النظام السوري والإعلام اليهودي
صبحي حديدي
قبل أسابيع قليلة استقرّ بشار الأسد على أندرو غليغان، الصحافي البريطاني المعروف بانحيازه المطلق لإسرائيل، ليكون أوّل صحافي غربي يجري معه حواراً مباشراً منذ انطلاقة الانتفاضة السورية، أواسط أذار (مارس الماضي)؛ كما اختار، بالتالي، صحيفة هي الـ’صنداي تلغراف’ التي تُعدّ، إسوة بقرينتها الأمّ، الـ’دايلي تلغراف’، منبراً مكرّساً للدفاع الأعمى عن إسرائيل والصهيونية العالمية واليمين المحافظ. وبالأمس، شاء الأسد أن تكون برباره والترز، الإعلامية الأمريكية اليهودية، صاحبة الحظّ السعيد في إجراء مقابلة متلفزة هي الأولى من نوعها مع قناة رئيسية غربية، الـ ABC، منذ تسعة أشهر. وكلا المقابلتين اكتسبت خصوصيتها، وانتشارها الواسع، من تضافر عاملين: أنّ الجهة التي أجرتها كانت نافذة إعلامياً وسياسياً، وأنّ الأسد زوّد محاوره ومحاورته بمادّة دراماتيكية شدّت الانتباه (الحديث، مع غليغان، عن إحراق المنطقة إذا تعرّض نظامه لأذى؛ ونفي مسؤولية الأسد الشخصية عن أعمال القتل التي ترتكبها أجهزة النظام، في الحوار مع والترز).
ولهذا لا يُثار الارتياب في اختيار والترز وغليغان، تحديداً، إلا لأنّ حصيلة المقابلتين كانت واحدة تقريباً، أي تبييض صفحة النظام والترويج لروايته عن ‘العصابات المسلحة’ و’المندسين’، فضلاً عن تلميع شخص الأسد وإعادة إنتاجه كسياسي شرق ـ أوسطي ‘عصري’، ‘منفتح’، ‘درس في الغرب’، و’يتقن اللغة الإنكليزية’ و’متزوج من سيدة تربّت في الغرب’؛ وأنّ العاصمة السورية ‘آمنة’ و’مسالمة’ و’خالية من التظاهرات’، حتى أنّ والترز صرّحت بأنها تجوّلت في دمشق دون حارس شخصي، وأنها ‘لم تشعر في حياتها بالأمان كما شعرت به وهي تتسكع لوحدها في طرقات دمشق! وتلك حصيلة في وسع المرء أن يتفهمها من إعلام إيراني أو صيني أو روسي، ولكن أن تأتي من إعلاميين يهود أو أصدقاء خلّص لإسرائيل، أمر يدعو إلى ترجيح دوافع أخرى أبعد غرضاً من مجرّد تحقيق السبق المهني.
وكما في كلّ مرّة تشهد مساندة إسرائيلية للنظام السوري، والأمثلة هنا كثيرة وجلية ولا تقبل التشكيك، تقفز إلى الذهن عوامل عديدة تديم قصة الغرام العجيبة تلك، بين بلدين يُفترض أنهما في حالة حرب رسمية ومعلنة، حتى إذا كانت لا تُخاض إلا في مستوى الألفاظ. بين أولى العوامل أنّ إسرائيل ما تزال ترى في النظام السوري صيغة مثلى للحفاظ على حال اللاحرب التي تسود في هضبة الجولان المحتلة منذ 1973، وهذا التفضيل لا يشمل الاعتبارات العسكرية وحدها، بل تلك السياسية والاقتصادية أيضاً. ومن المنطقي أن يكون نقيض النظام، أي دولة الحقّ والقانون والديمقراطية والمنعة الوطنية، وكلّ ما تنطوي عليه أهداف الانتفاضة الشعبية، بمثابة انتكاسة قصوى للصيغة المثلى، وتقويض لمبدأ التعايش الهادىء والسلام الفعلي على الأرض.
كذلك لا تنسى إسرائيل لائحة الأدوار التي لعبها النظام السوري على مدى 41 سنة من حكم آل الأسد، واستهدفت صالح النظام ومنجاته في المقام الأول بالطبع؛ ولكنها، في المقام الثاني، كانت تسدي خدمات كبرى لمصالح إسرائيل، جلّها ارتدى صفة ستراتيجية بعيدة الأثر، وليست تكتيكية عابرة فحسب. تلك الأدوار شهدتها الساحة اللبنانية، واللبنانية ـ الفلسطينية، والفلسطينية ـ الفلسطينية، فلم تسفر عن تسديد ضربات موجعة لأعداء إسرائيل في صفوف الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، فحسب؛ بل ساعدت كذلك في ترقية نموذج ‘حزب الله’ إلى مستوى الفزّاعة الرهيبة التي تستوجب على الولايات المتحدة، ثمّ الحلف الأطلسي، تزويد إسرائيل بأحدث الأسلحة (الرادعة، ولكن الهجومية أيضاً، بالطبع)، والسخاء أكثر فأكثر في تقديم المساعدات المالية وتوفير الرعاية الاقتصادية.
