النظام الدولي والسوريون: أبعد من التفسير التآمري/ وائل مرزا
ما من وصفٍ في اللغة يمكنه تفسير موقف ذلك الشيء الهلامي المُسمى «نظاماً دولياً» مما يجري في سورية منذ أكثر من خمس سنوات. ثمة جنونٌ يتجاوز كل منطق حين ينظر المرء إلى المشهد من أي زاوية. لكن الأمر يتجاوز الجنون نفسَه حين نتذكر وجود اتفاق في ذلك النظام اسمه «مسؤولية الحماية»، وأن عمره يكاد لا يتجاوز العشر سنوات.
«إذا كان التدخل العسكري لحماية حقوق الإنسان تعدياً على السيادة الوطنية للدولة ذات العلاقة، كيف يمكن لنا أن نتعامل مع إمكانات وجود راوندا جديدة أو سريبربنتسا أخرى، حيث يجري انتهاك منظّم ومنهحي لحقوق الإنسان في شكلٍ يتناقض مع كل مبدأ من مبادىء بشريتنا المشتركة؟». كان هذا هو السؤال الذي طرحه كوفي عنان عام 2001 عندما كان أميناً عاماً للأمم المتحدة على أطراف النظام الدولي، وتشكلت للإجابة عنه لجنة خاصة باسم اللجنة العالمية للتدخل العسكري والسيادة الوطنية.
بناءً على نتائج عمل اللجنة، أعلنت الأمم المتحدة عام 2005 مبادرة أسمتها «مسؤولية الحماية»، تتألف من مجموعة مبادىء بُنيت على قاعدة أن السيادة الوطنية ليست حقاً، وإنما هي مسؤولية بالدرجة الأولى. وقد ركّزت المبادرة على محاولة منع حصول أربع جرائم أو وقفها في حال حدوثها، وهي: الإبادة الجماعية، جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية، والتطهير العرقي.
أما المرتكزات الثلاثة الرئيسة لمبدأ الحق في الحماية فوُضعت كالتالي: أولاً، إن كل دولة مسؤولة عن حماية مواطنيها وسكانها من أي مذبحة جماعية. ثانياً، يتحمل المجتمع الدولي عبء مساعدة أي دولة للوفاء بتلك المسؤولية الأساسية. ثالثاً، إذا أخفقت الدولة في حماية مواطنيها من المذابح الجماعية وأخفقت المساعي السلمية، فإن المسؤولية تقع على المجتمع الدولي للتدخل بأساليب قاهرة كالعقوبات الاقتصادية، ويُعتبر التدخل العسكري الملاذ الأخير للتعامل مع الموضوع.
وقد تضمن النص الذي وافقت عليه الدول الـ 191 الأعضاء آنذاك، في القمة العالمية في 2005، أن المسؤولية المذكورة الملقاة على الدول في حماية رعاياها تشمل القيام بكل الإجراءات لمنع حصول الجرائم المذكورة، بما في ذلك التحريض عليها، مع تأكيد الدول على «أننا نقبل تلك المسؤولية وسنعمل بمقتضاها»، إضافةً إلى الإشارة إلى ضرورة إنشاء الأمم المتحدة أدوات إنذار مبكر لمنع حصول مثل تلك الجرائم.
تضمّنَ النص أيضاً استعداد أعضاء الأمم المتحدة «لاتخاذ إجراءات جماعية، بأسرع وقت وفي شكلٍ فعّال، من خلال مجلس الأمن، بما ينسجم مع ميثاق الأمم المتحدة، وفي شكلٍ يتضمن الفصل السابع… إذا أخفقت الأساليب السلمية وأظهرت السلطات الوطنية فشلها في حماية رعاياها من حصول الإبادة الجماعية أو جرائم الحرب أو التطهير العرقي أو الجرائم ضد الإنسانية».
وفي 9 آب (أغسطس) 2010، أي قبل انطلاق الثورة السورية بأشهر، قدم الأمين العام الحالي للأمم المتحدة بان كي مون، تقريراً للجمعية العامة بعنوان «الإنذار المبكر: التقويم ومسؤولية الحماية» كجزء من متابعة الجمعية لتطبيق هذا المفهوم. في هذا التقرير، سلّط الأمين العام الضوء على آليات التقويم والإنذار المبكر الموجودة في نظام الأمم المتحدة بهذا الخصوص، وتحدث عن بعض النواقص، ثم تقدم بمقترحات لتحسين قدرة الهيئة الدولية لاستعمال معلومات الإنذار المبكر في شكلٍ فعال، بما يتضمن تقارير من ضباط المواقع الميدانيين، وصولاً إلى تطوير آليات استجابة مبكرة ومرنة ومتوازنة في أي حالة يبدو فيها خطر حصول واحدةٍ من الجرائم المذكورة.
