نموذجاً
يحتل المسرح مكانة أساسية بين الأفعال الثقافية في الحال السورية، لأمرين، الأول أنه رغم الحرب الطاحنة بيد أن المسرح السوري استمر بتقديم إنتاجات احترافية، سواء داخل دمشق أو في بيروت وتركيا وأوروبا، إذ تمكن الإنتاج المسرحي في سنوات الجمر من تقديم عروض بتمويل مستقل داخل سورية قدّم العديد منها في دمشق، عروضاً جدية تدلل على موهبة أصحابها، ومنها من تمكن في الخارج من التجوال في العالم وإيصال صوت السوريين إلى الآخر. كما كان لبيروت نصيب وافر من العروض السورية، فأتتها عروضٌ قدمت في دمشق، كما عُرضت فيها مسرحيات سورية قدمت في أوروبا سابقاً. أما الأمر الثاني فهو الحالة الحية التي يستلزمها العمل المسرحي، حين يكون التواصل مع الجمهور مباشراً وحيّاً دون وسائل حديثة، ما يعزز الأثر في المتلقي، سواء كان أثراً يصل إلى تطهير بالمعني الأرسطي للكلمة، أو أثراً يخاطب عقل المتلقي وذهنه. بيد أن هذه الميزة الأخيرة قد تستحيل إلى فخ يفضي إلى هوة دون قاع حينما يصبو صناع المسرح إلى استثارة شفقة الجمهور، واستدرار عاطفتهم كون ما يتابعونه سورياً مكلوماً، مثال ذلك ما عرضته منذ أيام إحدى القنوات الألمانية الناطقة بالعربية ــ وعادت وحذفته دونما سبب ــ إذ أجرت المحطة تحقيقاً صحافياً عن ثلاثة راقصين سوريين يدّعون “أنهم بكوا حينما رأوا راقصين عراة على خشبة مسرح ألماني ما”، ويظهر الشريط هؤلاء وهم يخاطبون جمهورهم الألماني بأن “ما قدموه على الخشبة ما كان ليقدم في دمشق لأن الناس هناك لا تستسيغ الرقص التعبيري، ولا يمكن لأحد أن يرقص في دمشق لأن ذلك سيعرضه إما للقتل على أيدي داعش أو الاعتقال من قبل النظام”، بداية لم أفهم لماذا سيعتقل النظام ــ وأي نظام في العالم ــ راقصين يؤدون قطعة أدائية تعبيرية، قبل أن يعلم ما هي خلفيتهم السياسية وموقفهم تجاهه. لكم هو مرعب مثل هذه الخطابات التي تنسف كون سورية بلداً حضارياً، وسيبقى كذلك رغم الحرب، ليس فيه قسم جامعي مخصص لدراسة الرقص التعبيري وحسب، بل يحتوي على العديد من معاهد ومدارس الرقص الخاصة والعامة، بالإضافة إلى الفرق المسرحية الراقصة السورية التي تجولت في العالم. إن مثل هذه الخطابات الفنية السالفة، رثة، ولا تقدم نفسها كعرض سوري لديه ما يقوله عن ما يجري في بلاده، بل هي عروض تستجدي الشفقة من الجمهور الأوروبي، شفقة تضع العرض الفني في منزلة الصفر، وتقدمنا، نحن السوريين، على أننا ضعفاء ومغلوب على أمرنا في بلادنا، وذلك ما يرفضه رفضاً قاطعاً كل عمل فني أصيل.
يوماً ما، ستنتهي الحرب السورية، وسيتمكن اللاجئون من العودة من منافيهم القسريّة إلى بلادهم والعمل فيها، وسيقدر القابضون على جمر كلمتهم في الداخل نطقها بحرية، حينها لن يبقى من الأعمال الفنية السورية إلا ما هو أصيل وجدي، أي تلك الأعمال التي دأب أصحابها على تقديمها كعمل فني سوري (مسرح، سينما، نص أدبي…الخ)، وليس كعمل قادم من بلاد الموت، ضعيف، ومغلوب، يستجدي الشفقة ويطلب المساعدة.
ضفة ثالثة