النضال الايدلوجي والعلاقة المباشرة مع الناس: المثقف العضوي والآخر الكوني بين غرامشي وهادي العلوي
علاء اللامي
ترك المفكر العراقي الراحل هادي العلوي الكثير من الشذرات المكتوبة، والمداخلات المبعثرة، حول مفهوم ‘المثقف الكوني’ والذي يسميه أحيانا ‘المثقف الأمي’ كما أصَّلَهُ في التراث و الحاضر، وكما قارنه فميَّزه عن مفهوم ‘المثقف العضوي’ الذي سبق أن نظَّر له المفكر الماركسي الإيطالي الرائد أنطونيو غرامشي.
ولعل أقصر وأوضح تعريف نجده بقلم العلوي للمثقف العضوي هو التالي (هو غرار المثقف الذي يتميز بعمق الوعي المعرفي والوعي الاجتماعي معا، وبعمق الروحانية التي تجعله قويا على مطالب الجسد، ومترفعا في تجربته الحياتية الشخصية على الخساسات الثلاث وبالتالي قادرا على خوض النضال ضد سلطة الدولة وسلطة المال ومن أجل الشعب….ومن الذين يصدق عليهم هذا الوصف هم الذين تضمنتهم قائمة الأبدال في مدار الباء /حوار الحاضر والمستقبل /ص 158 سنشير إليه لاحقا بكلمة ‘حوار’) مع الإشارة إلى أنه كتب في موضع آخر من كتاب آخر هو مدارات صوفية ـ سنشير إليه لاحقا بكلمة مدارات- فيعدد السلطات الثلاث كالتالي: سلطة الدولة وسلطة الدين وسلطة المال. وهو يقصد بسلطة الدين، سلطة رجال و علماء الدين حين يُحِلُّون أنفسَهم محل النص الديني أو المطلق الديني. والأبدال مصطلح صوفي قطباني بعثه
العلوي من جديد. يعني في لسان العرب ‘قوم صالحون بهم يقيم اللهُ الأرضَ .. لا يموت منهم أحد إلا قام مكانه آخر فلذلك سُموا أبدالا. وقال بن السكيت: سُمي المبرزون في الصلاح أبدالا لأنهم أبدلوا من السلف الصالح ‘أي قاموا مقامهم بعد ذهابهم’ ..
وأورد المناوي في شرح الجامع الصغير عن علي بن أبي طالب أنهم ‘لم يسبقوا الناس بكثرة الصلاة ولا صوم ولا تسبيح ولكن بحسن الخلق وصدق الورع وحسن النية وسلامة الصدر … وفي ‘تنبيه المغتربين’ للشعراني عن النبي: إنهم لم يدخلوا الجنة بكثرة صوم ولا صلاة وإنما دخلوها بسخاوة النفوس والنصح للأمة’. وتضمُّ قائمة العلوي عشرين بدلا نذكر من بينهم: الحلاج ولاوتسه ومنشيوس ويسوع المسيح وأبو ذر الغفاري وغوته وماركس وعامر العنبري والنُفَّري وعبد القادر الجيلي ‘الكيلاني’ ولينين وتولستوي.
ولكي نوضح أكثر مضمون مصطلح ‘المثقف الكوني’ نمرُّ الآن على مقارنة وردت في ردِّ للعلوي.
يسأله محاوره خالد سليمان: أليس ‘مثقفك الشرقي المتماهي مع الجماهير’ هو مثقف غرامشي العضوي؟ فيجيب العلوي (يختلف .. فالمثقف العضوي، هو الفعّال في المجتمع لأجل إحداث التغيير. ولا شك أن التغيير الذي كان يريده غرامشي يتحدد ضمن المفهوم التاوي للدولة أي أن توضع في خدمة الشعب. لكن اشتراطات المثقف العضوي، كما تحدث عنها غرامشي، تدخله في ساحات تبتعد به عن هموم الناس.
