النصف الناقص
عناية جابر
هكذا أنا، ساذجة في قراءة الحال السياسية ويسهل خداعي. يسكنني هذا التوق الذي لا يبارى للانعتاق من إرهاصات الوضع العربي. الآن، بعد الفوضى الضاربة في مصر، أشعر كما لو انني تحت وطأة خديعة كبرى، وتتملكني ألوف الظنون والمخاوف الظرفية، منها الانسلاخ إلى حد، عن مبتدأ وبراءة كل الثورات، التي يعمل على إجهاضها، سواء في اليمن أو تونس أو مصر أو سواها، كما لو كان قيامها مجرد مصادفات بسطت يدها، ثم استعادتها حاذفة بركة تلك الشعلة التي عادت وأغلقت على نفسها في لحظة بربرية، احتشد لها بضراوة كل أعداء الثورات وأعداء الحرية.
بقيت الثورات حساً غامضاً يرافقه ظل بأنها ليست إلا نصفاً من حالة، نصفا من حالة جميلة، وثمة ما هو ناقص لحفظ التوازن، وتتقدم خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء مثلما يفعل بهلوان سائر على حبل، يحاذر التأرجح والسقوط.
هناك هذا الجدار الذي انتصب مع الوقت، ويرخي ظلال عتمة ما بين بدايات الثورات وحاضرها. وهي نتابعها كما أن لو دودة الخشب تستطيع الاستدارة إلى الأمام كما تشاء، بل وحتى تعرف تكتيك الاستدارة إلى الخلف، ولكنها تترك وراءها مساحة فارغة دائماً، سرعان ما يحتلها أعداؤها. يسكنني الآن هذا الشعور بالمساحة العمياء المقطوعة وراء امتلاء كل شيء، في هذا النصف الذي يظل ناقصاً دائماً، حتى عندما يكون الهدف واضحاً والنوايا الطيبة كلا واحداً.
إننا جميعاً نهجس بالشكوك بالطبع، حين نفكر ونحدس ونشعر بأشكال مختلفة من البدائل عن قهر الأنظمة الاستبدادية، بدائل عن أي قهر. شكوك تتجلى عند الشباب الثائر كشعور واضح بعدم التأكد. شكوك في ما إذا كان ما نفعله صحيحاً. لست متشائمة، لكنني قلقة من اصطدام القوى الروحية للثورة، بتلك الثأرية الكيدية التي يدخرها الشر. اصطدام قوى الثورة بتيارات سوداء، باهتزازات بركانية متموجة قادرة. قوى ملعونة تفوق بشكل هائل قوى الشباب الطاهرة، نسيبة النجوم، وتندفع كل منهما باتجاه الأخرى، عواصف بالغة العصف.
رغم فداحة كم الشهداء الذين سقطوا، شوهوا أو اختفوا، نرى كم هو قليل (بسبب شكوكنا) ما أنجزنا، نسبة إلى ما كنّا نحلم بإنجازه في الحقيقة. وما بين ذلك نجد العزاء بأننا قد بدأنا على الأقل، ورمينا بذرة ما في أرض خصبة، وهي لا بد نشطة وطيبة، بحيث إن ما فعلناه، ولو بدا قليلاً، يظل يمثل تسوية عادلة. وفي النهاية نفكر بأن المزيد من الإصرار والبذل والصبر، هو الأمل الخالص، ومن خلاله ينمو في الواقع، النصف الثاني من الأمر الكامل والجميل.
السفير