بعد مضي أكثر من خمسة أعوام على انطلاق الثورة السورية، وعلى رغم كل ما شهده ويشهده العالم من ممارساتٍ للنظام السوري يمكن تصنيفها ضمن أنواع الجرائم المذكورة في مبادرة «مسؤولية الحماية»، لا تبدو أجهزة ووسائل الإنذار المبكر الأممية، حتى الآن، في وارد القدرة على التقاط الإشارات المطلوبة التي يجب أن «تُشغّل» نظام الردّ والاستجابة! أما «المساعي السلمية» فالواضح أنها لم تُستنفد، وبالتالي، يبدو جلياً أن «الملاذ الأخير» بعيد المنال.
نعم. سقط النظام السوري عملياً بالنسبة إلى الجميع. لكنّ ثمة اتفاقاً ضمنياً على إطالة فترة الانهيار لحين الوصول إلى تصورٍ يحقق مصالح جميع أطراف ذلك النظام. وبما أن حصول هذا أقرب للمستحيل في واقع السياسة ومنطقها، فإن التفكير بتلك الطريقة يعني أن يمتدّ الانتظار طويلاً، وربما طويلاً جداً، إذا تُرك الأمر لتلك الأطراف.
من هنا، يصبح مفهوماً لديها تمرير ظاهرةٍ غير مسبوقة في حياة البشرية، تتمثل في كل الممارسات الوحشية التي تمارسها قوات النظام السوري، مع سلاح الجو الروسي والميليشيات الإيرانية واللبنانية والعراقية، تجاه الشعب السوري على مرأى ومسمع من العالم.
فلأن المصالح العالمية لم تصل إلى اتفاق، يصبح التغاضي عما يجري في سورية ممكناً في عصر «مسؤولية الحماية» الأممية. سيكون وصف ما يجري بـ «النفاق» تقزيماً للحقيقة في هذا المقام. فما يجري حقاً نوع من تلك الدروس الوحشية الباردة الوقحة التي يحاول النظام الدولي الحالي تلقينها للشعوب الأقل قوةً في هذا العالم.
لا صوت يعلو فوق صوت المصلحة بالنسبة إلى النظام الدولي السائد. وما على الشعوب التي تريد أن تصنع شيئاً من حاضرها ومستقبلها، كما هو الحال مع الشعب السوري، إلا أن تكون جاهزةً للتعامل مع هذه الحقيقة القاسية. لا مجال هنا للأمنيات والأوهام، ولا يملك السوريون رفاهية البناء على الشعارات التي يبيعها النظام العالمي بأبخس الأثمان في سوق نخاسة العلاقات الدولية.
المضحك المبكي أن سعادة الأمين العام قدم في 5 أيلول (سبتمبر) 2012، تقريراً من سلسلة تقاريره للجمعية العامة عن الموضوع، وكان هذه المرة بعنوان «مسؤولية الحماية: استجابة سريعة وحاسمة»! تحدّثَ فيها عن أمثلةٍ لأساليب تلك الاستجابة السريعة والحاسمة. تذكرون على ماذا؟ على الجرائم ضد البشرية والتي ترتكبها بعض الأنظمة ضد مواطنيها!
هذا أبعدُ بكثير من أي تفسير للأحداث يلجأ عادةً لمنطق المؤامرة. فهذه الأخيرة تبقى محكومةً بدرجةٍ من العقلانية الضرورية لضمان ألا تفلت الأمور من كل سيطرة.
يبقى، فقط، كتفسير، أن ما يجري جزءٌ من التخبط الحقيقي الذي يتلبس واقع الإنسانية اليوم، وفي القلب منه النــظام الدولي، ويسمح بمشهدٍ عالمي تطغى عليه مهازل تخالف قوانين الاجتماع البشري. وليس مُستبعداً أن تغدو المهازل تلك، مسامير تهزّ أركانه بعد فشله الفاضح في التعامل مع أزمات إنسانية، يغلبُ أنه كان هو نفسه سببها ابتداءً. وإذ يُصبح مواطنوه قبل غيرهم شهوداً على الفشل المذكور ومادةً لنتائجه العملية، فلا مجازفةً في الحديث عن حدثٍ كونيٍ مقبلٍ ممكن، يدخل، مهما كانت ملامحه، في إطار فوضى كبيرة وشاملة منفلتة من كل عِقال.
* كاتب سوري
الحياة