ومن هنا لم تكن تجربة الحزب الشيوعي الإيطالي عميقة وسط الجماهير، ولم يستطع أن ينافس ‘الكثلكة’ على مواقعها لأنه ركز كثيرا على النضال السياسي والأيديولوجي، ولم ينشئ مؤسسات القاعدة التي تخدم المصالح اليومية من هنا كان مثقف غرامشي العضوي مناضلا سياسيا أكثر منه مناضلا اجتماعيا / حوار ص66)
ليست مشكلة العلوي مع مصطلح غرامشي في النسيج المضموني لفكرة المثقف العضوي، بل يمكننا أن نراها بوضوح في طبيعة مهمته. إن مهمة المثقف العضوي – بحسب غرامشي – هي المساهمة في بناء وتشكيل الهيمنة الثقافية والمشاركة لتكوين طبقة من المثقفين الجدد لصالح مشروع الحياة الجديدة الذي يبشر به الحزب الثوري. أما العلوي فيعتبر ما يدعى بالنضال الفكر والثقافي والصراع الآيديولوجي لغواً فارغا ومضيعة للوقت مثله مثل النضال السياسي للحركات والأحزاب الشيوعية. في نظر العلوي لا ينبغي أن تكون الشيوعية ‘المشاعية’ حركة سياسية هدفها الوصول إلى الحكم لتنتج دكتاتورية سياسية، بل يمكن أن تبدأ الحركة الشيوعية ببناء المجتمع المشاعي حتى وهي خارج السلطة عن طريق تأسيس المؤسسات الاستهلاكية والإنتاجية المحكورة المنتجات للفقراء ومحدودي الدخل والمباعة لهم بسعر التكلفة. هو لم يشترط أصلا وجود حزب أو حركة شيوعية في السلطة لتحقيق ذلك الهدف، مع أنه رأى في وجود حزب اشتراكي أو شيوعي أو يساري في السلطة أمرا يسهل تحقيق البرنامج المشاعي، ولكنه قال بإمكانية العمل على تحقيق المساواة المشاعية حتى بوجود سلطة يمينية من حيث الأيديولوجيا التي تتبناها كأن تكون بقيادة الإخوان المسلمين كما قال ذات مرة. وقد تبدو هذه الفكرة باعثة على الضحك في نظر دعاة الشيوعية السياسية الفوقية ‘التقليدية’ التي فشلت مرارا وتكرارا وتم تدمير انجازاتها بسهولة من قبل العدو الطبقي الداخلي والخارجي في عهد غورباتشوف ودنغ سياو بنغ، ولكنها تنسجم تماما مع تنظيراته حول التفريق بين الشيوعية الاجتماعية القاعدية وبين الشيوعية السياسية الفوقية، التي تكرس ثلاثة أرباع جهود أحزابها ومناضليها لما يسمونه النضال الفكري والأيديولوجي، متخلية هكذا عن مهمتيها الرئيسيتين: البدء ببناء مشاعية القاعدة باستقلال عن الدولة أو بإرغامها على المشاركة في البناء وإعطاء الحقوق لأصحابها، والمساهمة في مقاومة الهيمنة الغربية الإمبريالية بجميع الأشكال الممكنة ضمن الموقف الوطني الجذري.
نقرأ في تعقيب له على ‘ملف الإصلاح الديني والسياسي’ والذي كتبه في التسعينات من القرن الماضي على الأرجح وبناء على رجاء من هيئة تحرير مجلة ‘الطريق’ اللبنانية الشيوعية، ثم لم تجرؤ على نشره، يكتب العلوي منتقدا كاتبة لبنانية من صفوف اليسار قالت في اجتماع حضره ‘ إنَّ مشكلتنا اليوم ليست مع الإمبريالية ولا أنظمة قطاع الطرق بل إن الإمبريالية مسمى موهوم، وإن الولايات المتحدة تتصرف كدولة مسؤولة عن العالم، وينبغي دعمها لئلا تنهار، وإنْ انهارت سينهار العالم، وعلينا ان نقف بجانبها وندعمها حتى لا تنهار، وصدَّق على قولها جميع الجلساء.. هكذا يصبح العدو الأوحد لتسعين بالمئة من مثقفينا هو الإسلام ‘السياسي’ وهذه الإلحاقة للتمويه، فالعدو هو الإسلام نفسه: تاريخه الحضاري وتراثه العظيم ومنجزاته العالمية التي مهدت بالتكامل مع منجزات الحضارة الصينية لولادة العصر الحديث … إن الصراع الحقيقي في الساحات الحقيقية ليس صراعا فكريا، ومشكلتنا ليست مشكلة أيديولوجية. وما هو مستهدف من قبل العدو ليس الثقافة ولا المثقفين بل هي أراضينا وثرواتنا وكرامتنا الوطنية فالصراع هو صراع بين معتدِي ومعتدَى عليه …تحت رعاية هؤلاء الساسة يعمل فريق واسع من مثقفينا ويشاركونهم نفس الخساسات ونفس الهواجس رافعين معهم راية الحرب على الأصولية. والأصولية من جهتها ليست إلا الوجه الآخر للعملة المزيفة / ص 38/المرئي ولا مرئي في الأدب والسياسة’. وإذا كان غرامشي يرى ‘ان الحزب الثوري هو وحده القادر على تكوين طبقة جديدة من المثقفين العضويين المرتبطين بهموم الناس وقضايا العمال والفلاحين …وان هؤلاء المثقفين العضويين يمكنهم ان يشكلوا هيمنة بديلة عن الهيمنة البرجوازية’ وإذا كان غرامشي هو الوحيد الذي اعتقد بأهمية المثقفين ودورهم في التغيير، إذ كان يؤمن بأنهم قادرون على صنع المعجزات إذا ما التزموا بقضية الشعب الأساسية التزاما عضويا وحيويا، وأن البورجوازية تخشاهم وتعرف أن نفوذهم كبير ولذلك تحاول أن تشتريهم بأي شكل، فإن العلوي يرى في المثقفين، كما راقب نموذجهم العراقي والعربي عن كثب، أسوأ العاملين والناشطين في ميدان تحقيق المشروع الاشتراكي الشيوعي وأيضا في ميدان القضايا الوطنية الأخرى في فترات العدوان الغربي ومجازر الصهاينة بحق الشعبين الفلسطيني واللبناني والحصار على العراق في عهد دكتاتورية البعث، وفي قضية الدفاع عن نهري دجلة والفرات في وجه المشاريع التركية والإيرانية.
