النظام السوري وصناعة «إشكالية التدخل العسكري»
بشير هلال *
على عتبة نهاية شهرها العاشر، تُلصَق «مسألة» التدخل الأجنبي بالانتفاضة السورية كما لو أنها على رأس المسائل الإشكالية التي يتوجَّب عليها مواجهتها. حتى أن بعضهم لا يزال، عن حسن نية أو عن سوئها في الغالب، يعتبرها الخط الفاصل في مقاربة الحدث السوري.
وقد كانت مناسبة توقيع مسودَّة «اتفاق» بين «هيئة التنسيق» ووفدٍ من المجلس الوطني السوري، والسجال الحاد والمتعدد الطرف الذي جرى حول تسريب الأولى لها قبل عرضها على هيئات المجلس، الذي اتخذ مكتبه التنفيذي قراراً برفضها وإعداد مشروع بديل، كفيلان بإظهار الموقع الذي تحتله هذه المسألة، أو يُراد لها أن تحتله في النقاش العام. وبصرف النظر عن تناقضاتٍ محتملة مع بندها الثاني، الذي ينص على «حماية المدنيين بكل الوسائل المشروعة في إطار القانون الدولي لحقوق الإنسان» كرسَّت المسوَّدة بندها الأول لرفض أي تدخل عسكري أجنبي «يمس بسيادة البلاد واستقلالها».
والحال أن فرض «إشكالية التدخل الأجنبي» كعنوانٍ للنقاش العام، أمرٌ تولاّه النظام السوري بصورة مبكرة بُعَيْد اتضاح أمورٍ ثلاثة:
الاول، اتساع الانتفاضة وازدياد وتائر تحركها رغم القمع الدامي، ما أشار إلى صدورها عن موجة عميقة غير قابلة للاحتواء بالأشكال التقليدية التي اعتادها النظام.
الثاني، فشل الدفعة الأيديولوجية-الإعلامية الأولى التي حاولت نزع الشرعية الشعبية عن الانتفاضة بتنظيم شارع موازٍ وتقديم عروض إصلاح تجميلي واتهامها في الآن نفسه بالاندراج في سياق مؤامرة دولية يتغيّر جدول الدول المزعوم مشاركتها فيها بنسبة إدانتها للقمع وتجريمه.
الثالث، انكشاف عدم قدرة النظام على إنتاج محورٍ رئيس لسياسته في مواجهة الانتفاضة خارج الخيار الأمني، وما رتبه ذلك من ميلٍ إلى تبريز الاستعداد لتصعيد القمع ودرجته، بإكسابهما مظاهر أكثر دموية وشمولاً، بأمل إبعاد المترددين عن الحراك وخنقه تدريجاً، عبر القتل العشوائي والاعتقالات الجماعية في أكثر مدنه وحواضره انخراطاً، منعاً لسيطرته على الساحات والفضاء العام بالتواقت مع استهداف منظِّميه، ومع مساعي تقسيم المعارضة بين داخلية وخارجية، ووطنية وغير وطنية، وتسفيه شعاراتها ومصداقيتها.
لكن السلطة، التي اعتقدت أنها تستطيع تصعيد الخيار الأمني وسط دخان اقتراحات الحوار العقيمة، مُتوقعةً في ذلك ردود الفعل المتواطئة للجيران والمحدودة للغرب، أخذت تكتشف وتستبطن أن درجة احتمال الأخير انخفضت بشكلٍ مفتوح بعد دروس الموجة الاولى من الانتفاضات العربية ونتائجها، وقراره الانخراط في ليبيا ودلالته كبحثٍ عن استراتيجية جديدة في المنطقة للتلاؤم مع سياق «الربيع العربي» وما يفرضه الحضور المتزايد لرأي عام عربي وعالمي ساهم بتشكيله شيوع وسائل التواصل الجديدة والتعاطف مع قيم الكرامة والحرية والمساواة.