غير أنّ النموذج الإعلامي الأخطر في تمثيل قصة الغرام بين النظام السوري وإسرائيل، ليس ذاك الذي تقترحه والترز، وقبلها غليغان، وآخرون سواهما، بل ما اقترحه ويواصل اقتراحه الكاتب الأمريكي ـ اليهودي الشهير دانييل بايبس. هذا، للتذكير، رجل كاره للعرب، وقبلهم المسلمين، بامتياز فريد يُحسب له وحده حقاً، ليس لأنه رافع شعارات استيهامية أو عنصرية، سياسية وفكرية وتاريخية فقط؛ بل كذلك، وجوهرياً، لأنّ بايبس أشدّ صهيونية من تيودور هرتزل نفسه ربما، وأكثر إسرائيلية من بنيامين نتنياهو، حتى قيل إنه آخر الليكوديين على الأرض. ذكاء الرجل، وخطورة مقاربته، فضلاً عن خبثها الدفين بالطبع، أنه لا يقع في السخف الذي يكرره أمثال والترز وغليغان (في امتداح صفات الأسد ‘العصرية’، خصوصاً)، بل يذهب مباشرة إلى ما هو أبعد أثراً وأذى: أنّ وجود النظام ضمانة لعدم انجراف سورية إلى الحرب الأهلية، وإلى ‘الصرع السنّي ـ العلوي’ حسب توصيفه.
ونصيب الانتفاضة السورية من تحليلاته هو ذات النصيب الذي يمحضه لانتفاضات تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، إذْ ينتهي إلى ربط مصائر الشعوب المنتفضة بمعادلات جيو ـ سياسية إقليمية أو دولية، مثل ‘الحرب الباردة الشرق ـ أوسطية’، أو ‘الشطرنج الإقليمي’، أو التنافس الفارسي (الإيراني) ـ العثماني (التركي)…ولكنه لا يرى، مرّة واحدة، أنّ إرادة الشعوب، وتطلعها إلى الحرّية والكرامة والديمقراطية، وثورتها على أنظمة مستبدة فاسدة وراثية وعائلية، يمكن أن تكون عوامل تحريك أولى، بل الأكبر، في انطلاق تلك الانتفاضات (التي يحصرها، في كلّ حال، بين ‘التمرّد’ و’العصيان’، وليس الإنتفاضة أو الثورة). خصوصيتنا، نحن السوريين، أننا في نظره لسنا دعاة إصلاح وطلاّب مستقبل أفضل، بل ضحايا ‘هوّة لا تُجسر’ بين الطائفتين، السنّة والعلويين؛ وشارعنا السياسي ليس معارضاً، بل هو ضحية الاقتتال الطائفي!
هذه أذكى بكثير، وأشدّ خبثاً مرّة أخرى، من تلك الحماقات التي تسردها والترز، التي أسعدها ذلك ‘الغداء الطويل’ مع الأسد وقرينته؛ أو تلك التي يحكيها غليغان، المندهش من أنّ مقرّ إقامة الاسد لا يحرسه إلا ‘عسكري إنكشاري’ واحد! ذلك لأنّ ما يقوله بايبس هو التالي، في خلاصة الرسالة المبطنة: هذا دكتاتور، بالفعل؛ يداه مضرّجتان بدماء السوريين، لا ريب؛ وهو، وأفراد عائلته من أبناء عمومة وخؤولة، يحكمون سورية بالحديد والنار، وينهبون خيراتها، لا خلاف على هذا؛ ولا شك، أيضاً، في أنه حليف لإيران، وهو ممرّ السلاح إلى ‘حزب الله’… كلّ هذا صحيح، ولكن تخيّلوا لحظة واحدة أنّ هذا النظام سقط غداً أو بعد غد؟ فكّروا في عواقب الحرب الأهلية (وبايبس، هنا، لا يفكّر في السوريين بقدر اهتمامه بنصيب إسرائيل من العواقب)، خاصة حين يكون التشدد الإسلامي هو البديل. ألا ترون نتائج الانتخابات في تونس ومصر، ثمّ المغرب، وقريباً ليبيا، واليمن؟
وفي أحدث تعليقاته على الانتفاضة السورية (وما أكثرها، في موقعه الشخصي) يكتب بايبس أنه يعمل على الملف السوري منذ سنة 1985، وظلّ على الدوام مقتنعاً بأنّ الانقسام السنّي ـ العلوي هو جوهر السياسة في البلد. وفي دراسته ‘إحكام القبضة العلوية على السلطة في سورية’، 1989، أوضح كيف تمكنت جماعة صغيرة وضعيفة تاريخياً من بلوغ الذروة؛ كما بيّن في دراسة ثانية، عنوانها ‘سورية بعد الأسد’، 1987، أنّ الانقسام الإثني، هذه المرّة، آت إلى سورية لا محالة. بيد أنه لا يقول إنّ ذلك الانقسام لم يقع، حتى الساعة في الواقع، بعد مرور 24 سنة على نبوءاته المشؤومة، من جهة؛ كما يتجاهل أنّ 13 سنة انقضت بعد أن تنبأ برحيل الأسد (استناداً إلى المعلومات عن مرضه، آنذاك)، ظلّ فيها الأخير حياً يرزق، بل نجح في تجاوز عثرة وفاة نجله باسل، وريثه الأوّل، وامتلك الوقت لتوريث نجله الثاني، بشار!