ولأننا ما نزال بصدد المثقف ودوره الأيديولوجي يمكننا ان نشير إلى انتباهة عميقة ومهمة جدا يفرق فيها العلوي بين الأيديولوجيا الدينية والأخرى العلمانية في العصر الحديث
فحواها أن الأولى أثبتت أنها أرسخ في نفوس الناس من الثانية. يُفَصِّل فيقول ‘فالجماهير في البلدان الاشتراكية -السابقة ـ اعتنقت الماركسية اللينينية ضمن صراعها الطبقي ضد الإقطاع ورأس المال، فكان التلازم قائما بين الأيديولوجيا والواقع، فلما انحرف الواقع عن الأيديولوجيا، تخلى الناس عنها. أما العقيدة الدينية فتنشأ من الإيمان المجرد بالقوة الغيبية، وهو إيمان موروث تكوَّن مع ظهور الإنسان وخروجه من مرحلة النسناس فهي كامنة في أعماق اللاشعور الجمعي للإنسان. (حوار ص 51)’.
يعرف ‘غرامشي’ المثقف تعريفا فضفاضا، فهو يرفض تصور وجود نشاط فكري أو ذهني خاص بطبقة اجتماعية معينة، ويمكن أن نجد هنا رفضا للتخصصية في الثقافة. ولكنها قد تعني أكثر من ذلك وصولا إلى رفض الفصل بين النشاط الفكري والآخر اليدوي. الأول لا يخلو من الثاني والعكس صحيح. ويلخصه قوله ‘جميع الناس مثقفون من وجهة نظري، وكل إنسان يملك وجهة نظر هو مثقف بمعنى معين’. إن العلوي يخطو خطوة أبعد وأجرأ في هذا الاتجاه إلى درجة تجعله يتقاطع مع المفهوم الشائع للمثقف العضوي، وذلك حين يعطي ميزة فرادة وأفضلية للمثقف الأمي على المثقف المتعلم وحامل الشهادة. فالأمي قد يكون حكيما أو نبيا أو مصلحا كبيرا، أما ‘المثقف الجاهل’ فيبقى جاهلا حتى لو حاز جائزة نوبل ومعها عدة شهادات كالدكتوراه.
العلوي لا ينكر أو يخفف من تشنجه بل وعدائه للمثقف بهذا المعنى، أو حتى بمعانٍ أفضل منه قليلا، وقد قال بهذا الصدد مفسرا موقفه ‘سبقني إلى معاداة المثقف شيخنا الروسي – يقصد لينين ـ الذي اتهم المثقفين بالرخاوة والروح البرجوازية، وهذا الوصف يأتي من طبيعة الثقافة الغربية. ومثقفونا العرب غربيون في جملتهم. وعدائي لهم جزء من عدائي للثقافة الغربية ـ الثقافة الغربية وليس الثقافة الحديثة فهذه الأخيرة يدافع عنها العلوي ويعتبرها إنجازا لكل البشرية وللعرب المسلمين فيها حصة ضخمة منها الفلسفة الرشدية التنويرية. على ان الأكثرية الساحقة لمثقفينا لا تفرق بين ثقافة غربية وثقافة حديثة وهي تستلهم النقائص الغربية على السواء وسلوك مثقفينا مأخوذ من هذه الثقافة، ولذلك نجد التكالب عندهم على الامتيازات وقلما أجد فيهم مثقفا يرضى بالكفاف في العيش أو يقتنع بامرأة واحدة هي زوجته أو يتعالى على الشهرة والجاه.. عندنا شعراء يلطمون في شعرهم عن الجياع ولكن حلمهم الأقصى هو الحصول على قصور يسكنونها ليكتبوا فيها الشعر لأن الشعرعندهم لا يكتب إلا في ظروف جيدة.. وجميع هؤلاء يتكالبون على ترجمة مؤلفاتهم إلى اللغات الغربية حتى يقرأهم الغرب ويشتهروا هناك ومعظمهم يدفع الرشوة لهذا الغرض، مؤكدين بذلك تبعيتهم للمرجع الغربي ومن هنا ضعف شعورهم الوطني وانسلاكهم في سلك العولمة، ولو لا خوف أكثرهم من الجماهير لذهبوا كلهم إلى إسرائيل/ حوار 154). إشارتان مهمتان وعلى جانب من الطرافة يمكن تسجيلهما بخصوص كره العلوي للمثقفين العراقيين المستقيلين من مصائب ومشكلات وطنهم وشعبهم: الأولى، هي أنه يذكرهم في صلاته أو ترنيمته الصباحية الموجهة إلى روح، كأغيار. لنقرأ (ها أنا أبدأ يوما جديدا من صراعي ضد الأغيار الأربعة) والأغيار الأربعة كما رتبهم العلوي هم: الحكام والمثقفون، الرأسمالية، الاستعمار!
الإشارة الثانية هي إلى عبارة طريفة وردت في رسالة شخصية منه إلى الصديق غانم حمدون، رئيس التحرير السابق لمجلة ‘الثقافة الجديدة’، نشرها في العدد الخاص برحيل هادي وهذا نصها ‘أصحابنا ـ من سياق الرسالة نفهم أنه يقصد بعض المثقفين اليساريين- يذهبون إلى البلدان الإسكندنافية لا بحثا عن حرية أكثر، فهم أحرار في مكانهم بكل ما يخص الوضع العراقي، إنما بحثا عن معيشة أفضل وراحة أكثر، وتعرف أن أمنية العراقي هي ‘النوم على خرز الظهر’ الثورة الثقافية في الصين كانت تسمي المثقفين العَفَن رقم 9، وقد أخطأت بحق المثقفين الصينيين ولو قالتها بحق مثقفينا لأصابت وأجادت (ص119 الثقافة الجديدة العدد287/1999..)
وقد تلقي الشهادة التالية ضوء تبريريا إضافيا على موقف العلوي: في حوار هاتفي مع الصديق الروائي العراقي محمود سعيد قبل أيام قال لي إنه يقيم في الولايات المتحدة منذ أكثر من عشر سنوات وإنه لم يلتق بأي أمريكي مؤيد لغزو بلاده للعراق. وحين يعرف ـ الأمريكيُّ- أنه عراقي يعامله بنوع من الاعتذار والخجل وكأنه هو من ارتكب تلك الجريمة. محمود سعيد كتب مقالة بهذا المعنى ونشرها في الصحافة العربية فكتب إليه كاتب عراقي معروف آخر يقيم من السويد حيث يقيم الآلاف من العراقيين وأغلبهم من ‘المثقفين’ وحملة الشهادات قائلا: وأنا أقيم منذ سنين هنا في السويد ولم ألتق بعراقي واحد يرفض غزو بلاده من قبل الولايات المتحدة وجيوشها!
ومن شروط تحقق المثقفية الكونية يضيف العلوي الحرمان ويعرفه بقوله ‘الحرمان فرض على أهل العقل حين تعظم ثقافتهم فتبلغ النصاب الذي تجب عنده الضريبة.. والحرمان آية المثقف الكوني لا آية الشاعر، فالأخير في عداد الأغيار مثله مثل الملوك والجلادين والأغنياء والعسكر.
يقترن ‘المثقف الكوني/الأمي’ لدى العلوي بمحموله وهو ما يدعوه بالثقافة المروَّضة. وهو يرفض صيغة ‘المثقف الشعبي’ فالعامة مصطلح القدماء الذي ندعوه اليوم ‘الشعب’ والعامي هو الشعبي ولكن الكلمة الأخيرة ابتُذِلَت على لسان المثقفين والسياسيين ومنهم الحكام. حوار ص132′. مهما يكن رأينا بهذا التبرير فإن المضمون الفكري لهذا الاصطلاح هو ما يهمنا هنا لعلاقته العضوية بما يسميه العلوي ‘التكوين المثقفي الروحي’.
كاتب عراقي
القدس العربي