ولكن عجزها عن تجسيد اكتشافها وجود حدود منخفضة للقمع باقتراح تسوية سياسية، دفع السلطة إلى الإصرار على الخيار الأمني الذي ضربت المواعيد بعد المواعيد لإنجاز هدفه بتصفية الانتفاضة، ولا زالت، دونما طائل، مما وضعها عملياً ومنذ أشهر في وضعية العاجزعن التصفية، والعاجز عن الحل وغير المقبول في عداده أصلاً وفقاً للحراك الشعبي. وهو وضعٌ دفع تركيا ودول خليجية وغربية أساسية إلى اعتبار النظام عنصر عدم استقرار إقليمي مرتفع الكلفة وفك تعاقداتها المنصرمة معه والمبنية على تعايش حذِر وتحديد سقفٍ لعلاقته بإيران. ما دفعه إلى تتويج التدخل العسكري على رأس ترسانة التضليل الاعلامي إلى جانب «المؤامرة» و «العصابات المسلحة».
وبالمقابل، فإن الانتفاضة التي واجهت قمعاً دامياً متدرجاً بصمود منقطع النظير، وكانت بهذا المعنى إعلاناً بالقطع مع الخوف الجماعي المُكبِّل، كانت ولا تزال مضطرة إلى مواجهة اللاتكافؤ في نسبة القوة العارية مع النظام وتعطيل سيطرته التي لا تقتل وتجرح وتعتقل المتظاهرين وعوائلهم فحسب، بل تعوق مشاركة آخرين ذوي مصلحة، وتمنع انفكاك الدولة بما يتواجد ويتراتب من مؤسساتها، عن النظام. كما كان عليها في هذا السياق أن تبحث عن كيفية تعطيل جاذبياته الناجمة عن استحواذه على المال العام والتشريع والوظائف والرشى الجمعية والفردية. كان تأخر حدوث الانتفاضة نفسه يعود في قسم منه الى المفاضلة اللاأخلاقية التي فرضها لعقودٍ خلت بين القبول بالتهميش والإفقار وبين مواجهة الآلة القمعية-السياسية الشمولية وسيطرتها.
وبالتالي، فأمام تحول الانتفاضة إلى نشاطٍ يومي وسقوط آلاف القتلى والجرحى واعتقال اكثر من مئة ألف مواطن واحتلال المدن وميادينها وبدء عمليات التدمير الممنهج وازدياد محاولات النظام بصورة أساسية لاستثارة ردود أفعال أهلية عبر طرائق وأدوات وخطابات القوى التي يستخدمها، بدا شعارُ حماية المدنيين إحراجاً رباعياً : للنظام بأفق تنظيم تنافس متكافئ معه، وللدول العربية التي يصمت معظمها، وللعالم وللهيئات الأممية.
وهو شعار وضعه النظام فوراً في خانة طلب التدخل العسكري رغم الفارق بينهما لخضوع الأول لقرار الهيئات الأممية وضغوطها غيرالعسكرية بصورة أولية وتلاؤمه مع المفاهيم الحديثة في القانون الدولي عن «واجب الحماية»، فيما يحيل الثاني إلى صور الاستعمار والقطبية الأحادية. ومما يلفت النظر أن هذا الادغام وجد صدى لدى قسمٍ من المعارضة التقليدية (هيئة التنسيق خلال حزيران/ يونيو) الذي وضع «لا للتدخل الأجنبي» على رأس لاءاته الثلاث، في حين كان حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديموقراطي الذي يرأسه الاستاذ حسن عبد العظيم مُنسق الهيئة، يدعو قبل أشهر وبمناسبة الانتفاضة الليبية «المجتمع الدولي والنظام العربي لاتخاذ الإجراءات الفورية لوقف المجازر الدموية وجرائم الإبادة الإنسانية التي يمارسها نظام الطغيان والفساد».
وبهذا المعنى، يفقد أيَّ معنى اتهامُ المجلس الوطني بالتحضير للتدخل الدولي لمطالبته بحماية المدنيين، فيما يسود صمتٌ تركي وحذرٌ غربي ومطالبةٌ أقصاها فرنسي بممرات إنسانية، بينما تتابع روسيا تدخلها بالفيتو واستعراضات القوة، وإيران
بالمال والتكنولوجيا والسلاح والاتصالات بقسمٍ من المعارضة لإغرائها بمساومات تبقي النظام فيما يمتنع عن تنفيذ المبادرة العربية ويعرقل عمل مراقبيها، فتبدو بذلك «إشكالية التدخل العسكري» على حقيقتها كأداة لفرط المعارضة ومحاربة شرائحها الأكثر جذرية ولمقاومة كل توجهٍ دولي إلى تكبيل أدوات حرب نظام يائس على الشعب.
* كاتب لبناني
الحياة