وفي أواخر تموز (يوليو) الماضي، حين اكتُشفت في مدينة حمص جثث ثلاثة مواطنين من أبناء الطائفة العلوية، كتب بايبس تعليقاً على الحادثة، يكاد يصرخ: ألم أقل لكم؟ ها هي الشرارة التي ستشعل الحرب الأهلية! وحين لم تستعر أي نار، وانطفأت الشرارة على الفور، أخلد بايبس إلى الصمت مجدداً، قبل أن يكسره مع إعلان تشكيل ‘الجيش السوري الحرّ’، فكتب يقول ما معناه: أليس هذا العقيد، رياض الأسعد، هو قائد الحرب الأهلية؟ ولأنّ الأسعد لم يكتسب هذه الصفة حتى الساعة، فقد عاد بايبس إلى إلى حمص مجدداً، متكئاً هذه المرّة على تقرير صحافي نشرته ‘نيويورك تايمز’، مطلع تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، يسير عنوانه على ما يشتهي صاحبنا تماماً: ‘مدينة كبرى في سورية تتعالى فيها نبرة الحرب الأهلية’. آخر اكتشافاته في هذا المضمار كان تحليله لتصريح للعقيد الأسعد، يقرّ فيه بأنّ الغالبية الساحقة من أفراد ‘الجيش السوري الحرّ’ هم من… السنةّ!
ولا يخفى أنّ تحليلات مثل هذه تستخدم معلومة صحيحة، لكنها تتكىء على دلالات ليست كامنة فيها بالضرورة لكي تقفز إلى نتائج خاطئة، أو مطلقة، بينها دنوّ الحرب الأهلية مثلاً. صحيح أنّ الكثير من المعلومات يمكن أن يفضي إلى هذا المستوى أو ذاك من تلمّس أخطار مواجهات ذات طابع طائفي، إلا أنّ تلك المواجهات تظلّ فردية محدودة النطاق، يرتكبها أفراد في سياقات احتقان محددة، ولا تنخرط فيها طوائف، أو حتى شرائح متجانسة سياسياً واجتماعياً، من طائفة أو أخرى. وعلى سبيل المثال النقيض، إذا كانت الغالبية الساحقة من منتسبي الفرقة الرابعة، ضباطاً وأفراداً، هم من أبناء الطائفة العلوية؛ فهل يعني هذا أنّ الفرقة تخوض حروبها ضدّ المدن والبلدات والقرى السورية دفاعاً عن الطائفة العلوية؟ كلا، بالطبع، لأنها إنما تدافع عن بقاء النظام ذاته، وهو متعدد الطوائف بالضرورة، عند مصالحه العليا تتكامل وتلتقي مصالح أطرافه جمعاء.
ولا يخفى، كذلك، أنّ بايبس ليس الوحيد الذي يهجس باحتمالات الحرب الأهلية، إذْ أنّ مناقشة الأمر على نحو رصين وموضوعي ليست أمراً محرّماً، ولعلّها صارت أكثر ضرورة من ذي قبل، مع اشتداد انكباب النظام على منهجة الأعمال الكفيلة بتسعير الاحتقانات الطائفية. بيد أنّ بايبس لا يلهج بهذا السيناريو منذ ربع قرن ونيف، ولا يواصل التنبؤ بوقوعه حتماً، بين ليلة وضحاها، وليس بين شهر وآخر، فحسب؛ بل هو أخبث مَنْ يطرح الكابوس الكارثي في صيغة تطهيرية وتحذيرية في آن، معادلتها بسيطة بقدر قباحتها: دعوا هذا النظام على قيد الحياة، فهو الضامن لكم ـ في الغرب عموماً، وفي الشرق أيضاً، ولكن في إسرائيل أوّلاً ـ من شرور انقسام سورية إلى طوائف وشيع ودويلات!
وإذا جاز أنّ النظام السوري يعيش قصة غرام عجيبة مع بعض الإعلاميين اليهود، وبالذات في هذه الأيام حين صارت نهايته على مرمى البصر، فإنّ دانييل بايبس يختلف عن برباره والترز وأندرو غليغان في أنّ غرامه ليس الأعجب فقط، بل هو اللدود الألدّ أيضاً!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس