صفحات سوريةفايز ساره

النصوص والمسارات السياسية في دمشق


فايز سارة *

حكاية السوريين مع النصوص ومساراتها السياسية حكاية، تكاد تكون معروفة، وخلاصتها ان النصوص في اتجاه والمسارات السياسية في اتجاه آخر، بمعنى ان ثمة افتراقاً بين التفكير والتدبير في الواقع السوري، والامثلة في ذلك أكثر مما يمكن حصره، وهي مستمرة وحاضرة في سلوك الدولة السورية وحكوماتها، كما هي حاضرة عند الجماعات السياسية، وبالتالي عند قادة في تلك الجماعات بغض النظر عن اتجاهاتها الأيدولوجية والسياسية.

لعل الابرز في افتراق النصوص عن المسارات، حاضر في تناقضات الدستور السوري، وهو الروح التي تستمد منها كل القوانين، وعلى سبيل المثال، فإن الدستور يصف النظام بأنه ديموقراطي، فيما مسار النظام ديكتاتوري استبدادي، وبينما ينص الدستور على مساواة المواطنين، فإن الواقع يؤكد غياب المساواة في جوانب سياسية واجتماعية وثقافية، كما في التمايزات بين الجماعات السياسية، وبين النساء والرجال، وبين العرب والأكراد على التوالي.

والنصوص التي تطلقها الحكومات رسماً لخطوط سياساتها، تختلف الى حد التناقض، هي الاخرى عن ممارساتها، وأمور كهذه لا تحتاج الى كثير من التدقيق. اذ يكفي التوقف أمام نتائج السياسات الحكومية في مجالات عامة مثل التعليم والصحة والتشغيل والتنمية الاقتصادية، والتي واصلت تردياتها في العقود الماضية على رغم كل البيانات الوزارية والخطط الخمسية الطامحة، التي كانت وعدت السوريين بتغيير حياتهم الى الافضل.

ولا يختلف الوضع عما سبق في نصوص الجماعات السياسية ومسار تلك الجماعات، وهو امر ينطبق على حزب البعث الحاكم الذي اعطاه الدستور السوري لسنوات طويلة صفة «الحزب القائد للدولة والمجتمع» بأهدافه المعروفة في «الوحدة والحرية والاشتراكية»، فأقام نظاماً مختلفاً، يتعارض بصورة كلية مع هذه الاهداف، التي افردت وثائقه حيزها الاكبر للحديث عنها وشرحها بصورة مطولة ومملة، والامثلة تتكرر عند غيره من الاحزاب العقائدية، وعلى رغم «وطنية» أو «أممية» نصوص الاحزاب في الجماعات الاسلامية واليسارية، فقد سارت اغلب الاحزاب الاسلامية نحو بلورة جماعات دينية، لا تخلو من صبغة طائفية، وتمخضت ممارسات اليسارية عن جماعات اقلوية ذات تداخلات دينية وعرقية وطائفية بدل توجهاتها الوطنية والاممية.

وفي طبيعة الحال، لا يمكن النظر الى ثورة السوريين الراهنة بمعزل عن الاختلاف بين محتوى النصوص السياسية ومساراتها التنفيذية، وهي المسؤولة عما آلت اليه اوضاع سورية والسوريين من ترديات، تعبر عنها مؤشرات الازمة السياسية الاقتصادية – الاجتماعية والثقافية السائدة، والتي كانت بين اسباب الثورة، والاساس الذي قامت عليه شعارات المتظاهرين، ليس فقط في مطالب الحرية والكرامة وصولاً الى مطلب إسقاط النظام او تغييره، انما ايضاً في اعلان رفضها سياسات النظام، والتشكيك بقدرة المعارضة وبعض قياداتها على القيام بدور فاعل ونشط في الثورة وفي أخذ البلاد الى مستقبل افضل.

ان الاسباب التي قام على اساسها التناقض بين النصوص والمسارات، او بين التفكير والتدبير السياسي في سورية، انما تستند الى ضعف البنية السياسية في المجالات الايديولوجية والسياسية، كما في المجالات التنظيمية، والى تغليب الشعارات على دراسة الواقع السياسي ورسم المسارات المطلوبة انطلاقاً منه، وليس بالاستناد الى الشعارات، ونتيجة ضعف الشخصيات السياسية وهامشيتها في الغالب الاعم، اذ ليس من مسار تعليمي او تدريبي للكادر السياسي الذي يهبط غالباً بطريقة ما الى مكانه في القيادات السياسية السورية، قبل ان يأخذ في التجريب على حساب جماعته وعلى حساب من يدّعي تمثيلهم من الناحية السياسية.

وثمة نسق آخر من اسباب التناقض بين النصوص والمسارات، يستمد حضوره من اوضاع قائمة وحاضرة في لحظتها السياسية، حيث يكون مطلوباً رسم تصورات لمسارات سياسية اقتصادية واجتماعية في مرحلة معينة، ولا سيما في ظل الازمات والاحداث الكبيرة. فتلقي تلك الظرفية بأعبائها على النصوص، فتجعلها حافلة بالوعود والآمال، التي لا يستطيع الواقع احتمالها ولا يملك امكانية تطبيقها على نحو ما هو عليه الوضع الحالي في سورية، ومثاله الراهن نصوص السلطة وكلامها حول الاصلاح وقوانينه، فيما تتجه البلاد بفعل سياسات السلطة نحو مزيد من الدمار والخراب نتيجة الحل الامني – العسكري وتداعياته. ومثاله الآخر في نصوص ومواثيق تطلقها بعض كتل وجماعات وشخصيات في المعارضة حول السياسات المطلوبة وآفاق المرحلة المقبلة، لكن واقع المسارات المتصلة بذلك لا تشير الى السير في الاتجاه الصحيح، ونظرة الى بعض المعلن في وثائق كتل المعارضة السياسية الثلاثة، المجلس الوطني وهيئة التنسيق والمجلس الوطني الكردي والقوى المنضوية في اطارها تبين كثيراً من التناقض بين النصوص وتطبيقاتها.

لقد حان الوقت لتفكير سوري جدي من اجل ازالة التناقض بين النصوص والمسارات، بين التفكير والتدبير في السياسة السورية، وما لم تحل هذه القضية، فإن البلاد تسير الى واحد من خيارين سيئين، اولهما خيار الضبط الامني على نحو ما هو حاصل الآن، سواء كان الضبط هو ضبط النظام الحالي بأدواته الراهنة على رغم فرصه الضعيفة، او كان ضبطاً امنياً تنتجه ثورة السوريين ضد نظامهم الحالي، وهو ضبط لن يختلف بصورة جوهرية عن الوضع الحالي، وإن كان سيتضمن ملامح تجميلية. اما الخيار الثاني، فهو ابشع من خيار الضبط الامني، اذ سيأخذ السوريين الى انقسامات متعددة ومختلفة، وليس لها من نواظم موحدة، ربما يكون النموذج الصومالي هو الاقرب اليها

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى