النصرة و”تاريخية” القاعدة
محمد سامي الكيال
عندما يدور الحديث عن “جبهة النصرة” أو أيٍّ من شقيقاتها في تنظيم “القاعدة” يغيب مستوى التحليل في الخطاب وينفتح المجال واسعاً للأيديولوجيا والمسبقات الدوغمائية، خصوصاً على مستوى الخطاب الثقافي “العالم” والمكتوب، والذي يحتله على المستوى العربي مزيج من الليبرالية وبقايا اليسارية السلطوية (بنت فلسفة “التقدم” والدولة) فيما عرف حديثاً بالتيار “المدني”. هو مزيج عقائدي حكماً بمفاعيل الشرط الفكري لثقافة سائدة متكلسة مفاهيمياً وعاجزة بنيوياً عن مواكبة الحركة الاجتماعية، وبالتالي ثقافوية حتماً في معالجاتها، يسود فيها منطلق “الحكم” و”التقييم” على منطلق “البحث”. هكذا يسقط غالباً من الخطاب “المجتمع” و”التاريخ”، بكل تلاوينهما ونسبيّتهما، لمصلحة “الصحيح” و”الخاطئ”، و”الجيد” و”السيء”، وهي صيغ شبيهة وظيفياً بصيغة “الحلال” و”الحرام” الإسلاموية.
تنظيم القاعدة هنا، في ثقافة تقبل الضدية المطلقة، هو الآخر الجوهري، وبالتالي فهو الأقرب منالاً للطرد الثقافوي من كل سياق اجتماعي وتاريخي، بالنسبة لكثير ممن يصوغون الخطاب “المدني” هو خارج كل شرط، لا مجتمع أو سياسة أو ظرفاً تاريخياً لنشأة وفعل وخيارات القاعدة، تطغى المعالجات الوجودية لتعيين الظلامية المطلقة والشر الاجتماعي والعبثية السياسية التي تحدد الهوية الجوهرانية لتلك المجموعة من وجهة النظر الليبرالية. وبالنسبة إلى بقايا اليسار السلطوي هي مؤامرة متنقلة تنشاً بفعل فاعل فيما يشبه العدم الاجتماعي عندما يغيب فيه “الوعي السليم”!
تناسب هذه المعالجات الخطاب الكلاسيكي للقاعدة وسعي منطوقها الأيديولوجي لتغييب التاريخ كي يعيش السلف مع الخلف في وئام يعطي للفعل السياسي شرعيته وللهوية اتساقها، في قفزة نحو المطلق المريح ضمن واقع تاريخي تصعب عقلنته؛ تطمس القاعدة دنيويتها وسياستها المحتمتين في قفزتها تلك وتساعدها في ذلك ادعاءات ومزاعم خصومها وأعدائها. في الحالة السورية نشأت أسطورة “النصرة” من هذا التواطؤ المضمر بين اتجاهين في عقلٍ واحد، عقلٍ أساس اشتغاله هو “الأحكام” التقييمية الجاهزة المُسقطة للسياقات، وأولها التاريخ. فمن جهة كانت الضجة الكبرى التي أثارها أعداء النصرة والتي أعطت للجبهة حجماً وحضوراً وتأثيراً لم تملكه يوماً، وجعلتها الجوهر السيء الذي يشوب بياض الثورة ويشوش أهدافها (ولا نعرف مَنْ وبأي سلطة حدد للثورة ماهيتها وأهدافها بهذه الأحادية الواثقة)، وملأت الدنيا صراخاً عن انتهاكاتها وتجاوزاتها النابعة بنيوياً من كونها شراً خارجياً وافداً يرتكب جرائمه بحكم تكوينه ذاته، ومن جهة أخرى كانت الإستراتيجية الإعلامية الذكية للنصرة والتي أنبنت على الوضوح العسكري والميداني والغموض الأيديولوجي، مع التنغيم على وتر “الغربة” والجهاد إلى يوم الدين دون تعيين.
هكذا طمست النصرة بمساعدة خصومها كل شيء عن سياستها ومجتمعها وواقعها، وبقي الوضع مريحاً فكرياً ومفيداً عملياً وسياسياً للطرفين: النصرة شماعة لأعدائها وحكاية جهاد وبطولة تكتنفها كل جاذبية الغموض بالنسبة للمتعاطفين معها، وبالحالتين هي أسطورة متضخمة خارج التاريخ.
إلا أن حدثاً خارجياً عكّر صفو هذا التوافق المريح: البغدادي، زعيم قاعدة العراق، يكشف ما يناسبه من أوراق النصرة، فيضع الجميع في موقف محرج، بات على النصرة أن تحدد موقعها على خريطة الواقع والسياسة، وأن تبحث عن تاريخية ما لها كي ترد على البغدادي. خطاب الشيخ أبي محمد الجولاني حاول أن يفعل هذا دون أن يخرج من أولويات خطاب النصرة اللاتاريخي واللاسياسي من ناحية اللغة، ولكنه مضموناً أوضح أسس الوجود التاريخي للجبهة: نحن كنا من مجاهدي العراق، اليوم نجاهد في الشام ونحترم خصوصيتها المحلية، ومضطرون لقبول الآخر والتعاون معه، ليس لمجاهدي العراق سلطة علينا رغم ما بيننا من ماضٍ، ولذلك نلتجئ إلى الحضور الرمزي لأمير الجهاد الظواهري لنتقي به السيطرة العملية التي يحاول البغدادي أن يفرضها علينا. وليس المهم الدولة الإسلامية ولكن المهم هو الجوهر: الدفاع عن المسلمين وتنظيم شؤونهم بالتعاون مع الآخرين (منذ متى كان السلفيون الجهاديون يؤثرون جوهر الأحكام الشرعية ومقاصدها على ظاهرها وحرفيتها؟!! وكيف لم ينتبه الكثير من الإسلاميين والعلمانيين لهذا الإعلان الخطير على المستوى العقائدي والعملي؟!)
ليست النصرة خارج التاريخ وحيثياته إذن، وإذا كانت قاعدة العراق قد قررت الانتحار السياسي والميداني في فترة أفولها وانكفائها بتأسيس دولة افتراضية خارج التاريخ حقاً هي “دولة العراق الإسلامية”، فإن النصرة تظهر أنها أكثر تعقلاُ وسياسةً وواقعية، هي في مرحلة تقدم على الأرض فليست مضطرة للانتحار، وهي بنت التاريخ السوري المعاصر وتناقضاته، وليست ظلاماً وظلامية خارج التاريخ كما أصرّ معظم من حلل الخطاب من “المدنين” الذين اثبتوا أنهم يملكون ذات الآليات الذهنية للتعقل التي يملكها أكثر المغيبين بالإسلاموية تطرفاً، فظلوا في المدارات اللغوية السطحية للخطاب التي قصد بها الجولاني مخاطبة السلفيين الصغار وإبقائهم على السطح العقائدي لإبعادهم عن ضرورات الواقع والتاريخ والسياسة… المخيبة للآمال الدوغمائية ربما.
إذاً تنجح النصرة من جديد، ويفشل العقل الثقافوي الدوغمائي كالعادة! فبدلاً من أن يُعلمِن النصرة ويضعها في سياقات التاريخ ليكسر الهالة التي تحب (وغيرها من الإسلاميين) أن تصطنعها لنفسها، يؤسلمها ويجعلها خارج التاريخ متوافقاً مع فعل أيديولوجيها وسعيهم.
المدن